سيرة من اهتز له عرش الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم

]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ[.

إخوة الإيمان والعقيدة .. لقد حدا بنا الشوق ليكون الحديث اليوم عن رجلٍ عظيم حوى لؤلؤة السيادة، وتملّك زمام القيادة، بهر الناس بشجاعته، وبزَّهم ببيانه، وفاقهم برأيه وحكمته. لقد كان من أعظم الناس جَنانا، وأقومهم سلطانًا، وأصدقهم هدى وإيمانا. كان من جيل القرآن الذين تربَّوا على مأدبته، ينهلون بلا ارتواء، ويعملون بلا انقضاء، ويمضون على اهتداء.

رفع الإسلام من بطولته، وأعلا من كلمته، وزاد من فضله وقيمته. لم يكن ليسعد بلا إيمان، ولا ليعزّ بلا قرآن، فسارع مع المسارعين، وجانب طرائق المخالفين، بل ما إن غمرته السعادة واحتواه الإيمان إلا وقام ينفض غبار الوثنية ويجعل النخوة الجاهلية نخوةً إسلامية، تقيم الحق، وتزهق الباطل، وتصلح الخلل والاعوجاج. فهو في أول أيامه داعية صدّاح وخطيب مفوه، يصبّ الكلمات صبًا، وينشرها أريجًا وحُبا. نادى في قومه أن لا عزّ إلا بالإسلام، ولا حياة إلا بالإيمان، فقال لهم ووجهه مشرق بالإيمان والسعادة: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة، قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. لقد شقَّت هذه الكلمات دياجير الظلمات، وأعادت في المدينة البسمة بعد التعاسة والنكبات، فما أمسى فيهم رجلٌ ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة سوى رجل واحد.

من هذا الرجل – يا عباد الله؟ ذلكم الرجل هو سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، السيد الكبير والبطل الشهير الذي عقد له المسلمون ولاء المحبة والرضا، وصار وداده شعار أهل الإيمان ومنابذته شعار أهل النفاق من حين سمعوا حديث النبي ﷺ "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغضُ الأنصار) وأن النبي ﷺ قال "لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم" وقال للأنصار "أنتم من أحب الناس إليَّ" وقال أيضًا ﷺ "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" ذلك الرعيل المؤمن أخرج لنا سعد بن معاذ، الأمير القائد، والبطل المجاهد، عدوُّ اليهود، فلنستمع لشيء من أخباره، ولْنجْنِ من أزهاره وأعطاره.

في غزوة بدر الكبرى عقد النبي ﷺ مجلسًا عسكريًا استشاريًا لملاقاة المشركين وصد عدوانهم خارج المدينة، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر وقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فتكلم وأحسن، فقال النبي ﷺ بعد سماع هؤلاء القادة الثلاثة "أشيروا عليَّ أيها الناس" ففطِن قائد الأنصار سعد بن معاذ t لِما أراد رسول الله ﷺ فقال: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال "أجل" فقال سعد t: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصِل حَبْل من شئت، واقطع حَبْل من شئت، وخُذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذتَ منّا كان أحبَّ إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمرٍ فأمرُنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البِركَ من غِمدان لنسيرنَّ معك، والله لئن استعرضتَ بنا هذا البحر فخُضتَه لخضناه معك، فسُرَّ رسول الله ﷺ لقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم".

لقد وثّق سعد بهذه الكلمات البيعة الصادقة، وزاد من تأكيدها، مقرِّرًا خوض المعركة بالأنفس الباسلة التي تجتاح جموع الشرك في أشد الظروف والأوقات، إنها شعار الإقدام والبسالة وعنوان التضحية والجسارة.

