سيد المرسلين وميراث الكراهية - أ. شريف عبد العزيز

الفريق العلمي
1442/05/16 - 2020/12/31 08:06AM

الحضارة الغربية بدلت جلدها عدة مرات عبر التاريخ، من حضارة الإغريق إلى حضارة الإمبراطورية الرومانية إلى ظلام القرون الوسطى إلى حضارة الحروب الصليبية إلى حضارة الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت إلى عصر النهضة الصناعية إلى عصر الحداثة وما بعد الحداثة إلى عصر صدام الحضارات.

 

وخلال كل هذه العصور تغيرت ملامح الحضارة من حيث المحتوى والأيدلوجية والأفكار والآليات والنظريات والديناميكية، تغيرت في كل شيء تقريباً باستثناء أمر واحد اتفقت عليه كل نسخ الحضارة الغربية بتحولاتها العميقة، وهو "عداوة الإسلام".

 

عداوة تاريخية أبدية شملت كل ما يتعلق بالإسلام ابتداءً من رسوله وشريعته ومنهجه وقرآنه وسنته وأمته وحضارته وتاريخه، وفي القلب من كل هذه المكونات عداوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- باعتباره الإنسان الكامل ومبلغ أكمل الرسالات والشرائع.

 

فالبواعث الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية للحملات الصليبية الأولى والتي انطلقت من مجمع كليرمونت بفرنسا منذ ألف سنة تقريباً، هي نفسها نفس البواعث التي تتذرع بها فرنسا اليوم في محاربة الإسلام باستهداف رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، كأن شيئاً لم يتغير، وتلك ترجمة حية لقوله تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)[البقرة: 217]؛ فالسنن لا تتغير، والأقدار لا تعاند، والعداوة باقية ما بقي الدين.

 

غير أن عداء الغرب للإسلام والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا علاقة له من قريب أو بعيد بانحدار المسلمين وتخلفهم أو انهيارهم الأخلاقي والاجتماعي كلما يحلو للبعض ذكره عند كل مرة تقع فيها إساءة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، حيث تجد عشرات الأقلام التي تطلق كلمات كالطلقات متهمة الأمة الإسلامية وضعفها وتخاذلها بأنها السبب في كل ما يقع من طغيان وافتراء من الغرب، في إدانة للضحية، وتبرئة للجاني بكل صفاقة وجهل.

 

فالعداء متعلق بالدين نفسه وبالرسول -صلى الله عليه وسلم- ذاته، حيث الكمال التشريعي والبشري، والحجة الباقية على فساد الغرب وضلاله وكفره.

 

والتاريخ يشهد على استمرارية استهداف الرسول والرسالة بالهجوم في فترات توهج المسلمين وضعفهم، ولكن الفارق بين الفترتين أن الاستهداف في فترات القوة كان بخفوت صوت وفي السراديب المظلمة كما فعل يوحنا الدمشقي في الدولة الأموية والتي تعتبر كتاباته وهجومه على الرسول والرسالة اللبنة الأولى في تشكيل الذهن الغربي عن الإسلام والرسول وهي الكتابات التي انتقلت إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا بعد ذلك بقرنين من الزمان، وفي فترات الضعف بعلو صوت وبجاحة ومكابرة وعناد وتحدي، كما حدث من نصارى سرقسطة بعد سقوطها بيد ألفونسو السادس سنة 472 هـ، ونصارى قرطبة في فترة حكم ملوك الطوائف، ونصارى دمشق بعد استيلاء التتار عليها سنة 658 هـ ومجاهرتهم بسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الأسواق وعلى أبواب المساجد وكما يحدث اليوم من فرنسا وأخواتها. والسرد التاريخي لميراث الكراهية يوضح الصورة ويقرب المعنى.

 

الإساءة في مكة

تواكبت الإساءة إلى شخص رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- مع بزوغ أول شعاع لنور دين الإسلام في مكة المكرمة، وكان مبعثها المشركين عبدة الأوثان، الذين لم يتوانوا ولم يكلوا عن ركوب كافة الوسائل والأساليب من تحقير لشخصه -صلى الله عليه وسلم-، والاستهزاء به وتكذيبه فيما يقول، لمحاربته في شخصه بغيةَ وأدِ دعوته في مهدها، كما لم يكفوا عن التشنيع عليه بكل ما يشوهه من شبهات رخيصة لصد الناس عنه -صلى الله عليه وسلم-. وقد تنوعت الإساءات من رميه بالجنون تارة، والشعر تارة، والانتحال تارة، وطلب الرئاسة تارة وهكذا مضت مسيرة الإساءة حتى وقعت حادثة الهجرة وانتقلت الإساءة لمستوى جديد.

 

الإساءة في المدينة

استلم راية التشويه المنافقون في المدينة من إخوانهم المشركين في مكة، وتشارك معهم يهود المدينة بعد أن اتفقت أهدافهم؛ فقد كان اليهود أهل كتاب ولذا فقد شوشوا على دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- متهمين إياه باقتباس آيات القرآن الكريم من توراتهم المزعومة، ولما لم يفلحوا عمدوا إلى تأليب أهل المدينة عليه بمؤازرة المنافقين، وذلك بإثارة النعرة القومية بينهم، واستثارتهم ضد محمد المكي الذي جاء طامعًا في بسط سلطانه وهيمنته على المدينة، ومن هذا القبيل الشيء الكثير؛ مثل استكتاب شعرائهم قصائد لاذعة في هجائه -صلى الله عليه وسلم-.

 

الإساءة في العصر الأموي

قد يتعجب البعض من ابتداء مسيرة الإساءة والكراهية للرسول -صلى الله عليه وسلم- مبكراً جداً في عصور القوة والسؤدد والتوسع الإسلامي، وكما قلنا الإساءة في عصور القوة كان لها استراتيجية مختلفة عن عصر الضعف؛ إذ كانت تتسم بالسرية والحرص والعمل في الخفاء داخل الأقبية والغرف المغلقة، والذي تولى كبر هذه الإساءة واحد من أخطر الشخصيات الفكرية في تاريخ النصرانية، وهو "يوحنا الدمشقي" أول من وضع الأسس الفكرية لكراهية الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبسبب قيمته الدينية الكبرى نال لقبين ذوي شأن هما: "القديس يوحنا" و"يوحنا ينبوع الذهب".

 

ولم يكن ذلك "الدمشقي" غريبًا عن المجتمع الإسلامي؛ فقد كان يتقن العربية كأهلها، ومعايشًا وملمًّا بالبيئة الثقافية العربية الإسلامية، ولذا فقد استعان بثقافته العربية على فحص ونقد القرآن الكريم، حيث صب آراءه ضد الإسلام والقرآن والرسول في كتاب له أسماه "ينبوع الحكمة" شحنه بالأصول الفكرية لمعاداة الإسلام التي بنى عليها المستشرقون والمفكرون الغربيون معظم افتراءاتهم ضد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

 

وتدور معظم آراء "الدمشقي" حول أن الإسلام ليس ديانة بل هرطقة مسيحية ولا يمت بصلة لدين إبراهيم -عليه السلام-، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المسيح الدجال أو على الأقل هو من يمهد لظهوره، وتارة يجعل "الدمشقي" النبي -عليه الصلاة والسلام- "نسطوري " وتارةً يجعله "آريوسي" وذلك بسبب تأكيده -صلى الله عليه وسلم- على أن المسيح بشَر؛ إذ أن الأريوسية تنكر ألوهية المسيح -عليه السلام- والأرثوذكسية تثبتها.

 

الإساءة في العصر العباسي الأول

في هذا العصر تولت بيزنطة ملف التشويه واستلمت روايات شفهية مغلوطة تناقلتها الألسنة من نصارى الشام ولم تستند الإساءات إلى أفكار أو شبهات أو جدال، بل محض افتراءات وأكاذيب فجة جمعها مؤرخ بيزنطي معروف اسمه "ثيوفانوس المعترف" في كتاب حول حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الكتاب أحد المراجع الرئيسية التي شكلت العقلية والنفسية الأوروبية تجاه رسولنا الكريم.

 

وهذا الكتاب المشحون بالكراهية والأكاذيب بنى عليه الشاعر الإيطالي الشهير "دانتي" ملحمته الأدبية "الكوميديا الإلهية" التي يتناقلها البلهاء والحمقى في بلاد العرب والإسلام بكل احتفاء، وهم يجهلون كيف صور هذا الخنزير "دانتي" الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الرواية الشعرية، ومن بشاعة الافتراء والإساءة لا يجسر المرء على نقل بعض ما كتبه هذا الصليبي الفاجر بحق رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.

 

الإساءة في عصر الحملات الصليبية

يعتبر البعد الديني هو المحرك الرئيسي والأول للحملات الصليبية التي استمرت على العالم الإسلامي لأكثر من قرنين من الزمان، وكانت التغذية السلبية التي يقوم بها القساوسة والرهبان والأدباء عن الإسلام والرسول -صلى الله عليه وسلم- أحد بواعث تأجيج هذه الحملات.

 

قال المستشرق الفرنسي "مكسيم رودنسون": "لقد حدث أن الكتاب اللاتين، الذين أخذوا بين سنة 1100م، وسنة 1140م على عاتقهم إشباع هذه الحاجة -أي كراهية الإسلام- لدى الإنسان العامي، أخذوا يوجهون اهتمامهم نحو حياة محمد دون أي اعتبار للدقة؛ فأطلقوا العنان لجهل الخيال المنتصر فكان محمد: ساحرًا، هدم الكنيسة في إفريقيا، والشرق عن طريق السحر والخديعة، وضمن نجاحه بأن أباح الاتصالات الجنسية، بل كان محمد -في عرف تلك الملاحم- هو صنمهم الرئيسي، وكان معظم الشعراء الجوالة يعتبرونه كبير آلهة السراسنة -البدو- وكانت تماثيله تصنع في مواد غنية، وذات أحجام هائلة".

