سيّد الأيام
عبدالله الغامدي
الحمد لله معيدِ الجُمُعِ والأعياد، وأشهدُ ألا إله إلا الله جامعُ النَّاسِ إلى يوم الحشرِ والتناد، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله المفضَّلِ على جميعِ الخلقِ والعباد، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ المعاد، يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدَّمت لغد، أما بعد:
يقول المحدِّث السَّخاويُّ -رحمه الله- وهو الراوي لمئات بل آلاف الأحاديث-: " لا أعلم حديثاً كثير الثواب مع قلة العمل أصح من حديث..."
وهذا الحديث الذي قال عنه السَّخاوي ما قال، هو عينُ الحديث الذي قال عنه بعضُ الأئمة: "لم نسمع في الشريعة حديثاً صحيحاً مشتملاً على مثل هذا الثواب!" وهذا الحديث الذي قال عنه العلماء -رحمهم الله- إنه أكثر فضائل الأعمال ثوابًا وأجرًا على الإطلاق؛ أجزمْ أنَّ بعضَ مَنْ حضرَ معنا قد طبَّقَه اليوم وحازَ على هذا الفضل الجليل العظيم!
هذا الحديثُ -أيُّها الكِرام- هو قولُ النبيِّ ﷺ: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل ، ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام ، فاستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها))
تخيَّل أنَّ مَنْ طبَّقْ هذه الشروط اليسيرة، وأتى بهذا العمل الذي لا يستغرق أكثر من عشر دقائق؛ يكافؤه الله بأن يكون له بكلِّ خطوةٍ مشاها أجر صيام سنة كاملة، وأجر قيام سنة كاملة، فلو مشى ألفَ خطوة؛ يكون له أجر 1000 سنة صيام وقيام!
أعرفتَ لماذا قال الأئمة عن هذا الحديث ما قالوا؟! ما أعظمَ فضلَ الله، وما أشدَّ تقصيرنا في تحصيل فضله سبحانه وتعالى!
ثم لا عجبَ -أيُّها الكرام- أن يكون هذا الفضلُ لهذا الحديث؛ ففضله تابعٌ لفضلِ يوم الجـُمعة الذي هو أعظم الأيام عند الله، وسيِّد الأيام، روى الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي لبابة البدري -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: "إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر"، وقال ﷺ: "خيرُ يومٍ طلعت عليه الشمس: يوم الجمعة".
ولأنَّ هذا اليوم أعظمُ الأيامِ عندَ الله؛ فكثيرٌ من الأحداث العِظام لم تحدث ولن تحدث إلا في هذا اليوم، وكثيرٌ مِنْ المخلوقات تُعظِّم هذا اليوم، يقول ﷺ عن يوم الجمعة: "فيه خمس خلال: خلق الله -عز وجل- فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفَّى اللهُ آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئًا إلا أعطاه ما لم يسأل حرامًا، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب، ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة".
نعم، كلُّ المخلوقات تُعظِّم يومنا هذا، السماء والأرض والجبال والملائكة، كلُّهم عرفوا قدر هذا اليوم وعظمته في ميزان الله، ونحنُ أحقُّ المخلوقات بإجلال وتعظيم هذا اليوم؛ لأنَّ يوم الجمعة هو نعمةٌ وهديةٌ مِنْ الله لأمتنا من بين جميع الأمم؛ ومن عظمة هذه النعمة حسدتنا عليها يهود لكثرة ما يحصل لنا في يوم الجمعة من البركات والخيرات! قال ﷺ: ((إنَّ اليهودَ قومُ حسدٍ، وإنَّهم لا يَحسُدونا على شَيءٍ كما يَحسُدونا على يومِ الجُمُعةِ الَّتي هَدانا اللهُ لها وضَلُّوا عنها))!
كم من نعمة نحياها ونعيش فيها ونمتلكها ونتمتع بها... ونحن لا نحس بها ولا نستشعر قيمتها! من تلك النعم المغفول عنها "نعمة يوم الجمعة"، وربما أنَّ نمطَ حياتنا الحديثة، وكون هذا اليوم يُوافق وقتَ إجازةٍ بعد عملٍ شاق؛ يجعل كثيرًا مِنَّا يزهد في استغلال هذا اليوم، وأن يتخذه يومَ راحةٍ وعطالةٍ تامَّة، ولا بأس للمرء أن يرتاح في هذا اليوم، لكن مِنْ الغبن أن يذهب أعظم يوم عند الله في الراحة فقط، وألا يختلف في هذا اليوم سوى حضور الجمعة فقط، ثم يمضي هذا اليوم كبقية أيام الأسبوع وتضيع علينا بركاته وخيراته التي يحسدنا عليها اليهود! ولعلَّ في هذا الحديث الذي سنتلوه ما يجعلُ المرء يحملُ على نفسه قليلًا مِنْ التعب في هذا اليوم؛ طمعًا أن يكون مِن أهل هذا الحديث العظيم؛ يقول ﷺ: ((إنَّ اللهَ يَبْعَثُ الْأَيَّامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهَا ، وَيَبْعَثُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً ، أَهْلُهَا يَحُفُّونَ بِهَا كَالْعَرُوسِ تُهْدَى إِلَى كَرِيمِهَا ، تُضِيءُ لَهُمْ ، يَمْشُونَ فِي ضَوْئِهَا ، أَلْوَانُهُمْ كَالثَّلْجِ بَيَاضًا ، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ ، يَخُوضُونَ فِي جِبَالِ الْكَافُورِ ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ الثَّقَلَانِ ، مَا يُطْرِقُونَ تَعَجُّبًا ، حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ، لَا يُخَالِطُهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْمُؤَذِّنُونَ الْمُحْتَسِبُونَ)).([1])
بالله عليكم مَنْ مِنَّا -يا كِرام- لا يتمنَّى أن يكون في هذا المقام العظيم؟! لا شكَّ أننا جميعًا نطمعُ في ذلك، لكنَّ هذا المقام لا يُنال بالأماني، ولا يكون إلا لأهل الجمعة كما قال النبيُّ ﷺ، وحتى نكونَ مِنْ أهلها؛ فلا بدَّ أن نعيد علاقتنا بيوم الجمعة وأن نصلح ما أفسدته الحياة في تعاملنا مع هذا اليوم؛ وبداية الإصلاح للـجُمعة: أن يبدأ المرء بها من ليلتها لا مِنْ يومها، فليلةُ الجمعة ليلة عظيمة معظَّمة، تعظم فيها الحسنات والسيئات، وكثير من النَّاس رُبَّما لا يُبالي بهذه الليلة التي تلي انتهاء الأعمال؛ قال ابن القيم:"الطاعة الواقعة من المسلمين يوم الجمعة وليلة الجمعة، أكثر منها في سائر الأيام حتى إن أكثر أهل الفجور يحترمون يوم الجمعة وليلته، ويرون أن من تجرأ فيه على معاصي الله عز وجل عجل الله عقوبته ولم يمهله، وهذا أمر قد استقر عندهم وعلموه بالتجارب، وذلك لعظم اليوم وشرفه عند الله، واختيار الله سبحانه له من بين سائر الأيام".
