سيئة القلوب: الرياء للأستاذ فضل محمد البرح

سيئة القلوب: الرياء للأستاذ فضل محمد البرح

مقدمة:

الحمدُ لله الملِك الحكيم، الجوَاد الكريم، العزيز الرَّحيم، الذي خلَق الإنسان في أحسن تقويم، وفطَر السمواتِ والأرض بقُدرته، ودبَّر الأمور في الدارين بحِكمته، وما خلَق الجنَّ والإنس إلا لعبادته، فالطريق إليه واضحٌ للقاصدين، والدليل إليه لائحٌ للناظرين، ولكن الله يُضِلُّ مَن يشاء ويَهدي مَن يشاء، وهو أعلم بالمهتدين.



والصلاة والسلام على محمَّد سيِّدِ المرسَلين، وعلى آله الأبرار الطيِّبين أجمعين، وسلَّم وعظَّم إلى يوم الدِّين.



وبعد:

اعلمْ أنَّ العبادة ثمرةُ العلم، وفائدة العمر، وحاصل العبد، وبضاعة الأولياء، وطريق الأقوياء، وهي سبيلُ السعادة، ومِنهاج الجَنَّة؛ قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92].



وإذا نظرْنا وتأملْنا طريقَ العبادة: فهي طريق وعْر، ومنال صعْب، عظيمة الآفات، كثيرة العوائِق والموانع، وهكذا يجِبُ أن تكون؛ لأنَّها طريقُ الجنة؛ لذلك يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ الجنة حُفَّتْ بالمكارهِ، والنار بالشهوات))[1]، فيتعرَّض العبد ويواجه مثلَ هذه العوائق والعقبات التي تُعرقِل سيرَه إلى الله - تبارك وتعالى، فإنَّ السَّيْر ليس سيْرَ المراكب والأقدام، إنَّما هو سير القلوب إلى الله - جلَّ وعلا - وفي غضونِ سَيْرها ثَمَّة ما ينغِّصُ عليها، ويُكدِّر صفوَ السير، حيث يعتَوِرها الكثيرُ من الأمراض المعضِلة، فتصيب هذه القلوب؛ إذ المرضُ الحقيقي هو مرضُ القلب؛ ملِك الجوارح.



فكان لزامًا على العبد أن يَسْعى للوقاية قبلَ حدوث المرَض، ويُشخِّص المرض عند حدوثه؛ ليستشفَّ من خلاله الدواء الناجِع لما أصابه، فيكون في الحال هذه خطَا خُطواتٍ للتخلُّص من تلك الأمراض، وكل ما مِن شأنه يعترِض سيرَه إلى الله - تبارك وتعالى.



فمِن أعظمِ تلك الآفات والأمراض خطرًا، وأعمِّها وقوعًا وانتشارًا، وأخوف عقبة ينبغي إزالتُها، هو الداء العُضال، والمرَض المستشري (الرِّياء)؛ حيث ينبغي على كلِّ عبد إزاءَه المجاهدةُ، والاحتراز منه في ثنايا السَّير إلى الله - تبارك وتعالى.



فمَن علِم حاجته إلى صافي الحسَنات غدًا في القيامة، غلَب على قلْبه حذرُ الرياء، وصحَّح نيته بالعلم؛ حتى يوافي يومَ القيامة بالخالص المقبول، حيث لا يَقبل الله يومَ القيامة من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، لا تشوبُه إرادةُ شيء سواه.



قال الحسن البصري: "لا يزال العبدُ بخير ما علِم ما الذي يفسد عليه عمَلَه، فلا غِنى للعبد عن معرفة ما أُمِرْنا باتقائه من الرِّياء، إذ وُصِف بالخفاء، ففي الحديث: ((أنَّه أخْفى مِن دبيب النمل))، فما خفِي لم يُعرف إلا بشدة التفَقُّد ونفاذ البصيرة بمعرفته له حين يعرِض، وإلا لم ينفع التفقُّد لما لا يُعرف، فبالخوف والحذر يَتفقَّد العبد الرِّياء، وبمعرفته يبصره حين يعرِض، فلا غنى بك عن معرِفة الرياء"[2].



ولذلك جاءتْ نصوص الكتاب والسُّنة بالترهيب منه، وعَدِّه من عظائم الذنوب؛ بل مِن الشِّرك بالله؛ لأنَّه ينافي القصْد الذي يقتضي أن يَقصِد العبد بعمله خالقَه وحده لا شريكَ له؛ قال سبحانه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].

يَا مُبْتَغِي الْحَمْدِ وَالنَّوَالاَ [3]
فِي عَمَلٍ تَبْتَغِي مُحَالاَ لَقَدْ خَيَّبَ اللَّهُ ذَا رِيَاءٍ
وَأَبْطَلَ السَّعْيَ وَالْكَلاَلاَ [4]مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبٍّ
أَخْلَصَ مِنْ خَوْفِهِ الْفِعَالاَ الْخُلْدُ وَالنَّارُ فِي يَدَيْهِ
فَرَائِيهِ يُعْطِيكَ النَّوَالاَ وَالنَّاسُ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا
فَكَيْفَ رَاءَيْتَهُمْ ضَلاَلاَ [5]



وإذا أمعَن الإنسان النظر: يجد أنَّ المُرائي في الحقيقة جعَل العبادات مطيةً لتحصيل أغراض نفسِه الدنيئة، واستعمل العبادةَ فيما لَم تُشرَع لأجْله، وهو تلاعُب بالشريعة، واستهانة بمَقام الألوهية، ووضْع للأمور في غيْر مواضعها، وقد توعَّد الله صنفًا مِن الناس يُراؤون في صلاتهم بالويل والهلاك، فقال: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 4 - 7].



وبيَّن سبحانه أنَّ الذي يريد بعمله عاجلَ الحياة الدنيا، فإنَّه يُعجِّل له فيها ثوابه إذا شاء، ومصيرُه في الآخرة العذاب الشديد - والعياذ بالله - لأنَّه لم يُخلص العمل لله؛ فقال سبحانه: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 18].

وجعَل مُراءاةَ الناسِ بالأعمال من أخصِّ صِفات أهل النِّفاق؛ فقال سبحانه: ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاس ﴾ [النساء: 142].



وبيَّن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أحاديثَ كثيرةٍ خطورةَ الرياء على دِين العبد، وعاقبةَ المرائين - كما سيأتي بيانه.

منها: ما جاء عن أبي سعيد الخُدري مرفوعًا، أنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: ((ألاَ أُخبركم بما هو أَخوفُ عليكم عندي مِن المسيح الدجَّال؟))، قالوا: بلى، قال: ((الشِّرك الخفي، يقوم الرجل يُصلِّي فيُزيِّن صلاته لِمَا يرى من نظَر رجل))[6]، وعليه، فإنَّ الباحِث قصَد الخوض في موضوع الرِّياء؛ لمعرفة مفهومه وأنواعه وأحكامه، وقد قسَّم الموضوع إلى العناصر الآتية:

عناصر البحث:

1- تعريف الرِّياء.

2- حكم الرياء.

3- خطورة الرياء وضرره.

4- صوَر الرِّياء.

5- أسباب الرِّياء.

6- علاج الرِّياء.




باب: في تعريف الرِّياء وما يتعلَّق به
فصل: تعريف الرِّياء، وما يتعلَّق به لُغة:

الرِّياء: مصْدر قولهم: راءَى فلان الناسَ يُرائيهم مراءاة، وراياهم مراياةً على القلْب، وفلان مُراءٍ، وقوم مراؤون، والاسم منه الرياء، وهو مشتقٌّ من مادة رأى.

يقال: تراءى الجمْعان؛ رأى بعضُهم بعضًا.

ويقال: فلان يتراءى؛ أي: ينظر إلى وجهِه في المِرْآة وفي السَّيف.

فهو أن يُظهِر الإنسانُ من نفسه خلافَ ما هو عليه ليراه الناس[7].



ومما يتعلَّق بالرياء: السُّمعة:

السُّمعة لغة: مصدر قولهم: سمَّع بالرجل، أذاع عنه عيبًا، وندَّد به وشهَّره وفضَحه، وأسْمع الناس إيَّاه، وهي مِن مادة (سمع).

يُقال: فعلت ذلك تسمعتَك وتسمعةً لك؛ أي: لتسمعه، وما فعلتُ ذلك رياء ولا سُمعة [8].

فالسُّمعة أن يعملَ المرءُ عملاً، ثم يُسمِّع بعمله الناسَ؛ ليشتهر بذلك، فيجد منهم الثناءَ والحمد.



فصل: تعريف الرياء شرعًا:

قال ابن حَجر: الرِّياء: إظهارُ العبادة؛ لقصْد رؤية الناس لها، فيحمدوا صاحبَها[9].

وأصْل الرياء - كما قال الغزالي -: "طلب المنزِلة في قلوب الناس بإيرائِهم خِصالَ الخير، فهو إرادةُ العباد بطاعة الله"[10].

قال الحسن البصري: "أصْل الرِّياء حبُّ المحْمدَة"[11].

ورُوي أنَّ لقمان قال لابنه: "الرياء أنْ تطلبَ ثواب عملك في دار الدنيا، وإنَّما عمل القوم للآخِرة"[12].



إذًا فهو: ابتغاءُ العاجِل الفاني الدُّنيوي ممَّا عند الناس، بإظهار خِصال الخير، وإيثاره على الآخر الدائم الأُخروي، ممَّا عند الله - تبارك وتعالى.



الفرْق بيْن الرِّياء والسُّمعة:

قال ابن عبدالسلام: "الرياء أن يعملَ لغير الله، والسُّمعة أن يُخفِي عملَه لله، ثم يُحدِّث به الناس"[13].

السُّمعة - كما قال الغزالي - تتعلَّق بحاسة السَّمْع، والرياء يتعلَّق بحاسَّة البصر[14].



فيكون المراد منها نحو ما يُراد من الرياء؛ إذ إنَّها مقرونةٌ بالرياء، ومحكوم لها بحُكمه من الفساد والنقصان.



باب: حكم الرياء:

ولَمَّا كان الرياء بهذه الخطورة العظيمة مِن الاستشراء في قلوب العباد، والجَرَيان في عروقهم، ينبغي تبيُّن حكمه، وكشْف مزالقه على العبْد؛ ليكونَ على بيِّنةٍ مِن دِينه، وما يقوم به مِن الأعمال؛ حتى إذا لقِيَ الله لقيَه بعمل لا شائبةَ فيه.



فصل: الرِّياء شِرْك:

الرِّياء شرْك بالله ربِّ العالمين؛ إذ إنَّ الشِّرْك نوعان:

أحدهما أكبر: وهو أن تجعلَ لله - تبارك وتعالى - نِدًّا في عبادته وحُكمه وشَرْعه، من نبيٍّ مرسَل أو ملك مقرَّب، ومِن عالِم جليل، أو سلطان عظيم، ومن قبْر أو حجر، فتتوجَّه إليهم بشكلٍ مِن أشْكال العبادات، أو قضاء حاجةٍ من الحوائج ونحو ذلك، وهذا هو الشِّرْك الذي قال الله فيه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48].

فاللهُ هو الذي خلقَك ورزَقك؛ فهو الذي يستحقُّ جميعَ أنواع العبادة.



النوع الثاني منَ الشِّرك الأصغر: هو الرِّياء بالأعمال؛ ووجْه كونه من الشِّرْك ما ثبَت من الأدلَّة في الكتاب والسُّنة على ذلك؛ قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]؛ أي: لا يُرائي بعمله أحدًا ما دام أنَّه يريد لقاءَ ربه - جلَّ وعلا - وقال: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]؛ أي: الأعمال التي قُصِد بها غير الله تعالى بطَل ثوابُها، وصارتْ كالهباء المنثور[15].



وكما جاء مِن حديث محمود بن لبيد، قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ أخوفَ ما أخاف عليكم الشِّرْك الأصغر))، قالوا: وما الشِّرك الأصْغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء؛ يقول الله - عزَّ وجلَّ - يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كُنتم تُراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندَهم الجزاء؟)) [16].



وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال - عليه الصلاة والسلام - فيما يَرويه عن ربه: ((أنَا أغْنى الشُّركاء عن الشِّرْك؛ مَن عمِل عملاً أشْرك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكه)) [17].



وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن سمَّع سمَّع الله به، ومَن راءى راءى الله به)) [18].



وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: ((رُبَّ صائم ليس له من صوْمه إلا الجُوعُ والعطش، ورُبَّ قائم ليس له مِن قيامه إلا السهر)) [19]؛ أي: إنَّه إذا لم يكنِ الصوم والقيام بالصلاة لوجه الله تعالى، فلا ثوابَ له، ولم يكن له سوى النَّصَب والتعَب.



ولذلك يقول الإمام الذهبي - رحمة الله عليه - في "الكبائر" حيث جعَل الشِّرك يتصدر الكبائر، وأنَّه نوعان: "... والنوع الثاني من الشِّرْك الرِّياء بالأعمال"[20].



قال بعضُ الحُكماء: "مثَل مَن يعمل رياءً وسُمعة، كمثَل مَن ملأ كيسَه حصًى، ثم دخَل السوق؛ ليشتريَ به، فإذا فتَحَه بين يدي البائع افتضح، وضرَب به وجهه، فلم يحصل له به منفعةٌ سوى قولِ الناس: ما أملأَ كيسه، ولا يُعطَى به شيء، فكذلك مَن عمِل للرياء والسُّمعة، لا منفعةَ له في عمله سوى مقالة الناس، ولا ثوابَ له في الآخرة".



وقال الفُضَيل بن عِياض - رضي الله عنه -: "ترْك العمل لأجْلِ الناس رِياء، والعمل لأجْل الناس شرْك، والإخلاص أن يعافيَك الله منهما"[21].



وفي حقيقة الأمْر نجد أنَّ المرائين متعلِّقون بغير الله في رجائهم وخوْفهم، في جلْب نفع أو دفْع ضُرّ، وليسوا متجرِّدين في تضحياتهم وجهادِهم؛ وحتى ما يسعون به لتحقيق مآربِ الأفراد والشعوب والأمم، بل يُلحظ فيها التطلعُ إلى تقدير الآخرين، ووجههم مع وجه الله - جلَّ وعلا.



يقول سيِّد قطب - رحمه الله - عند قول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106] - قال: "مشرِكون سببًا من الأسباب مع قُدْرة الله في النفْع أو الضر سواء، مشركون في الدَّيْنونة لقوَّة غير قوة الله مِن حاكم أو موجِّه لا يستمدُّ مِن شرع الله دون سواه، مشركون في رجاءٍ يتعلَّق بغير الله مِن عباده على الإطلاق، مشرِكون في تضْحية يشوبها التطلُّعُ إلى تقدير الناس، مشركون في جهادٍ لتحقيق نفْع أو دفْع ضر، ولكن لغير الله، مشرِكون في عبادة يُلحظ فيها وجهٌ مع وجه الله"[22].



فهذا النموذج من الشِّرْك الخفي هو الذي ينبغي أخْذُ الحيطة الدائمة، والتحرُّز منه؛ ليخلص الإيمان، وهو الذي خافَه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أمَّته، وحذَّرهم منه؛ لشدَّة خفائِه، بل إنَّه أشدُّ خفاءً من دبيب النمل، جاء عن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - أنِّ النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: ((الشرك فيكم أخْفى من دبيب النمل))[23].



فصل: الرياء حرامٌ وممقوت، ومِن أكبر الكبائر على الإطلاق:

لقدْ نهى الله - عزَّ وجلَّ - عن الرِّياء، بل وذمَّه ومقَته أشدَّ المقْت، ومَن يهتك سِتْر الله بارتكاب ما نهى الله - تبارك وتعالى - كان عندَ الله من الممقوتين، فيكون المرائي قد هتَك ستر الله بإرادة عملِه غيرَ وجه الله - جل وعلا - وبار عمله بمكرِهِ هذا، كما قال الله ﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [فاطر: 10]، قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وشَهْر بن حَوْشَب: "هم المراؤون بأعمالهم؛ يعني: يمكرون بالناس، يُوهِمون أنهم في طاعة الله، وهم بُغَضَاءُ إلى الله"[24].



وقال الله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 4 - 7].

و﴿ وَيْل ﴾: وادٍ في جهنمَ - كما هو معلوم لدى المفسِّرين - توعَّد الله به مَن يرائِي بعمله، وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]، فمدْحُ اللهِ - عزَّ وجلَّ - للمخلِصين يقتضي ذمَّه للمرائين، الذين لا يعملون العملَ إلا وهم يُريدون الثناءَ والشُّكر من الناس.



وإنَّ مِن مقْت الله للمرائين: تكذيبهم، والأمْر بسحْبهم وإلْقائهم في نار جهنم - والعياذ بالله - عندما يقضي بيْن الخلائق يوم القيامة، وهو يوم التمايُز بيْن عباد الله، فينكشف المخلِص من المرائي، كما جاء في حديثِ أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ أوَّل الناس يُقضَى يومَ القيامة عليه رجلٌ استُشهد، فأُتي به، فعرَّفه نِعمه عليه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهدت، قال: كذبتَ، ولكنَّك قاتلت؛ لأنْ يُقال: جريء، فقد قيل، ثُم أمر به، فسُحِب على وجهه، حتى أُلْقِي في النار، ورجل تعلَّم العِلم وعَلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نِعمه عليه فعَرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنَّك تعلمتَ العلم؛ ليُقال: عالِم، وقرأتَ القرآن؛ ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسُحِب على وجهه حتى أُلْقِي في النار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه مِن أصناف المال كلِّه، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمه عليه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِن سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنَّك فعلتَ؛ ليقال: هو جوَاد، فقد قيل، ثم أمر به، فسُحِب على وجهه، حتى أُلْقِي في النار))[25].



فالمجاهِد، وصاحِب العِلم الذي يُعلِّم الناس، وصاحِب المال الذي يجود به على الخلْق، لهم منزلةٌ ومكانة، ورفعة بيْن الناس، ومحل التقدير والاحترام على غيرهم مِن البشر حسبَ ما يرون منهم في الظاهر، لكن الله - جلَّ وعلا - يُعاملهم بِمقاصدِهم ونواياهم، وهم محلُّ المقْت والعذاب الأليم، إذا لم يكن عملُهم مما يُبتغَى به وجهه - تبارك وتعالى.



فالرِّياء ممقوتٌ عند الله، وكذلك عندَ أصحاب الفِطر السليمة، والقلوب النظيفة الطاهرة، وذوي الألْباب من الخلْق، لا سيَّما عندما تتضِح معالِمه وحقيقته، وينكشف زَيفُه؛ قال الإمام الغزالي - رحمه الله -: "اعلم أنَّ الرياء حرام، والمرائي عندَ الله ممقوت، وقد شهِدتْ لذلك الآياتُ والأخبارُ والآثار"[26].



وسأل رجلٌ سعيدَ بن المسيّب، فقال: "إنَّ أحدَنا يصطنع المعروفَ يحب أن يُحمَد ويؤجَر، فقال له: أتحبُّ أن تُمقت؟ قال: لا، قال: فإذا عملتَ لله عملاً فأخْلِصْه"[27].



واعلمْ أنَّ الرياء ليس محرَّمًا فحسْب؛ بل إنَّه من أشدِّ المحرَّمات التي حرَّمها الله - تبارك وتعالى - فإنَّ من المعلوم مِن الدِّين بالضرورة تحريمَ الزِّنا، وتحريم الخمر، وغيرهما من المعاصي الظاهِرة، فالرياء أشدُّها حُرمةً، وأكبرها معصيةً لله - جلَّ وعلا - يُعصَى بها في أرْضه وملكوته مِن قِبَل خلْقه.



قال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى -: "المعصية نوعان: كبائر، وصغائر؛ فالكبائر: منها الرِّياء، والعُجْب، والكِبْر، والفَخر، والخُيلاء، والقُنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله، والأمْن من مكْر الله، والفَرَح والسرور بأذَى المسلمين والشَّماتة بمصيبتهم، ومحبَّة أن تَشيعَ الفاحشة فيهم، وحَسَدهم على ما آتاهم الله من فضْله، وتمنِّي زوال ذلك عنهم، وتوابِع هذه الأمور التي هي أشدُّ تحريمًا من الزِّنا وشُرْب الخمر، وغيرهما من الكبائر الظاهِرة"[28].



فيكون الرياء قد تضافرتْ على حُرْمته وشناعته جميعُ الأدلَّة من الكتاب والسُّنة، وتطابقتْ عليه كلامُ الأئمة من السلف وغيرهم، حتى لاحَ للناظرين مدى شناعة الرياء في الشريعة.



قال صاحب كتاب "الزواجر" - رحمه الله تعالى - في معرِض ذِكْره للكبائر من الذنوب والمعاصي التي يرْتكبها الخلْق، ويَعْصون اللهَ بها، بعْدَ ذِكْره للكبيرة الأولى: "الكبيرة الثانية: الشِّرْك الأصغر: وهو الرِّياء، قد شهِد بتحريمه الكتابُ والسَّنة، وانعقد عليه إجماعُ الأمَّة"[29].




أما صاحب "مختصر منهاج القاصدين" فهو يُفصِّل بيْن الرياء في العبادات؛ كالصلاة، والصَّدقة، وغير ذلك، وبيْن الرياء في طلَب الجاه والمنزِلة عند الناس بغير العبادات، فالأول حرام، والثاني لا يَحرُم، وهو كالمال، إلا أنَّ كسْبَ المال يكون بتلبيسات، وأسبابه خطيرة، فكذلك الجاه[30].



فصل: الرياء هو النفاق:

عندما نأتي لتعريف الرِّياء، ونقول هو: أن يُظهِر الإنسان خلافَ ما يُبطن، وتقسيمه إلى قسْم يُخرج من الملَّة، وقسم لا يُخرج من الملَّة، نجد الرِّياء أحدَ قِسميه، ومَن يتأمَّلْ حقيقة الرِّياء يرَ فيه أنه نوعٌ من التصنُّع والمداهنة للخلْق، وشيء من الظهور، وحُب التزيُّن بالزِّيِّ الظاهر على حساب السَّرائر، وفيه مِن اختلاف القوْل والعمل البوْن الشاسع، بل هو تمسُّكٌ مزعوم بالحقِّ، ليس على الوجه المراد، سرعانَ ما يكون فيه تنازلٌ عندما يتعارَض مع مصلحته، أو هو التقوُّل ولَيُّ الكلام على خلاف حقيقته على حسب المقام والمقال، وعلى حسب مَن يكون عندهم؛ كما قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]، ويقول الله تعالى: ﴿ إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [النساء: 142].



وهذا النَّوْع من النِّفاق ليس مقصورًا على فئة أو صورة معيَّنة من الناس، بل يكون في أخْيَر الناس وأصْلحهم، وأصحاب العِلم والدِّين، جاء عن الأسود قال: "كنَّا في حلْقة عبدالله، فجاء حُذيفةُ حتى قام علينا، فسلَّم، ثم قال: لقد أنزل النِّفاق على قوم خيْر منكم، قال الأسود: سبحان الله! إنَّ الله يقول: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145]، فتبسَّم عبدُالله، وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبدُالله فتفرَّق أصحابه، فرَماني بالحَصى فأتيتُه، فقال حذيفة: عجبتُ من ضَحِكه! وقد عرَف ما قلت: "لقد أنْزل النِّفاق على قوم كانوا خيرًا منكم، ثم تابوا فتاب الله عليهم"[31].



لقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يخافونه على أنفسِهم، وكان الواحِدُ منهم يعرِض نفسه على أخيه، ويتَّهم نفسه به؛ ليكونَ على بيِّنة من أمره؛ لذلك عندما جاء رجلٌ إلى حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - يقول له: "إني أخافُ أنْ أكون منافقًا، فقال: لو كنتَ منافقًا ما خِفتَ أن تكون منافقًا، إنَّ المنافق قد أمِن النِّفاق".



والنِّفاق على ضرْبين:

نفاق ينقل عن الملَّة: وهو الشكُّ في دين اللَّه تعالى، والردُّ لشَرْع رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم.



ونفاق لا ينقُل عن الملة ولا يُخرج عن الإسلام، ولكنَّه ينقص الإيمانَ، ويُذهِب حقيقتَه، ويُطفئ أنواره، ويَحرِم مزيدَه، ويُحبط الأعمال، ويوجِب المقْتَ والإعراض، وهو: الرياء والمداهنة، والتصنُّع للخلْق، والتزيُّن بالحق، وائتلاف الألْسنة واختلاف القلوب، وتفاوت القوْل والعمل، ومخالفة الأمر لما يَنهى عنه، واختلاف السرِّ والعلانية، وزيادة الظواهِر على السرائر.



وكان سهلٌ يقول: "المرائي حقًّا الذي يُحسِّن ظاهرَه؛ حتى لا تُنكر العامَّة والعلماء مِن ظاهره شيئًا وباطنه خراب"[32]، وهذا المعنى مِن النفاق الذي خافَه السَّلف، وكانوا منه على إشفاق، وما برِحوا من التحذير منه، ومناصحتهم لتجنُّبه وتجنُّب مواطنه.



قال الحسن: "إنَّ مِن النفاق اختلافَ السر والعلانية، واختلافَ اللسان والقلْب، واختلاف المدخَل والمخرَج"، ومَن الذي يخلو عن هذه المعاني؟! بل صارتْ هذه الأمور مألوفةً بيْن الناس معتادة، ونُسِي كونها منكرًا بالكلية، بل جرَى ذلك على قُرْب عهد بزمان النبوَّة، فكيف الظن بزماننا؟! حتى قال حذيفة - رضي الله تعالى عنه -: "إنْ كان الرجل ليتكلَّم بالكلمة على عهْد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيصير بها منافقًا، إنِّي لأسمعها من أحدِكم في اليوم عشْرَ مرَّات"[33].



باب: حكم العمل إذا خالطَه الرياء، وبيان أقسامه:

واعلمْ أنَّ العملَ إذا شابَه الرِّياء، واختلط به لا يخلو مِن الأقسام التالية:

أولاً: أن يكون رياءً محضًا لا يُراد به سوى مُرآةِ المخلوقين لغرَض دُنيوي، وهذا لا يكاد يصْدُر مِن مؤمن في العبادات القاصِرة؛ كالصلاة والصيام ونحوها، وإنَّما قد يصدر غالبًا في العبادات المتعَدِّية كالصَّدقة، وغيرها مِن الأعمال الظاهِرة، فيكون - والحالة هذه - هي حالة المنافقين، الذين قال الله فيهم: ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [النساء: 142]، فهذا العمل لا يشكُّ مسلِمٌ أنَّه حابط، وأنَّ صاحبه يستحقُّ المقْتَ والعقوبة مِنَ الله.



ثانيًا: أن يكون العملُ لله، ويشاركه الرِّياء؛ فإنْ كان في أصْله فهو باطِل وحابِط، كما جاء عن أبي هريرة عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يقول الله - تبارك وتعالى -: أنا أغْنى الشُّركاء عنِ الشِّرْك، مَن عمِل عملاً أشْرك فيه معي غيري، تركتُه وشِرْكَه))[34].



وعلى هذا طائفةٌ من السَّلف؛ منهم: عُبادة بن الصامت، وأبو الدرْداء، والحسن، وسعيد بن المسيّب، وغيرهم، وإن كان فيه خلاف عند المتأخِّرين[35].



ملاحظة: إذا خالَط نيةَ الجهاد أو غير ذلك نية غير الرياء؛ كأخْذ شيء من الغنيمة أو الأُجْرة على الخِدمة أو التجارة، هل يبطل عملُه أم لا؟ الصحيحُ من أقوال أهل العلم، والذي عليه النصوص: أنَّه لا يبطل، بل ينقص أجْرُه، كما جاء عن عبدالله بن عمرو، عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الغُزاة إذا غنِموا غنيمةً، تعجَّلوا ثلثي أجْرَهم، فإنْ لم يَغْنموا شيئًا، تمَّ لهم أجرُهم))[36].



وقال الإمام أحمد: "التاجِر والمستأجر والمكاري أجرُهم على قدْر ما يخلص مِن نيتهم في غزاتهم، ولا يكون مثل مَن جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره"[37]، وقال أيضًا فيمَن يأخذ جُعلاً على الجهاد: "إذا لم يخرجْ لأجل الدراهم فلا بأسَ أن يأخذ، كأنَّه خرَج لدينه، فإنْ أُعطي شيئًا أخذَه"[38].



وكذا رُوي عن عبدالله بن عمرو قال: "إذا أجْمع أحدُكم على الغزو، فعوَّضه الله رزقًا، فلا بأسَ بذلك، وأما إنْ أُعطي درهمًا غزَا، وإن مُنِع درهمًا مكَث، فلا خيرَ في ذلك".



وكذا قال الأوزاعيُّ: "إذا كانتْ نيَّة الغازي على الغزو، فلا أرَى بأسًا"[39].



ثالثًا: أن يكون أصْل العمل لله، ثم طرأت عليه نيَّة الرِّياء، فإنْ كان خاطرًا ودفعَه فلا يضرُّه بغيْر خِلاف، وإنِ استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضرُّه ذلك ويُجازَى على أصْل نيته؟



في ذلك اختلافٌ بيْن العلماء من السلَف، قد حكاه الإمامُ أحمد وابن جرير الطبري، ورجَّحَا أنَّ عمله لا يبطل بذلك، وأنه يُجازَى بنيته الأُولى، وهو مرويٌّ عن الحسَن البصري وغيرِه.



ثم ذكر ابن جرير أنَّ هذا الاختلاف إنَّما هو في عمل يرتبط آخرُه بأوَّله؛ كالصلاة، والصِّيام، والحج، فأمَّا ما لا ارتباطَ فيه؛ كالقراءة، والذِّكْر، وإنفاق المال، ونشْر العلم، فإنَّه ينقطع بنيَّة الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديدِ نيته[40].



وأمَّا إذا عمِل العملَ لله خالصًا، ثُمَّ ألْقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرِح بفضْل الله ورحمته، واستبشَر بذلك، لم يضرَّه ذلك.



وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أنَّه سُئِل عن الرجل يعمل العملَ لله مِن الخير، ويحمده الناس عليه، فقال: ((تِلك عاجِلُ بُشْرى المؤمن))[41].



مسألة: مَن أراد أن يكونَ ثوبُه حسنًا، ونعله حسنةً، هل يتعارض مع الرِّياء؟

هذا يكون على اختلاف المقاصِد والنيَّات، إذ إنَّ الإنسان لا يحبُّ أن يُرى بعين النقص، ويكون محلاًّ للازدراء من قِبل الآخرين.



وهذا أيضًا يمكن أن يكون على حسب عامَّة أهل البلد، وما يلبسون فيها، حينئذٍ لا بد أن يُراعى مثل هذه الجوانب؛ حتى لا يقع في الشُّهرة، فإنَّ الشهرة هي: كلُّ ما يَلفِت ويصرِف أنظار الناس إليه، فالمخالفة لِمَا عليه الناس في المباحات وغير المحرَّمات، بحيث يكون لافتًا للأنظار، فهو داخلٌ في باب الشُّهرة.