 

ولكن احتكاك الصليبيين بالمسلمين في بلاد الشام ومصر فتح أعينهم على حقيقة الأمر وأن كثيراً مما يقال عن الإسلام ورسوله محض أكاذيب وافتراءات، فحدث تأثر كبير، ولكنه تأثر لخدمة الكراهية، حيث بدأ الصليبيون في ترجمة التراث العربي وترجمة نصوص القرآن، وبدأ اشتباك فكري وثقافي طويل مع تراث العرب والمسلمين في الطب والفلك والرياضيات والفلسفة من أجل إحكام السيطرة الهيمنة من باب "اعرف عدوك".

 

الإساءة في عصر النهضة والثورة الصناعية

في هذه الحقبة يتضح أثر المفكرين الفرنسيين في تأسيس الوعي الأوروبي المعاصر وتغذيته بكراهية وأكاذيب فجة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

ففولتير مثلاً وهو واحد من كبار ومنظري الثقافة الغربية في عصر ما يوصف بالتنوير والنهضة، وأحد مؤسسي اللائكية الفرنسية، كان دائم التنديد بالتعصب الديني وينادي بالتسامح، ولكن عندما يتكلم عن رسول الله يتحول إلى قس من القرون الوسطى؛ فقد صور النبي -صلى الله عليه وسلم- كنموذج للتعصب والطغيان كما الديني في استغلاله مشاعر البسطاء ومعتقداتهم الساذجة لبلوغ "غاياته الشريرة"، أنه في نظره، متعصب، عنيف، محتال، وعار على الجنس البشري، وأنه انتقل من كونه تاجرًا ليصبح نبيًا مشرعًا وملكًا. وبقوله: "أن محمدا عندي ليس سوى مراء بيده سلاح. أنه أكبر زير نساء وأعظم عدو للعقل. ولاحظ أن هذه الصفات هي التي صورتها الرسوم المسيئة التي نُشرت في فرنسا والدانمارك من قبل حتى يتبين للناس أن الأمر عريق وقديم قدم ظهور الإسلام، وليس وليد اليوم. ومثل صنيع فولتير فعل مونتيسكو وهيجل وغيرهم من فلاسفة ومنظري عصر النهضة والتنوير في أوروبا.

 

الإساءة في العصر الحديث

مضى القرن العشرين ملتهباً بسبب حربين عالميتين التهمتا نصف القرن تقريباً، تلتهما حرب بادرة تنازع فيها الأمريكان والروس الهيمنة على العالم، وما إن هدأت الأمور قليلاً حتى عادت حملات التشويه والإساءة كان من أبرزها رواية آيات شيطانية للهندي المرتد سلمان رشدي، والتي طبعها ونشرها في لندن؛ لتشتد الهجمات والضربات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 الشهيرة والخاصة بالاعتداء على برجي نيويورك، وهيَّ الموجة الجديدة من تلك الموجات المنظمة في سلسلة الإساءات إلى شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ ليشهد العالم تصاعدًا غير مسبوق في الكتابات التي تطعن في شخصه الكريم، نتيجة لشعور الغرب وأمريكا بالحزن والغضب والصدمة.

 

وظهرت تيارات إنجيلية متصهينة تلاقت أهدافهما على عداوة الإسلام وتشويه رسوله الكريم وبرز أسماء العديد من الكتاب المحسوبين على هذا التيار؛ مثل "كريك ونن" و"روبرت سبنسر" و "آن كولتر" وهي التي كتبت ما نصه: "أن علينا مهاجمة دولهم وقتل قادتهم وتحويلهم إلى المسيحية، إننا لم نتردد في ملاحقة هتلر وكبار مساعديه، وقد قصفنا المدن الألمانية ودمرناها وقتلنا مدنيين، كنا يومها في حرب ونحن الآن في حرب".

 

ومما يميز الإساءة في العصر الحديث، دخول الساسة في غمار معترك التشويه والإساءة، وما فعله الرئيس الفرنسي ماكرون ليس بجديد؛ فقد سبقه العشرات من الساسة في الغرب، من وزراء وسفراء وقادة عسكريين ومسئولين أمنيين في أوضح إشارة إلى إن هذه الإساءات عمل ممنهج قُصد منه النيل من الأمة الإسلامية.

 

هذا العرض التاريخي لميراث الكراهية الغربية لشخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- توضح لنا بجلاء أن هذه الحملة الشرسة التي تمارسها بعض الدول الأوروبية وعلى رأسهم فرنسا في عداء الإسلام ورسوله ليست وليدة اليوم أو نتاج ضعف المسلمين وتراجعهم الحضاري؛ إنما هي بمثابة الإرث العميق المتجذر في العقلية والنفسية الأوروبية والغربية، ولن تتوقف هذه الحملات إلا إذا توحدت كلمة المسلمين، وغضبوا لرسولهم -صلى الله عليه وسلم- غضبة رجل واحد على حرماته، وأظهروا للعالم استعدادهم الكامل على التضحية بكل وأعز ما يملكون، بل ومعاداة الجميع؛ من أجل الدفاع عن نبيهم ورفض الإساءة إلى شخصه الكريم، ودون ذلك التحدي والتصدي ستستمر مسيرة الإساءات إلى سيد المرسلين؛ فهو إرث الأجداد الذي يتناقله الآباء والأبناء عبر العصور.

المشاهدات 397 | التعليقات 0