سورة البقرة أخذها بركة وتركها حسرة
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالنا منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ الله: القرآنُ العظيمُ كلامُ اللهِ جلَّ وعلا، وهو كتابُ هدايةٍ ونورٍ ورحمةٍ وشفاءٍ، وهو علاجٌ لجميعِ الأمراضِ النفسيةِ والجسديةِ، ومِنْ أعظمِ أسبابِ الوقايةِ مِنْ شياطينِ الإنسِ والجنِ، ولا شفاءَ لأرواحِ الموحِّدِينَ وقلوبِ العابدينَ إلا بالقرآنِ.
وقَدْ خصَّ اللهُ جلَّ وعلا بعضَ سُوَرِه وآياتِهِ بِبَعْضِ الفَضائِلِ التي لا تُوجَدُ في غيرِها. ومنهَا سورةُ البقرةِ، وقد افْتَتَحَهَا اللهُ جلَّ وعَلا بِذِكْرِ القرآنِ وَصِدْقِهِ وهِدايَتِهِ لِلمُتقينَ وأوْصافِهِمْ، والكافرينَ، والمنافقينْ، وذكْرِ قصةِ بني إسرائيلَ، وبعضِ أحكامِ العباداتِ والمعاملاتِ وغيرِهَا. وقد اشتملتْ هذهِ السورةُ على كثيرٍ من الفضائلِ، ومن ذلكَ:
أولاً: أنَّ أخْذَهَا بركةٌ، وترْكَها حسرةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البطلةُ: قالَ صلى الله عليه وسلم:(اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ). قالَ مُعاوِيَةُ: بَلَغَنِي أنَّ البَطَلَةَ: السَّحَرَةُ. (رواه مسلم).
ثانياً: أنَّ قراءتَهَا تزيدُ المسلمِ حصانةً ومنعةً وحفظًا من الشياطينِ في نفسهِ وبيتهِ، قال صلى الله عليه وسلم:(لا تَجْعَلوا بيوتَكم مقابرَ، إنَّ الشيطانَ يَنْفِرُ من البيتِ الذي يُقْرَأُ فيه سورةُ البقرةِ)(رواه مسلم).
أي لا تَجْعَلُوا بُيوتَكُم خالِيَةً مِن الذِّكرِ والعِبادَة، فتكونُ كالمقابرِ، وتكونون َكالمَوْتَى فيها. وخاصةً قراءةَ سورةِ البقرةِ والتي يَنْفِرُ بسببِهَا الشيطانُ من البيتِ الذي تُقرَأُ فيهِ.
ثالثًا: اشتمالِهَا علَى أعظمِ آيةٍ فِي القرآنِ الكريمِ، وهي آيةُ الكرْسِيِّ فعن أُبَىِّ بن كعب رضي الله عنهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلَّمَ قالَ له: (يَا أَبَا الْمُنْذِرِ! أتَدري أيُّ آيةٍ من كتابِ اللهِ معَكَ أعظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلمُ. قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ! أتَدري أيُّ آيةٍ من كتابِ اللهِ معَكَ أعظمُ؟ قلتُ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. قال: فضَربَ في صَدري؛ وقال: [واللهِ] لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذرِ!)(رواه مسلم).
رابعًا: مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ خَاتِمَتِهَا، فقدْ قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمِ: (الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) (رواه مسلم). وعن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهمَا قالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سَمِعَ نَقِيضاً مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ فَسَلَّمَ، وَقَالَ: (أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ)(رواه مسلم).
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب}[آل عمران:7]
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعدُ:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنَّ منْ فضائِلِ هذه السُّورَةِ أيضًا ما يلي:
خامسًا: أنّ سُورتَي البقرةَ وآلِ عمران تُظِلّان صاحبَهما وتحاجّانِ عنه يومَ القيامة قال صلى اللهُ عليه وسلم: (اقرؤوا الزهْرَاوينِ: البقرةَ وآلَ عمرانَ، فإنَّهما يأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غمامَتانِ أو غيايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقَانِ من طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عن أصحابِهما)(رواه مسلم).
سادسًا: تقديمُ صاحبِهَا في الإمارةِ: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعث بعثًا وهُم ذُو عددٍ فاسْتَقْرَأهُم فقرأَ كُلُّ رجلٍ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَتَى على رجلٍ مِنْ أحدَثِهِمْ سِنًّا أيْ؛ أصغرِهِمْ سِنًّا، فقالَ: (مَا مَعَكَ يَا فُلَانُ؟) قالَ: مَعِيَ كَذَا وكَذَا، وسورةُ البقرةِ، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (أَمَعَكَ سُورَةُ البَقَرَةِ؟!) قالَ: نَعَم، قالَ: (اذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ)(رواه الترمذي وحسنه).
فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وأَكْثِرُوا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي بيوتِكُمْ، وَخَاصَّةً سُورَةُ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِ أَنْ يُفَرِّطَ فِي قِرَاءَتِهَا مَهْمَا شَغَلتْهُ الدُّنْيَا أو واجهتهُ الصّعاب، وَلِيَتَذَكّرٍ أَنَّ كثيرًا مِنْ وقْتِهِ يَضِيعُ هَبَاءً مَنْثُورًا فِي غيرِ مَنْفَعَةٍ، وَأَنَّهُ إِذَا حَرِصَ عَلى قِرَاءَتِهَا، مَعَ تَدَبُّرِهَا وتَعَلُّمِ مَا اشْتَمَلتْ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانٍ حَازَ الْخَيْرَ الكثيرَ.
أسألُ اللهَ تعالى أنْ يجعلنَا منْ أهلِ القرآنِ التَّالِينَ لهُ آناءَ الليلِ وأطرافَ النَّهَارِ.
هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمد بن عبدِ اللهِ فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ بذلكَ فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ عَلِيمًا: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:٥٦).
خطبة الجمعة: 1441/7/18هـ