سلوا اللهَ العفوَ والعافيةَ
د. محمود بن أحمد الدوسري
سَلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ
د. محمود بن أحمد الدوسري
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد: حَرِيٌّ بالمؤمن أنْ يُحافِظَ على أذكار الصباح والمساء؛ تجديداً للإيمان, وتقويةً لِصِلَتِه بالله تعالى, واعترافاً بِنِعَمِ الله عليه, واعتماداً على الله تعالى دون ما سواه, وإقراراً وإذعاناً بربوبيته وألوهيته تبارك وتعالى.
عباد الله .. من الأدعية المباركة التي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحافظ عليها كلَّ صباحٍ ومساء؛ بل كان لا يَدَعُها كلَّ ما أصبح وأمسى: ما ثبت عن ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ, اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي, اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي, وَآمِنْ رَوْعَاتِي, اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ, وَمِنْ خَلْفِي, وَعَنْ يَمِينِي, وَعَنْ شِمَالِي, وَمِنْ فَوْقِي, وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي». وفي رواية: «وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» صحيح – رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
ومَنْ أُعطِيَ العافيةَ في الدنيا والآخرة؛ فقد كَمُلَ نصيبُه من الخير؛ فعن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ» صحيح - رواه أحمد والترمذي. وعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رضي الله عنه – قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ قَالَ: «سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ». فَمَكَثْتُ أَيَّامًا, ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ؛ فَقَالَ لِي: «يَا عَبَّاسُ! يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ! سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» صحيح – رواه أحمد والترمذي. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: «يَا عَمِّ! أَكْثِرِ الدُّعَاءَ بِالْعَافِيَةِ» حسن - رواه الطبراني والحاكم. قال النووي - رحمه الله: (وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرِ بِسُؤَالِ الْعَافِيَةِ, وَهِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِدَفْعِ جَمِيعِ الْمَكْرُوهَاتِ فِي الْبَدَنِ وَالْبَاطِنِ, فِي الدِّينِ, وَالدُّنْيَا, وَالْآخِرَةِ).
وقال الشوكاني - رحمه الله: (فَلْينْظِر الْعَاقِلُ مِقْدَارَ هَذِه الْكَلِمَة الَّتِي اختارَها رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعَمِّهِ من دون الْكَلِم, ولْيُؤمِنْ بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلم, واخْتُصِرَتْ لَهُ الحِكَمُ. فَإِنَّ مَنْ أُعْطِيَ الْعَافِيَةَ؛ فَازَ بِمَا يرجوه وَيُحِبُّهُ قَلْباً وقالباً, ودِيناً وَدُنْيا, وَوُقِيَ مَا يَخافُه فِي الدَّارَيْنِ عِلْماً يَقِيناً, فَلَقَد تَوَاتَرَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دعاؤه بالعافية, وَورد عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَفْظاً وَمعنًى من نَحْوِ خمسينَ طَرِيقاً, هَذَا وَقد غُفِرَ لَهُ مَا تقدَّمَ من ذَنبِه وَمَا تَأَخَّر, وَهُوَ الْمَعْصُومُ على الْإِطْلَاقِ حَقِيقَةً, فَكيف بِنَا وَنحنُ غَرَضٌ بَين النَّفسِ, والشيطانِ, والهوى؟).
عباد الله .. العفو: مَحْوُ الذنوب وسَتْرُها, والتَّجاوز عنها. والعافية: السلامةُ من العُيوبِ والآفات, وتأمينُ اللهِ لعبده من كلِّ نِقمةٍ ومِحنة, بصرف السُّوء عنه, ووقايتِه من البلايا والأسقام, وحِفْظِه من الشرور والآثام. وأنْ يرزقه الصبرَ, والرِّضا, والاحتساب عند نزول الآفات.
والعافية في الدِّين: طلب الوقاية من كلِّ أمرٍ يشين الدِّين, أو يُخِلُّ به؛ كالشرك, والمعاصي, والابتداع, وتركِ ما يجب, والتَّساهلِ في الطاعات.
والعافية في الدُّنيا: طلب الوقايةِ من شرورها, ومصائبِها, وكلِّ ما يضر العبدَ من مصيبةٍ, أو بلاءٍ, أو ضَرَّاء.
والعافية في الآخرة: طلب الوقايةِ من أهوال الآخرة, وشدائدها, وما فيها من أنواع العقوبات.
والعافية في الأهل: وِقايتُهم من الفِتن, وحمايتُهم من البلايا والمِحن, والأمراضِ والأسقام.