وهذا لا يدخل في باب الكِبْر كما يظنُّ البعض، فقد جاء مِن حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم - أنَّه قال: ((لا يدخُل الجنة مَن كان في قلْبه مثقال ذرَّة مِن كِبْر))، فقال رجل: إنَّ الرجل يجب أن يكون ثوبُه حسنًا، ونعلُه حسنة، فقال: ((إنَّ الله جميلٌ يحب الجمال، الكِبْر بَطَر الحق، وغَمْط الناس))[42].



وبالجملة، فمَا أحسنَ قولَ سهْل بن عبدالله التُّستري: "ليس على النفس شيءٌ أشقُّ مِن الإخلاص؛ لأنَّه ليس لها فيه نصيب"!



وقال يوسفُ بن الحسين الرازي: "أعزُّ شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتَهِد في إسقاط الرياء عن قلْبي وكأنَّه ينبت فيه على لوْن آخَر!"[43].



باب: الرياء جلي وخفي:

فالجلي: هو الذي يبعَث على العمل ويحمِل عليه.



وأخْفى منه قليلاً رياءٌ لا يبعث على العمل بمجرَّده، لكن يُخفِّف العمل الذي أُريد به وجه الله تعالى، كالذي يعتاد التهجُّدَ كلَّ ليلة ويثقل عليه، فإذا نزَل عنده ضيفٌ، نشِط له وسهُل عليه.



وأخْفى من ذلك ما لا يُؤثِّر في العمل ولا في التسهيل، لكنَّه مع ذلك مستبطَن في القلْب، ومتى لم يؤثِّر الرياء في العمل لم يكن له أن يُعرف إلا بالعلامات، وأجْلى علاماته أنه يُسَرُّ باطلاع الناس على طاعته، فرُبَّ عبدٍ مخلص يُخلص العمل، ولا يقصد الرياء بل يكرهه، ويتمُّ العمل على ذلك؛ لكن إذا اطَّلع الناس عليه سرَّه ذلك، وارْتاح له[44].



قال الشافعي - رحمه الله -: "لا يَعرف الرياء إلا مخلِص"؛ يعني: لا يتمكَّن في معرفة حقيقته، والاطلاع على غوامضه وخفاياه إلاَّ مَن أراد الإخلاص، فإنَّه يجتهِد أزمانًا في مطاولة البحث والفِكر، والتنقيب عنه، حتى يعرِفَه أو يعرِف بعضَه[45].



باب: الرياء ظُلمات بعضها فوقَ بعض:

في حقيقةِ الأمر: إنَّ المتقلِّب في الرياء، وفي أشكاله وأنواعه، إنَّما هو يتقلَّب في ظُلمات بعضها فوقَ بعض، وبعض أنواع الرِّياء أغلظُ وأشدُّ من بعض، والسليم مَن سلَّمه الله منها جميعًا:

الظلمة الأولى: وهي أغلظُها وأشدُّها، ألاَّ يكون مرادُ العبد الثوابَ أصلاً، كالذي يُصلِّي بين الناس ولو انفرد لم يُصلِّ.

الثانية: أن يُريد الرِّياء، ثم يقصد الثواب قصدًا ضعيفًا، ويكون الرياء هو الأصْل، فهذا قريبٌ من القسم الأول، وكلاهما ممقوتان عندَ الله - تبارك وتعالى.

الثالثة: أن يكونَ قصْد الرياء والثواب متساويين، فيكون الفسادُ على قدْر الصلاح، ولا يَسْلم مِن الإثم.

الرابعة: أن يكون الرِّياء مقَويًّا لنشاطه في العبادة، فهذا يُثاب على القصْد الصحيح، ويُعاقب على قصْده الفاسِد.

الخامسة: أن يكون في أوْصاف العبادة لا بأصْلها، كأنْ يراعيَ الناس في تطويل الرُّكوع والسُّجود، ويُحسن أكثرَ فيهما إذا رأى الناس[46].



باب: خطَر الرياء وضرره:

فصل: الرِّياء مُحبِط للأعمال:

لو لم يكنْ في الرِّياء إلا إحباط عِبادة واحدة، لكفَى في شؤمه وضررِه، فقد يحتاج الإنسانُ في الآخرة إلى عبادة تُرجِّح بها كِفَّة حسناته، وإلا ذُهِب به إلى النار، يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 16].



يقول ابن كثيرٍ عند هذه الآية: "مَن عمِل صالحًا؛ الْتماسَ الدنيا، صومًا أو صلاةً أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا التماسَ الدنيا، يقول الله: أُوفِّيه الذي الْتمس في الدُّنيا من المثابة، وحبِط عمله الذي كان يعمله الْتماسَ الدنيا، وهو في الآخِرة من الخاسرين"[47].



قال ابن حجر الهيتمي: "... قد بان لك بما سبَق مِن الآيات والأحاديث وكلام الأئمَّة، أنَّ الرياء محبطٌ للأعمال، وسببٌ للمقْت عندَ الله، واللعْن والطرد، وأنَّه من كبائر المهلِكات"[48].



فصل: أهل الرياء هم أوَّل مَن تُسعَّر بهم النار يومَ القيامة:

أوَّل روَّاد أهْل النار هم أهلُ الرِّياء؛ جراءَ الأعمال التي قاموا بها وعملوها، لَم يبتغوا بها وجهَ الله - تبارك وتعالى - وإنَّما مِن باب ليقال عنهم على ألْسِنة الناس، ويلهجون بذِكْرهم، فكان الجزاءُ مِن جنس العمل ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40]؛ حيث جاء مِن حديثِ أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ أوَّل الناس يُقضَى يومَ القيامة عليه رجلٌ استُشهد، فأُتي به، فعرَّفه نِعمه عليه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهدت، قال: كذبتَ، ولكنَّك قاتلت؛ لأنْ يُقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسُحِب على وجهه، حتى أُلْقِي في النار، ورجل تعلَّم العِلم وعَلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نِعمه عليه فعَرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنَّك تعلمتَ العلم؛ ليُقال: عالِم، وقرأتَ القرآن؛ ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسُحِب على وجهه حتى أُلْقِي في النار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه مِن أصناف المال كلِّه، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمه عليه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِن سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنَّك فعلتَ؛ ليقال: هو جوَاد، فقد قيل، ثم أمر به، فسُحِب على وجهه، حتى أُلْقِي في النار))[49].



