سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (5) أخلاقه ومنهجه ووفاته. (وهي آخر خطبة عنه) 16/7/1438

أحمد بن ناصر الطيار
1438/07/16 - 2017/04/13 02:59AM
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على جميع الأديان, وأيده بالآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة ومن أعظمها القرآن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين, وإله الأولين والآخرين, الذي أفاض على خلقه النعمة, وكتب على نفسه الرحمة, وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, وأمينه على وحيه, وخيرته من خلقه, وسفيره بينه وبين عباده.
صلى الله وملائكتُه وأنبياؤُه ورسلُه والصالحون من خلقه عليه , كما عرفنا بالله وأسمائه وصفاته ووحده ودعا إليه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنّ هذه الجمعة هي آخر جمعة نتحدث فيها عن شيخ الإسلام رحمه الله, وليس هذا كثيرًا على هذا الإمام الكبير, فهذا أقل حقّه علينا.
معاشر المسلمين: كان هذا الإمام آيةً في التواضُع وهضم النفسِ, وَكَانَ يَقُولُ كَثِيرًا: مَا لِي شَيْءٌ، وَلَا مِنِّي شَيْءٌ، وَلَا فِيَّ شَيْءٌ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:
أَنَا الْمُكَدِّي وَابْنُ الْمُكَدِّي ... وَهَكَذَا كَانَ أَبِي وَجَدِّي
وَكَانَ إِذَا أُثْنِي عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي إِلَى الْآنَ أُجَدِّدُ إِسْلَامِي كُلَّ وَقْتٍ، وَمَا أَسْلَمْتُ بَعْدُ إِسْلَامًا جَيِّدًا.
وكان يقول عن نفسِه:
أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ ... أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي
أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهِيَ ظَالِمَتِي ... وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَاتِي

وشيخُ الإسلامِ رحمه الله تعالى آيةٌ في صفحِه وحِلْمِه وعفوه عن الناس, وتجاوزه عن زلاَّتهم, وعدمِ انتقامِه وانتصاره لنفسه, وعدمِ السعيِ في الانتقام مِن أعدائه وخصومِه.

وكان يقول رحمه الله: إنَّك مَا جَزَيْت مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.ه

ومع كثرة المعادين له والمحرضين عليه من العلماء والقضاة والأمراءِ, إلا أنه أمسك لسانه عن الخوض في أعراضهم, والانتقام لنفسه منهم ولو بالكلام, إلا المبتدعة الداعين لبدعتهم.
ولذلك لا تكاد تجد في كتبه القدح في أيِّ أحدٍ منهم إلا إذا كان لذلك سببٌ يقتضي ذلك؛ كأنْ يفتريَ أحدٌ عليه أو على الدين, فيردّ عليه ويبين خطأه.

فشيخ الإسلام رحمه الله تعالى ليس من حاملي الأحقاد على أحدٍ من المسلمين, وليس من الطعانين فيهم ولو أخطأ مَن اجتهد منهم, ولا يحمل في قلبه الحسد على أقرانه, بل يمدحهم ويُثني عليهم, ويُعرّف الناس على فضائلهم, ويُوقفهم على خصالهم.
فحريٌّ بِمُحبِّيه أنْ يتَّصفوا بصفاتِه, ويتخلَّقوا بأخلاقه.

ومنهج شيخ الإسلام رحمه الله تعالى المطرد, أنه لا يُسمّي ذواتَ المخالفين له تنقُّصًا وقدحًا, عدا المبتدعةَ الداعين لبدعهم, والكفارَ المشركين, والفجارَ الظالمين.
وهذا منهج أهل السنة والجماعة.
وكلُّ هذا لأجل تأليف القلوب, واجتماع الكلمة, التي جاءت الأدلة القطعية في تقريرها والتأكيد عليها.

وهذا بخلاف ما نراه في وقتنا المعاصر, مما يحصل من بعض طلاب العلم, من التحدث في ذواتِ مَن خالفهم, من الدعاة والمشايخ من أهل السنة المجتهدين, والتعرضِ لهم بالتنقّص والذّم, بل هناك من يُحذر منهم, ويكتب المقالات في الحطّ منهم, نعوذ بالله من الخذلان والهوى.

وكان حريصًا كلَّ الحرصِ على جمع الكلمة, واتحاد المسلمين, ويكره التنازع وتنافر القلوب, بل إنه سعى إلى جمع كلمة أهل السنة والأشاعرة, الذين خالفهم كثيرًا, وردّ على الأخطاء العقدية عندهم.

وكان من أشدّ الناس لزومًا لجماعة, وتحذيرًا من الخروج على ولاة الأمر, ومن أحرصهم على التآلف والاجتماع, ومراعاة الحكمة والمصالح, واحتمال الشر خوفًا من شرٍّ أعظم منه.
قال رحمه الله: مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: لُزُومُ الْجَمَاعَةِ, وَتَرْكُ قِتَالِ الْأَئِمَّةِ, وَتَرْكُ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ. ا.ه

والشيخُ قد ابتُلي بظلم السلاطين له, فقد سُجن ما يُقارب سبع مرات, مجموع مُدّتها خمس سنوات, ومع ذلك لا تُوجد له عبارةٌ واحدة في التأليب عليهم, ولا التحريض ضدهم.
وكان أثناء سجنه يُخرج الكثير من الكتب والردود على أهل البدع, ومع ذلك لم يُخرج كتابًا واحدًا, ولا رسالة واحدة فيها مثل ذلك.
فهذا درسٌ للمسلمين جميعًا في أنْ يحلموا ويصبروا على أذى الولاة, وألا يُؤلبوا الناس عليهم, ولكن يُناصحونهم ويتواصلون معهم, أو يتواصلون مع مَنْ يقدر على نصحهم.