والعافية في المال: السَّلامة من الآفات التي تَحْدُثُ فيه, وحِفْظُه مِمَّا يُتلِفه؛ من غرقٍ, أو حريقٍ, أو سرقةٍ, ونحو ذلك. فجَمَعَ في ذلك سؤالَ اللهِ الحِفظَ من جميع العوارض المُؤذِية, والأخطارِ المُضِرَّة.
* وقوله: «اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي»: العورة: كلُّ ما يُستَحَى من إظهاره, وأصْلُها من العار, وهو المَذَمَّة. والمعنى: اللهم اسْتُرْ عُيوبي وخَلَلِي وتقصيرِي, وكلَّ ما يسوؤنِي كشفُه, ويدخل في ذلك الحِفْظُ من انكشاف العورة للرجل والمرأة على حدٍّ سواء. وحريٌّ بالمرأة المسلمة أنْ تُحافظ على هذا الدعاء المبارك, ولا سيما في هذا العصر الذي كَثُرَ فيه تَهَتُّك النساء, وعدمُ عنايَتِهِنَّ بالسَّتر والحِجاب في أنحاءٍ شتَّى من العالَم. فالمرأة المسلم تدعو ربها سُبحانه أنْ يَمُنَّ عليها بستر عورتها في هذا الزَّمن الصعب.
والعورات – أيضاً – منها: ما هو حِسِّي, ومنها: ما هو مَعْنوي؛ فالعبد يسأل ربَّه أنْ يستر عليه عوراتِه, فلا يفضحه في الدنيا, ولا في الآخرة, وإنما يستر عليه عُيوبَه, ويغفر له ذنوبَه, ويُسدِل عليه سِترَه, ويجعله في كَنَفِه وحِفْظِه.
* وقوله: «وَآمِنْ رَوْعَاتِي»: الرَّوعات: جَمْع رَوْعَة, وهو الخوف والحزن, ففي هذا سؤال الله أنْ يُجَنِّبَه كلَّ أمرٍ يُخِيفُه, أو يُحزِنُه, أو يُقْلِقُه, وذِكرُ الرَّوعات بصيغة الجَمْع إشارة إلى كثرتها وتعدُّدِها.
الخطبة الثانية
الحمد لله ... عباد الله .. ثم قال في خِتام هذه الدعاء: «اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ, وَمِنْ خَلْفِي, وَعَنْ يَمِينِي, وَعَنْ شِمَالِي, وَمِنْ فَوْقِي, وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»: استوعب الجِهاتِ السِّت؛ ففيه سؤال الله الحِفظَ من المهالِكِ والشُّرور التي تعرض له من جميع الجهات, وهو لا يدري من أيِّ جهةٍ قد يَفْجَأُه البلاء, أو تَحُلُّ به المُصيبة.
وتأمَّلْ قولَه: «وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»: أي: أَهْلَك من تحتي, وهو الخَسْف, وخَصَّ الاستعاذةَ من الاغتيال من الجهة السُّفلى؛ لأنه أشدُّ إيلاماً وأشقُّ, ولأنه خَفِيٌّ جداً, من حيث لا يشعر المُغْتال, ولا يُمكِن التَّحرُّزُ منه, ولا حِيلةَ في دَفْعِه, ولأنه من عذاب اللهِ لِكَثيرٍ من الكفار؛ كما قال سبحانه عن قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81], وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} [العنكبوت: 40]. ولأنه مُفاجِئٌ وسريع, فلا فُرصةَ للتوبة, أو التَّوصِية.
قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65]. فالله تعالى قادِرٌ على إرسال العذاب من كلِّ جهة؛ فاحذروا من الإصرارِ على المعاصي, فيُصِيبُكم من العذاب ما يُتْلِفُكُم ويمحقُكُم؛ كما حَلَّ بِمَنْ قبلَكم.
والشيطان الرجيم يتربَّصُ بالإنسان من جميع الجهات؛ لِيُوقِعَه في المصائب والمعائب, ولِيَجُرَّه إلى البلايا والمهالِك, وليُبْعِدَه عن سبيل الخير وطريق الاستقامة؛ كما في دعواه: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]. قال ابن كثير - رحمه الله: (فِي هَذا الْحَدِيثِ: الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَاتِهِ كُلِّهَا).
فالمرء بحاجة إلى حِصْنٍ من هذا العدو, وَوَاقٍ له من كَيدِه وشَرِّه, وفي هذا الدعاء العظيم تحصينٌ للإنسان أنْ يَصِلَ إليه شَرُّ الشيطان من أيِّ جهةٍ من الجِهات؛ لأنه في حِفْظِ اللهِ وكَنَفِه ورِعايتِه, فَلْنُحافِظْ على هذا الدعاء المبارك.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ الْتامَّةَ لَنَا, وَلِأَحِبَّائِنا, وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
المرفقات
1614797243_سلوا الله العفو والعافية.docx