سيرة العتيق الصديق

الحمد لله الذي بعث نبيه محمداً ﷺ في خير القرون، واختار له من الأصحاب أكمل الناس عقولاً وأقومهم ديناً وأغزرهم علماً وأشجعهم قلوباً، قوماً جاهدوا في الله حق جهاده فأقام الله بهم الدين وأظهرهم على المشركين والكافرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخوة الإيمان والعقيدة ... قال رسول الله ﷺ ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) فقد أجمع المسلمون على أنَّ الصحابة رأسُ الأولياء، وصفوة الأتقياء، قدوةُ المؤمنين، وأسوة المسلمين، وخير عبادِ الله بعدَ الأنبياء والمرسلين، قال عبدالله بن مسعود: إنَّ الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلبَ محمَّد ﷺ خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعدَ قلب محمد ﷺ فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراءَ نبيِّه، يقاتلون على دينه.

وأفضلُ الصَّحابة الخلفاءُ الأربعة، ثم بقيَّة العشرة المبشَّرين بالجنة، خير هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، ثم عمر، وقد قال ﷺ ( اقتَدوا باللَّذَيْنِ مِن بعدي: أبي بكر وعمر ).

عباد الله ... حديثنا عن الصديق .. ذاك رجل لا كالرجال،  يكفيه أنه صاحب رسول الله ﷺ هو: عبدالله بن عثمان بن عامر، أبو بكر الصديق، وكان يُلقَّب بعتيق الله، ثم لُقب بالصدِّيق.

أبو بكر الصديق رجل عظيم القدر، رفيع الشأن، شديد الحياء، كثير الورع، حازم، رحيم، تاجر، كريم، شريف، غني بماله وجاهه وأخلاقه، لم يشرب الخمر في الجاهلية ولا في الإسلام؛ لأنه سليم الفطرة والعقل، ولم يعبد صنمًا قط؛ بل يكثر التبرم منها، ولم يُؤثَر عنه كذبة قط، نصر الرسولَ يوم خذله الناس، وآمن بالرسول يوم كفر به الناس، وصدَّقه يوم كذَّبه الناس، أثنى عليه الله في كتابه ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) شهِد له ربُّ العالمين بالصُّحبة، وبشَّره بالسَّكينة، وحلاَّه بثاني اثنين؛ قال ﷺ ( ما نفعني مالٌ قطُّ ما نفعني مال أبي بكر ) فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: هل أنا ومالي إلاَّ لك يا رسول الله!!

أبو بكر أول مَن أسلم من الرجال، وهو أول مَن يدخل الجنة بعد الأنبياء، ويُدعَى من أبواب الجنة كلها، وكان رسول الله ﷺ يثني عليه دائمًا، ويقول ( لو كنتُ متخذًا خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي ) وأنزل الله في فضائل أبي بكر رضي الله عنه آياتٍ من القرآن.

دعي إلى الإسلام، فما كبا ولا نبا، يقول النبي ﷺ ( ما عرضتُ هذا الأمرَ على أحد، إلا كانت منه كبوة وتردُّد، إلا ما كان من أبي بكر، ما أن عرضت عليه الأمر، حتى صدقني وآمن بي ) سماه النبي ﷺ الصدِّيق.

ليس في الصحابة مَن أسلم أبوه وأمُّه، وأولاده وأولاد أولاده، وأدركوا النبي ﷺ سواه؛ فهم أهل بيت إيمان، ليس فيهم منافق، ولا يعرف هذا لغير بيت أبي بكر، وكان يقال: للإيمان بيوت، وللنفاق بيوت، وبيت أبي بكر من بيوت الإيمان.

عباد الله ... من هذا البيت العامر بالإيمان خرجت عائشة بنت الصديق - رضي الله عنها - وفيه ترعرعت على يد والدها، فقد كان صوَّامًا قوامًا، وإذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، في يوم واحد تبع جنازة، وأطعم مسكينًا، وعاد مريضًا، ةتصدق على مسكين.