وكم يَحزن المسلم الغيور, حينما يرى بعضًا من أهل الخير والصلاح, يغفلون عن الدعاء لولاة الأمر المسلمين, من خلال كتاباتهم أو خطبهم ودروسهم.
وكان شيخ الإسلامِ رحمه الله تعالى يتَّبِعُ الدليلَ الصحيحَ الصريح, والآثارَ الصحيحةَ, وكان يقول: مُتَابَعَةُ الْآثَارِ فِيهَا الِاعْتِدَالُ والائتلاف وَالتَّوَسُّطُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْأُمُورِ. ا.ه
فهو يرى أنّ النصوصَ مقدَّمَةٌ على غيرها, ولو خالفها مَن خالفها, ويرى أنها مستوفيةٌ للأحكام كلها أو جلّها.

وكان يأخذ بالقول الوسط في الفقه والسلوك ونحو ذلك غالبًا.
وكان يُؤكد هذا المعنى بأقواله وأحواله ويقول: دِينُ اللَّهِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ. ا.ه


نسأل الله تعالى أن يُجملنا بمحاسن الأخلاق, وأن يُعيذنا من أسباب العداوة والشقاق, إنه سميع قريب مجيب.



الحمد لله الذي رفع منزلةَ العلماء, والصلاة والسلام على خير الأصفياء والأنبياء, وعلى آلِه وأصحابة الأوفياءِ الأمناء.

أما بعد: إخوة الإيمان: استمر شيخ الإسلام طوال حياته على المنهج النبوي العظيم, وأفنى عمره في نشر الإسلام بلسانه وقلمه ويدِه, حريصًا على جمع الكلمة, ونبذ الفرقة, صابرًا على أذى بعض حكام عصرِه, مع شدة ما لحقه من الأذى منهم, وسجنوه مرارًا, وكان آخر مرة سُجن فيها: سنة ستٍّ وعشرين وسبعمائة, بسبب فتواه المشهورةِ في تحريم شدّ الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين.

وكان قد تجاوز خمسًا وستين عامًا.

وأُوذي هو وجماعةٌ من أصحابه, واختفى آخرون, وعُزِّرَ جماعةٌ ونُودي عليهم, ثم أُطلقوا, سوى الإمام ابن القيم الجوزية, فإنه حبس بالقلعة.

واستمر في سجنه, وأقبل على العبادة والتلاوة والذِّكْر والتهجد.
وقد ختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين ختمة.

وفي ليلة الاثنين, لعشرين من ذي القعدة, من سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة, انتهى في آخر ختمةٍ إلى آخر سورة القمر, {إن المتقين في جنات ونهر, في مقعد صدق عند مليك مقتدر}.
ثم فاضت روحُه إلى باريها.

فلم يفجأ الخلق إلا نعيُه, فاشتد التأسف عليه, وكثر البكاء والحزن, ودخل إليه أقاربه وأصحابه, وازدحم الخلق على باب القلعة والطرقات, وامتلأ جامع دِمَشْقَ وصلوا عليه, وحُمل على الرؤوس رحمه الله ورضي عنه.

وهكذا ملأ شيخ الإسلام حياته بالإيمان ونشر الخير والمعروف, وأشغل نفسه في طاعة الله والذود عن دوينِه, فأشغل الله الأمة بإحياء ذكره, ونشر سيرته وكتبه وأقواله.

فهذا درس لنا جميعًا, بأن نملأ حياتنا في طاعة ربنا, فالأعمار قصيرة, ونهاية آجالنا قريبة, وأنفاسنا معدودة, فمن الحرمان والخسارة أن نضيع أوقاتنا في اللهو واللعب, والنزهات والاستراحات.

رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية, وجمعنا به في دار كرامته, ونفعنا بعلمه وأخلاقه, إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

اللهم يا أكرم مسؤول, ويا خير مأمول, يا من يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء, ويُجازي على المعروف أحسن جزاء, نسألك أنْ تبلغنا منازل الصديقين والشهداء, وأن تعصمنا في هذا الحياة من مضلاتِ الفتن والبلايا, والمحن والرزايا.
اللهم يا فردُ يا صمد, يا واحد يا أحد, أهلك طاغيةَ الشام وجنودَ الأسد, اللهم اجعله وأعوانه يتمنون الموت فلا يجدونه, اللهم أبدل قوَّتهم ضعفا, وغناهم فقرا, وتَجَبُّرَهم ذلًّا, يا عزيز يا عظيم, يا رب العرش الكريم.
اللهم عظُم كرب أهل الشام, وطال انتظارهم, واشْتدَّت كُربتهم, وتكالب الأعداء عليهم, وقد أريتنا في الطغاة حِلمَك, فأرنا فيهم بطشك وقوتك, أريتنا اسْتدراجك وإمهالك, فأرنا فيهم عزَّتك وسخطك, يا كبير يا مُتعال, يا ذا العزة والجلال.


عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى * وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ * يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا * وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
المشاهدات 1258 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا