سورة الحجرات (1)

فهد عبدالله الصالح
1439/06/06 - 2018/02/22 09:45AM

 

الحمد لله الذي حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وجعلنا من الراشدين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا اله إلا الله وحدة لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله: لقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن هدى للمتقين ونوراً يهدى به عباده الصالحين ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].

في القرآن الكريم أيها الإخوة: الكثير من التوجيهات الربانية التي تحتاجها البشرية في مسيرة حياتها.

وسورة الحجرات سورة ربانية جليلة عظيمة تتضمن حقائق عن الإيمان والشريعة وعن الوجود والإنسانية، إنها حقائق تفتح للعقل البشري آفاق واسعة وتثير في النفس معانيَ كبيرةً، وهذه السورة تتحدث عن قواعد التربية والتهذيب وعن مبادئ التشريع والتوجيه.

المتأمل لهذه السورة العظيمة يجد أن الإسلام يريد عالماً متأدبا مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومتأدباً مع نفسه ومع غيره، عالماً نقى القلب نظيف المشاعر عف اللسان وقبل ذلك عف السريرة.

معاشر المسلمين: تبدأ السورة بنداء الكرامة وهو الإيمان هذا النداء المحبب للنفوس والمحرك للقلوب، يقول ابن عباس رضي الله عنهما إذا سمعت الله تعالى يقول يأيها الذين آمنوا: فأرعها سمعك فإنه خير يؤمر به أو شر ينهى عنه ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1].

إنه أدب نفسي مع الله تعالى وهو أعلى أنواع الأدب، إنه المعتقد الصحيح في التلقي والتنفيذ وهو أصل من أصول التشريع، إنها التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم، إنه مرآة الإيمان الصادق والنزاهة من النفاق وأهله، فلا يسيء الأدب مع الله إلا كافر لا يؤمن بالله صراحة، كاليهود الذين قالوا يد الله مغلولة وقالوا: إن الله فقير  تعالى الله عن ذلك، أو كالنصارى الذين زعموا أن لله ولداً وأنه ثالث ثلاثة والعياذ بالله،  ويسيء الأدب مع الله - أيضاً - المنافقون في نقضهم لأحكام الشريعة وسخريتهم بآيات الله واستهزائهم بالمؤمنين والمؤمنات عياذاً بالله من النفاق.

وكما يكون الأدب مع الله تعالى يكون مع نبيه صلى الله عليه وسلم ففي حياته يكون الأدب في الحديث والخطاب والتوقير في القلوب توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم ويميز شخص الرسول صلى الله عليه وسلم من بينهم، والله عز وجل يدعوهم لذلك ويحذرهم من مخالفته ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].

ولقد تربى جيل الصحابة رضي الله عنهم على هذا الفهم الواعي فكانوا قمة في الأدب والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما جاء من حديث أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ..﴾ [الحجرات: 2]، كان ثابت بن قيس بن الشماس رضي الله عنه رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله أنا من أهل النار، حبط عملي وجلس في أهله حزيناً، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقدك رسول الله مالك؟ قال أنا الذي أرفع صوتي فوق النبي واجهر له بالقول، حبط عملي أنا من أهل النار فاتوا النبي فاخبروه بما قال: فقال (لا بل هو من أهل الجنة)، قال أنس رضي الله عنه: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة ) رواه الإمام أحمد في مسنده.

والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يكون في احترام شريعته وعدم تقديم العقل عليها والاعتزاز بها والعمل بموجبها والدعوة لها.

ولقد وصف الله تعالى المتأدبين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم أصحاب تقوى وأن لهم مغفرة وأجراً عظيماً، وفي المقابل وصف الذين ينادونه من وراء بيته كأنهم أصغر أبنائهم ووصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون وكان الأولى في حقهم كما قال الله تعالى ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 5].

ولقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع وتجاوزوا به كل أستاذ وعالم جليل لا يزعجونه حتى يخرج إليهم ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم، يحكى أن أبا عبيد العالم الزاهد الرواية الثقة رحمه الله أنه قال: ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.