أعتق عشرين من الصحابة من ربقة العبودية، الذين كانوا يعذَّبون بأشد أنواع العذاب وأقساه، وأنفق في ذلك أربعين ألف دينار؛ قال له ﷺ ( يا أبا بكر، إن بلالاً يعذَّب في الله ) فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله ﷺ فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلاً من ذهب، فاشتراه فأعتقه، ولرأفته رضي الله عنه كان يُسمى "الأوَّاه".

وحين مرض النبي ﷺ أمره أن   يُصلي بالناس؛ ولذا قال عمر رضي الله عنه: أفلا نرضى لدنيانا مَن رضيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم – لديننا!!

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله ﷺ الناسَ، وقال ( إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبدُ ما عند الله ) فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أنْ يخبر رسول الله ﷺ عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله ﷺ هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلَمَنا.

عباد الله ... حينما تمَّت له البيعة بإجماع من المهاجرين والأنصار، وقف خطيبًا في مسجد رسول الله ﷺ بعد أخْذ البيعة، قال: "أيها الناس، إني قد وُلِّيتُ عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصِّدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى آخذ الحق له - إن شاء الله - والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه - إن شاء الله - لا يَدَع قومٌ الجهادَ في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذُّل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم.

 رضي الله عنك يا أبا بكر .. فقد أتعبت من بعدك من الخلفاء والأمراء والولاة.

أقول ما تسمعون ....

 

 

 

الحمد لله رب العالمين ...

معاشر المؤمنين ... كان لأبي بكر مواقف عظيمة، فقد وقف للرِّدة التي وقعت بعد وفاة الرسول ﷺ موقفًا لا هوادة فيه ولا ليونة، وقال كلمته المشهورة: والله لأقاتلن مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونها إلى رسول الله، لقاتلتُهم على منعها.

وفي عهده فُتِحت فتوحات الشام، وفتوحات العراق، وفي عهده جُمع القرآن.

عباد الله ... لما كان اليوم الذي قُبض فيه أبو بكر رُجَّت المدينة بالبكاء، جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه باكيًّا مسرعًا، وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة.

كان وفاته رضي الله عنه عشية يوم الاثنين فغسلته زوجته أسماء بنت عميسٍ بوصيةٍ منه، وصلى عليه عمر، ودُفن من ليلته في الحجرة مع رسول الله ﷺ فكان جواره في قبره، ورفيقه في حياته ودربه، ومعه في جنة ربه، لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشر للهجرة، وعمره ثلاثٌ وستون سنة كعُمر المصطفى ﷺ رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه خير ما جزى الصديقين الأبرار، والشهداء والصالحين، والصحابة الكرام، وجمعنا به وبهم في جنات النعيم.

عباد الله .. مات أبو بكر رضي الله عنه وما ترك درهمًا ولا دينارًا ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ).

فقد كان أبو بكر رضي الله عنه ورعًا زاهدًا في الدنيا .. رأى طيرًا واقعًا على شجرة، فقال: طوبى لك يا طير، والله لوددتُ أني كنت مثلك تقع على الشجرة، وتأكل من الثمر، ثم تطير، وليس عليك حساب ولا عذاب. فرضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في دار كرامته.

عباد الله ... أعلم بأنني لم أوفِّ أبا بكر حقَّه، فقد أتعب مَن بعده.

إن سيرة الصحابة والاقتداء بهم نهجٌ غفل عنه البعض، وطواه النسيان عند آخرين، ومعرفة سيرتهم وفضائلهم سببٌ لمحبتهم، وتقرب إلى الله بذلك، وقد قال الرسول ﷺ ( المرء مع من أحبَّ ) إن السلف كانوا يُعلِّمون أولادهم حب أبي بكر وعمر، كما يعلمونهم السور من القرآن.

فلازِمِ الصدقَ، وأنفِقِ ابتغاء وجه الله، وأحسِن إلى الخلق، واصبر على الأذى، واقتصر على الكسب الحلال، وتعفف عما في أيدى الناس، وازهد في الحياة.

عباد الله ... صلوا وسلموا ...

المشاهدات 1418 | التعليقات 0