إذن أردنا أن نكون من أهل الجمعة فعلينا أن نصلح ليلة الجمعة أولًا بأن يكثر المرء فيها مِنْ الطاعات والصلاة على النبيِّ ﷺ في هذه الليلة، ويجتنب السيئات والمعاصي في هذه الليلة المعظَّمة، ثم يسعى أن ينام مبكِّرا قدر المستطاع؛ ليتمكِّن من إدراك فضائل يوم الجمعة.
وأمَّا إصلاح نهار الجمعة فله شأن مختلف ومقامٌ آخر!
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
مِنْ إصلاح يوم الجمعة -أيها الكرام-: الحرص على إدراك صلاة الفجر يوم الجمعة في جماعة، فهذه الصلاة من بين جميع صلوات الأسبوع أعظم الصلوات عند الله: "مَا مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاةٌ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْجَمَاعَةِ ، وَمَا أَحْسَبُ شَهِدَهَا مِنْكُمْ إِلَّا مَغْفُورٌ لَهُ" ولا عجبَ فإن صلاة الفجر أعظم صلوات اليوم، ويوم الجمعة هو أعظم الأيام، وكثير منَّا ربما فرَّط فيها مِنْ أجل السهر!
ومن إصلاح يوم الجمعة: أن يستعد المرء ليوم الجمعة بالاغتسال؛ فغُسل الجمعة واجب على كل محتلم، وبوضع أجمل الأطياب عنده، فقد قال ﷺ: ((وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَوْ مِنْ طِيبِ الْمَرْأَةِ)) ثم يلبس أحسن ثيابه، وما أحسن أن يخص الجمعة بثوب خاص لا يلبسه إلا فيها فقد قال ﷺ: ((ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته)) وقد كان الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- يُطبِّق هذا فقد كان له ثوب لا يلبسه إلا في يوم الجمعة.
ومن إصلاح يوم الجمعة: أن يُبكِّر المرء قدر المستطاع للمسجد يوم الجمعة، وكلما كان تبكيره أكبر كان فضله أعظم، حتى يصل إلى درجة من التأخر لا يكتب له شيء يقول ﷺ: ((مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ)).
ثم إذا يسَّر اللهُ له التَّبكير ينشغل بالتنفَّل ما كتب الله له، وبالإكثار من الصلاة على النبيِّ ﷺ، وبقراءة سورة الكهف حتى يخرج الإمام فإنها تكون له نورًا أسبوعًا كاملًا حتى الجمعة القادمة؛ ((فإنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ)).
ومن إصلاح الجمعة: أن ينصت للخطيب ولا يلغو ولا يعبث بشيء في المسجد أو في جواله؛ ليس تعظيمًا للخطيب، وإنما تعظيمًا لهذا اليوم ولشعيرة الله العظيمة فيه؛ فقد قال ﷺ: ((إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ)).
ثم بعد الصلاة لا حرجَ على الإنسان أن يخرج في طلبِ تجارة أو رزق أو ترويحٍ عن النفس ويلهج أثناء ذلك بذكر الله بما لا يشغله عن المباح؛ فديننا دين توازن واتزان قال الله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾.
حتى إذا كانت آخر ساعة من الجمعة ذهب المرء إلى المسجد أو اختلى في بيته يدعو الله سبحانه وتعالى؛ فإنَّها من أرجى ساعات الإجابة فقد قال ﷺ: ((فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ . وَقَالَ بِيَدِهِ ، قُلْنَا يُقَلِّلُهَا يُزَهِّدُهَا)).
اللهمَّ إنا نعوذ بك من قلبٍ لا يخشع، ومن عينٍ لا تدمع، ومن دعوة لا يستجاب لها
اللهمَّ وفِّقْ للحقِّ والهُدى وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولاة أمور المسلمين
واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.
ربّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.
([1]) [صحيح ابن خزيمة (3/ 117، رقم 1730) قال الأعظمي: قال الهيثمي: (2/ 164، رقم 165): "رواه الطبراني في الكبير عن الهيثم بن حميد عن حفص بن غيلان وقد وثقهما قوم وضعفهما آخرون وهما محتج بهما" وأورده في الصحيحة (706)].
المرفقات
1738864519_خطبة سيد الأيام.pdf
1738864522_خطبة سيد الأيام.docx