أيها المسلمون: كان التوجيه الأول في أول السورة لاحترام وتوقير جهة التلقي عظمة الله عز وجل وجناب رسوله، ثم كان التوجيه الثاني في أدب التعامل مع قائد الأمة حتى يصبح بعد ذلك للتوجيهات قيمتها ووزنها وطاعتها، ثم جاء النداء الثالث يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء وكيف يتصرفون بها ويؤكد ضرورة التثبت من مصدرها ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].

وخصص الفاسق - أيها المؤمنون - لأنه مظنة الكذب وحتى لا تفقد الثقة في مجتمعات المسلمين لأن الأصل أن يكون أفرادها موضع ثقة وأن تكون أنباؤهم صادقة مأخوذاً بها، وكلمة فاسق تشمل كل ما اتصف بالفسق والعصيان، فالمسلم لا يأخذ الحق من الفاسق ولو تزين في الظاهر، والمسلم في هذا العصر لا يجوز في حقه أن يكون مصدر معلوماته ومنطلقات حكمه الصحف والمجلات والفضائيات التي ثبت الفسوق والفجور والعصيان، حتى إن بعضها يقلب المفاهيم ويطمس الحقائق ويشوه الفضيلة ويزين الرزيلة ويهاجم الشريعة، وصدق الله العظيم بقوله ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]، إنه ندم يصيب المؤمن في الدنيا إذا اكتشف الحقيقة وندم يصيبهم في الأخرى جزاء ما اقترفته ألسنتهم وسائر جوارحهم ولكن الله تعالى لا يترك عباده المؤمنين هملاً وضيعة لا يتركهم عالة على خبر الفاسق وعلى مروجي الأكاذيب بل يطمئنهم بوجود الوحي المنزل بقوله تعالى ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات: 7، 8]، لقد أراد الله بعباده المؤمنين خيراً حين حبب إليهم الإيمان وزينهم به وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، إنه بقد قوة الإيمان وتمسك الإنسان به تكون قوة كره الكفر والفسوق والعصيان.

وبهذه النعمة وبهذه المنة - أيها الإخوة - يكون الرشاد والفلاح أولئك هم الراشدون، والإنسان لا يسعد ولا يسلم في هذه الدنيا إلا إذا اسلم نفسه لله ورضي بحكم الله وبما قسمه الله له وبقضائه وقدره فالله تعالى يقول ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23]، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) ألا فاتقوا الله أيها المسلمون وتأدبوا مع الله ورسوله ومع أنفسكم ومع الخلق أجمعين واحذروا الفاسق بشتى صوره وأشكاله، واتقوا الله الذي انتم به مؤمنون.

الخطبة الثانية

أما بعـد: فلا تزال توجيهات سورة الحجرات تتوالى للأمة المسلمة ولا يزال الحديث موصولاً عن الفاسق، فالفاسق سواء كان أنساناً أو جماداً مسيراً من فاسق فأثره السيئ يتعدى الفرد إلى المجتمع إلى الأمة  بأكملها وبعد أن حذر الله من الانسياق وراء خبر الفاسق، عقب الله تعالى بقوله عز وجل ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 9، 10]، قاعدة تشريعية علمية لصيانة المجتمع من الخصام والتفكك.

والإصلاح يكون بين الناس كما قال الله تعالى بالعدل والقسط، وإن الإصلاح بين الناس – أيها الإخوة – باب عظيم من أبواب الخير فهو يجمع الشمل ويقارب بين القلوب ويوحد الكلمة قال تعالى ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].

والخلاف وارد لاختلاف النفوس والطبائع سواء كان بين زوجين أو شريكي تجارة أو زميلين أو جارين أو قريبين أو غيرهما، وغالباً ما تكون المشكلة صغيرة والهوة ضيقة فهي تحتاج إلى طرف ثالث ناصح يوفق ويقرب، وبعد أن أمر الله بذلك ذكر الجميع بالرابطة الوثيقة بينهم والتي جمعتهم بعد تفرق والفت بينهم بعد الخصام ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10]، ورحمة الله أيها المؤمنون لا تنال إلا بتقواه فلما ذكر الله المتخاصمين ذكر الأمة جمعا بقوله تعالى ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].

ألا فاتقوا الله أيها المسلمون وافعلوا الخير لعلكم ترحمون، ثم صلوا على البشير النذير...

وأقول قولي هذا....




المشاهدات 1970 | التعليقات 0