وفي يوم الخندق وقت آخر شديد وساعة نكباء مدلهمة كما قال تعالى ]وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا[ في يوم الخندق إذ يشتد الخطب وتضطرب الأنفس وتُطوَّق المدينة يحاول النبي ﷺ التماس حلٍ للمسلمين، يفك به الحصار، ويزعزع به اجتماع الأحزاب الكافرة، فيعمد ﷺ إلى سيِّدَي غطفان ليصالحهم على ثلث ثمار المدينة ويرجعوا بجيشهم، فاستشار السعدين في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعًا طاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرى ـ أي: ضيافة ـ أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف، فصوَّب ﷺ رأيهما، وقال "إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة".

لقد طغت قوة الإيمان على الحسابات العسكرية والخطط الإستراتيجية التي إذا بولغ فيها زعزعت العقيدة وأورثت فزعًا واضطرابًا وجُبنا وانكسارا.

فهذه الكلمات العظام شعّت باليقين الراسخ الذي هدهدَ غطرسة الشرك، وفلَّ جموع الباطل، وأحيا مادة النصر، ورفرف بيارق العز والسعادة ]وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 
 
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.

معاشر المؤمنين .. وفي ساعة أخرى شديدة إذ تدنو سهام الموت ويتسع البلاء بسعدٍ t حيث يُصاب بسهم في الخندق، يصُدّ تقدمه، ويوقف جهاده وإصراره، لكنه لا يفقد الأمل، ولا يتذرع بالوجع، بل يصنع الطموح في وقت الجراح، ويولِّد العزيمة أثناء الكروب والشدائد. قال سعد t بعدما أُصيب: اللهم إن كنتَ أبقيتَ من حرب قريشٍ شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قومَ أحبّ إليَّ من أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيّك وكذبوه وأخرجوه. اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تُمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة.

بالله عليكم -يا مسلمون: من يجود بمثل تلك الكلمات في موطن البلاء والسقم، أو يعالج في نفسه حب الدعة والارتياح وتشتاق نفسه لميادين الرهب والخوف؟! إنه القلب المؤمن الذي أشرق بالقرآن، وامتلأ بالإيمان، ونُقِّي من حب الدنيا وكراهية الموت. إنه قلب سعد الذي لم يُقم للدنيا وزنًا، ولم يرفع بها رأسًا، ولم يهبها عقلاً ولا بالاً. صانه الله أن يكون من عبيد الدنيا، وحفظه من مفاتنها وألاعيبها، فبات طالبًا للآخرة، ساعيًا للشهادة، راغبًا فيما عند الله، وصدق الله ]إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ[.

لقد مات سعد t من أثر السهم، إذ انفجر جُرحه بعدما حكم في بني قريظة بحكم الله تعالى. نعم، مات جسده في عام الخندق، ولم تمت أخباره البهية ولا آثاره المرضية، لقد مات مفارقًا الدنيا، تاركًا مبادئَ رواها وأخلاقًا أحياها ومُثُلاً أسسها وبناها.

لقد أبقى لنا سعد تراثَ البطولة الصادقة والتضحية الجبارة التي تعيش لتسمو بالإسلام، وخلَّف سعدٌ لنا عقيدة الإيمان بالله التي لا تخشى النكبات.

مات سعدٌ t، فقال ﷺ "هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة" قال ﷺ "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" أي تحرك فرحاً وسروراً بنقلته من دار الفناء إلى دار البقاء؛ لأن أرواح الشهداء مستقرها تحت العرش، تأوي إلى قناديل هناك.

قال ﷺ "إن للقبر ضغطة ولو كان أحد ناجياً منها، نجا منها سعد بن معاذ" هذه نبذه مختصرة عن هذا الصحابي الجليل، بل هو قطرة من بحر، وغيض من فيض، وإلا فإن هذا الرجل سيرته مليئة بالأحداث والمواقف الشريفة.

نسأل الله أن يوفقنا للتمسك بكتاب الله، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – كما تمسك بهما الرعيل الأول من الصحابة والتابعين،

رضي الله عن سعد والصحابة الكرام الذين هم كما وصفهم الله تعالى ]رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً[ اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته
 

المرفقات

1715325744_سعد بن معاذ.pdf

1715325751_سعد بن معاذ.docx

المشاهدات 649 | التعليقات 0