فصل: الرياء يُقابَل صاحبه بالحرمان مِن الأجر والثواب وتوفيق الله تعالى:

يُحرَم المراؤون مِن الأجْر والثواب على أعمالهم وما يقومون به، كثيرٌ من الناس يجتهد ويعمل الأعمالَ الصالحة من صِلاة وصيام، وصَدقة وبرٍّ وإحسان، وجهاد في سبيل الله، وغير ذلك، ولكن يأتي يومَ القيامة لا أجْر له ولا ثواب! إنَّه الرياء.



ويمكن أن يُعطَى بعض أجره في الدنيا، وليس كل الناس، بل لِمَن أراد الله له ذلك؛ كما قال الله - جل جلاله -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ [الإسراء: 18]، ويقول الحق - جلَّ شأنه -: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23].



يقول ابن سعدي عندَ هذه الآية: "﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ﴾؛ أي: أعمالهم التي رجَوْا أن تكون خيرًا لهم، وتعِبوا فيها ﴿ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾؛ أي: باطلاً مضمحلاً، قد خَسِروه وحُرِموا أجْره، وعوقبوا عليه؛ وذلك لفقْده الإيمانَ، وصدوره عن مكذِّب لله ورسله، فالعمل الذي يقبله الله: ما صَدَر عن المؤمن المخلِص المصدِّق للرسل المتَّبع لهم فيه"[50].



وجاء من حديث أبي أُمامة قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجْر والذِّكْر ما له؟ فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا شيءَ له))، ثم قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله لا يقبل من العمل إلاَّ ما كان خالصًا، وابتُغي به وجهُه))[51]، قال ابن مسعود: "لا تعلَّموا العِلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرِفوا به وجوهَ الناس إليكم، وابتغوا بقولِكم وفعْلكم ما عندَ الله، فإنَّه يبقى ويذهب ما سواه"[52].



فصل: الرياء، والوعيد الشديد بمَن يُرائي بعمله:

لقد توعَّد الله - تبارك وتعالى - الذين يُراؤون بأعمالهم، ولم يُخلِصوا له الوعيدَ الشديدَ بقوله - جلَّ جلاله -: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 18].



وقد ورد الوعيدُ على تعلُّمِ العِلم لغير وجه الله، كما جاء مِن حديث أبي هُريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن تعلَّم عِلمًا مما يُبتغَى به وجه الله، لا يتعلَّمه إلا ليصيبَ به عرَضًا من الدنيا، لم يَجِدْ عَرْفَ الجنة يومَ القيامة))[53]؛ يعني: رِيحها.



ورُوي من حديث كعْب بن مالك، عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن طلَب العلم ليماريَ به السفهاء، أو يُجاريَ به العلماء، أو يصرفَ به وجوه الناس إليه، أدْخلَه الله النار))[54].



وقد ورَدَ الوعيدُ على العمل لغيرِ الله عمومًا، كما جاء مِن حديث أُبيِّ بن كعْب - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((بشِّرْ هذه الأمَّة بالسَّناءِ والرِّفعة، والنصْر والتمكين في الأرض، فمَن عمِل منهم عملَ الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخِرة نصيب))[55].



فصل: الرياء آفةٌ من الآفات يُهلِك ويُفسِد:

مَن ولَج في باب الرِّياء يُخشى عليه التَّلَفُ والهلاك، ولن يسلَمَ قلبه من المرض ودِينه من الفساد؛ لأنَّ لكلِّ شيء آفةً تفسده وتهلكه، وآفةُ القلْب والدِّين الرياءُ.



قال عبداللَّه بن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "لكلِّ شيء آفة، وآفة العِلم النسيان، وآفة العِبادة الكسل، وآفة التِّجارة الكذب، وآفة السَّخاء التبذير، وآفة الجمال الخُيلاء، وآفة الدِّين الرِّياء، وآفة الإسلام الهَوى"[56].



وإذا لم يَسْعَ العبد لمدافعته وتداركه، بل واسترسل معه، وقَع في التهلُكة.



قال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى -: "... ثُمَّ إنَّ القلب يعرِض له مرضَانِ عظيمان، إن لم يتداركهما العبدُ تراميَا به إلى التلَفِ ولا بد، وهما: الرِّياء والكِبْر"[57].



فصل: الرياء فِتنة عقدها الهوى على القلْب:

حقًّا لقد افتتن كثيرٌ من الناس بهذا الداء والمرَض المستفحل، فدخل إلى قلوب العلماء والزهَّاد، والعبَّاد وأهل الصلاح؛ فانحرف بهم عن مقصودهم ومبتغاهم، وصَرَفهم عن رضا ربهم.



وكم أصْبح مِن الناس أسيرٌ لهواه وشهواته وملذَّاته، فانحرَف قلْبه عن أمْر الله ومراده؛ إذ المأسور مَن أسَرَه هواه!



ولا يَخْفى على كلِّ لبيب خطرُ الهوى وفِتنته على العباد، بل قد يصِل ببعض الخلْق إلى أن يجعلَ الهوى إلهَه من دون الله - تبارك وتعالى -: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ [الجاثية: 23]، فجاء التحذيرُ منه في النصوص لشدَّة خطره، وقال - تعالى -: ﴿ فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى ﴾ [النساء: 123]، وقال: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50].



وقد جاء مِن حديث أنس - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاث مهلكات: شُحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع، وإعجاب المرْء بنفسه))[58]، ولَمَّا سُئِل الإمام الشافعي عن الرِّياء، فقال: "الرياء: فِتنةٌ عقدَها الهوى حيالَ أبصار قلوب العلماء، فنظروا إليها بسوء اختيار النُّفوس، فأحبطتْ أعمالهم"[59].



باب: الرياء؛ صُوره ومظاهره:

الرِّياء صُوره كثيرةٌ لا تخفى، ومظاهره متعدِّدة لا تغيب عن أصحاب الفِطر السليمة والعقول المستنيرة بنُور الإيمان والإخلاص، وله علاماتٌ وملامحُ يُظهرها الذين يريدون مِن الناس الشكرَ الجزيل، والحمد الوفير.



وهو يكون مِن أهل الدِّين بنوعٍ، ومِن أهل الدنيا بنوع آخَرَ، والجميع يجمعهم طلبُ الدنيا وما عند الناس مِن الحمْد والثناء، إلا أنَّ كلَّ واحد منهم يظهر باسمٍ يختلف عن الآخر، وإليك نماذج من ذلك:

النموذج الأول: أن يكون مِن جهة البدن، بإظْهار النُّحول والصَّفار؛ ليريَهم بذلك شدَّة الاجتهاد، وغلَبة خوف الآخرة.



وكذلك يُرائي بتشعُّث الشَّعْر؛ ليظهرَ أنه مستغرقٌ في همِّ الدِّين، لا يتفرَّغ لتسريح شعره، ويقرُب مِن هذا خفْض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتَين؛ ليدلَّ بذلك على أنَّه مواظبٌ على الصَّوم.



ولهذا قال عيسى بن مريم - عليه السلام -: "إذا صام أحدُكم فليدهنْ رأسَه، ويُرجِّل شَعْره"؛ وذلك لمَا يُخاف على الصائم مِن آفات الرياء.



قال يوسف بن الحسين الرازي: "أعزُّ شيءٍ في الدنيا الإخلاص، وكم أجتَهِد في إسقاط الرِّياء عن قلْبي، وكأنَّه ينبت فيه على لونٍ آخَرَ!"[60]، فهذا الرياء من جهة البدن لأهْل الدِّين.



وأمَّا أهلُ الدنيا، فيراؤون بإظهار السمن، وصفاء اللون، واعتدال القامة، وحسن الوجه، ونظافة البدن؛ ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾ [المنافقون: 4].




النموذج الثاني: الرِّياء من جهة الزِّيِّ، كالإطراق حالةَ المشي، وإبقاء أثَر السجود على الوجه، وغِلظ الثياب، ولُبْس الصُّوف، وتشمير الثِّياب كثيرًا، وتقصير الأكمام، وترْك الثوب مخرقًا غير نظيف، ومن ذلك لبس الثِّياب المرقَّعة، ومنه التقنُّع فوقَ العمامة؛ لتنصرفَ إليه الأعين بالتمييز بتلك العادة.



وأمَّا أهل الدنيا، فمراءاتهم بالثِّياب النفيسة، والمراكِب الحسَنة، وأنواع التجميلِ في الملبس، والمسْكن وأثاث البيت، وهم في بيوتهم يلبسون الثيابَ الخَشِنة، ويشتدُّ عليهم أن يُروا بتلك المنزِلة.



وهذا داخلٌ في قوله - عليه الصلاة والسلام - كما جاء عن ابن عمَرَ قال في حديث شريك يرفَعه، قال: ((مَن لبِس ثوبَ شُهرة ألْبَسه الله يومَ القيامة ثوبًا مثلَه))، زاد عن أبي عَوانة: ((ثم تُلهَب فيه النار))[61].



النموذج الثالث: الرِّياء بالقول، فرِياء أهل الدِّين بالوعْظ والتذكير، وحِفْظ الأخبار والآثار؛ لأجْل المحاورة، وإظهار غزارةِ العِلم، والدلالة على شدَّة العناية بأحوال السَّلف، وتحريك الشَّفتين بالذِّكْر في محضر الناس، وإظهار الغَضَب للمنكرات بيْن الناس، وخفْض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن؛ ليدلَّ بذلك على الخوف والحزن، ونحو ذلك، وهذا مما حذَّر منه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما جاء من حديث كعْب بن مالك، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن طلَب العِلم ليماريَ به السفهاء، أو يُجاري به العلماء، أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه، أدْخله الله النار))[62].



وقال ابن مسعود: "لا تعلَّموا العِلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، أو لتُجادلوا به الفقهاء، أو لتصرِفوا به وجوهَ الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعْلكم ما عندَ الله، فإنَّه يبقى ويذهب ما سواه"[63].



قال مالك بن دينار: "القُرَّاء ثلاثة: قرَّاء الرحمن، وقرَّاء الدنيا، وقرَّاء الملوك، وإنَّ محمد بن واسِع مِن قرَّاء الرحمن"[64]، قال محمد بن المبارك الصُّوري: "أظْهِر السَّمْت بالليل، فإنه أشْرف مِن سمتك بالنهار؛ لأنَّ السمت بالنهار للمخلوقين، وسَمْت الليل لربِّ العالمين"[65].



وأمَّا أهل الدنيا فيكون بالكلام المرْموق والتزلُّف للآخَرين، والمجاملة على حساب الدِّين في الأماكن العامَّة والحفلات؛ لاستمالة قلوب الآخَرين، وحِفْظ الأشعار الأمثال، والتفاصُح في العبارات، وغير ذلك ممَّا جاء النهيُ عنه في السُّنة المطهَّرة مِن حديث أبي ثَعلبة الخُشني: ((إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربَكم مني في الآخِرة محاسنَكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم منِّي في الآخِرة مساويكم أخلاقًا، الثَّرْثارون المتفَيْهِقون المتشدِّقون))[66]، والمتفيهقون: همُ الذين يتوسَّعون في الكلام، ويفْتحون به أفواههم، والمتشدِّقون: المتوسِّعون في الكلام من غيْر تحفُّظ أو احتراز.



النموذج الرابع: الرِّياء بالعمل: كمُراءاة المصلِّي بطول القِيام، وتطويل الرُّكوع والسُّجود، وإظْهار الخشوع، وكذلك بالصَّوْم والغزو، والحج والصدقة، ونحو ذلك.



قال ابن عُيينة: "كان مِن دعاء مطرِّف بن عبدالله: اللهمَّ إني أستغفرك مما تبتُ إليك منه، ثم عدتُ فيه، وأستغفرك مما جعلتُه لك على نفسي، ثم لم أَفِ لك به، وأستغفرك ممَّا زعمتُ أني أردتُ به وجهَك، فخالط قلْبي منه ما قد علمتَ"[67].



وأمَّا أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختُر والاختيال، وتحريك اليَدَيْن، وتقريب الخُطى، والأخْذ بأطرافِ الذَّيْل، وإمالةِ العِطفين؛ ليدلُّوا بذلك على الحِشْمة، وهذا مخالِف لقول الله - تعالى -: ﴿ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18].



النموذج الخامس: المراءاة بالأصْحاب والزائرين، كالذي يتكلَّف أ
المشاهدات 2688 | التعليقات 0