سلسلة: كيف تكون خطيبًا مقنعًا؟ (5) وازن بين خطاب العقل والعاطفة

الفريق العلمي
1439/04/24 - 2018/01/11 15:37PM

أ. : محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

نمتلك -معاشر الخطباء- نوعين من خطاب الجماهير؛ خطاب العقل وخطاب العاطفة، أما خطاب العقل فنخاطب به القوة التفكيرية عند السامعين؛ نستدعي تفكيرهم ونوجهه بالنصوص الشرعية حتى يصل إلى النهاية المنطقية المطلوبة، وأما خطاب العاطفة فنثير به الأحاسيس والمشاعر -المنضبطة أيضًا بضوابط الشرع- تجاه واقعة أو قضية معينة طالبين أن نخلق فيهم الحماسة الإسلامية أو نخوة الرجولة أو المروءة والشهامة أو غيرها من الانطباعات العاطفية السامية.

 

ولكل من هذين الخطابين خصائصه وأصوله، وطرقه وأساليبه، وعيوبه ومميزاته، ولكل منهما كذلك مواضعه التي يستخدم فيها، والخطيب الذكي الحاذق هو من وازن بين الخطابين ولم يهمل أحدهما أو يستعمله مكان الآخر، بل أدرك متى يستخدم هذا ومتى يستعمل ذاك.

 

والمتأمل في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدرك كمَّ الاهتمام بالموازنة بين الخطابين، وإن غلب خطاب العقل أحيانًا، وغلب خطاب العواطف في مواضع أخرى، وسنحاول -إن شاء الله- في هذا المقال أن نلقي نظرة على هذين الخطابين في أساليب الإقناع القرآنية والنبوية، ثم نرى كيف وازن بينهما القرآن، ووازنت بينهما السنة.

 

لكن قبل ذلك دعونا نسأل سؤالًا:

لماذا يهمل بعض خطبائنا العواطف؟

لقد خلق الله -عز وجل- الإنسان مكونًا من شقين متكاملين عقل وعاطفة، فكما نخاطب العقل لا بد أيضًا أن نراعي العاطفة، وإلا ظهر الخلل ولم نحصِّل الثمرة التي نأمل، وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستح أن يُعبِّر عن مشاعره وأحاسيسه تجاه من حوله في وضوح وجلاء؛ فقد روى معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قائلًا: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي يومًا فقال: “يا معاذ، والله إني أحبك”، فقال له معاذ: بأبي وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك، فقال: “أوصيك يا معاذ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك”([1]).

 

ما أروعها من كلمة تفتح مغاليق القلوب؛ “والله إني أحبك”، كلمة يستحي كثير من خطبائنا اليوم أن يقولوها لمن حولهم حتى إن أحسوا بها في صدق، كلمة صار لا يقولها في عصرنا إلا محبي النساء، أو قل “محبي أجساد النساء”! كلمة أهملها الدعاة والخطباء وتاجر بها “الممثلون” والعامة والغوغاء حتى لكأن الحب والعاطفة والمشاعر والأحاسيس تتعارض مع شيء من دين الإسلام!

 

أقول: بل العواطف من صميم ديننا يحتفل بها ويقدِّرها، أليس النبي -صلى الله عليه وسلم- هو القائل: “إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه ذلك”([2])، فقد كان حريصًا -صلى الله عليه وسلم- ألا تظل هذه الأحاسيس السامية حبيسة الصدور بل أحب أن تشيع وتنتشر، فعن أنس بن مالك أن رجلًا كان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فمر به رجل فقال: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أعلمته؟” قال: لا، قال: “أعلمه” قال: فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له([3]).

 

وعلى الخطيب كذلك أن يراعي مشاعر الناس وأحاسيسهم، فيتوقى في خطابه أن ينكأ جرحًا لمستمع، أو يستثير غضبًا لمخاطب فيرفضه ولا يقبل منه… فقد رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ترك فعل الأولى والأفضل لعمه حمزة حين قُتل؛ مراعاة لمشاعر أخته صفية -رضي الله عنهما-، فعن أنس بن مالك قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حمزة يوم أحد، فوقف عليه فرآه قد مثِّل به، فقال: “لولا أن تجد صفية في نفسها، لتركته حتى تأكله العافية([4])، حتى يحشر يوم القيامة من بطونها”([5]).

 

وإن لم يفعل الخطيب ذلك زهد الناس فيه بل نفروا منه وانفضوا من حوله، وهل بعد أن قال الله للنبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه؟!: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].

 

أيها الخطيب: إنك إن تستميل المرء عاطفيًا أيسر عليك -وأحب إليه- من أن تقنعه عقليًا، وإن الطريق إلى الاقتناع العقلي لا بد أن يمر أولًا من خلال الاستمالة العاطفية؛ فأقرب طريق إلى العقل هو القلب، فهؤلاء أنبياء الله ينصحون أقوامهم ثم يقولون لهم: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ…): عظيم وكبير وأليم ومحيط، فيشعرونهم بخوفهم عليهم، وهذا إبراهيم الخليل يقول لأبيه: (يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ…) [مريم: 45].

 

وهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- ينصح أبا ذر بخطاب عاطفي فيقول له: “يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين…”([6])، ومرة أخرى يعلِّم -صلى الله عليه وسلم- الصحابة بأسلوب أبوي حنون شفوق قائلًا لهم: “إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، أعلِّمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها”([7]).

 

بل ويبلغ أمر العاطفة في الإسلام أن جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مشاعر النفس وأحاسيس القلب من مقاييس معرفة البر والإثم إذا ما اشتبهت الأمور، فعن وابصة بن معبد الأسدي قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه، فجعلت أتخطاهم، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: دعوني فأدنو منه، فإنه أحب الناس إلي أن أدنو منه، قال: “دعوا وابصة، ادن يا وابصة” مرتين أو ثلاثًا، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، فقال: “يا وابصة أخبرك أم تسألني؟” قلت: لا، بل أخبرني، فقال: “جئت تسألني عن البر والإثم” فقال: نعم، فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري، ويقول: “يا وابصة استفت قلبك، واستفت نفسك” ثلاث مرات، “البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك”([8]).

 

فانظر -أولًا- كيف احتواه النبي -صلى الله عليه وسلم- عاطفيًا بأن أمر الصحابة ألا يمنعوه، ثم أدناه، ثم وفَّر عليه عناء السؤال فأخبره بما جاء من أجله وفي هذا طمأنة لقلبه، ثم نكت بأصابعه الشريفة في صدره… وأخيرًا وجَّهه أن يحكِّم عواطفه وقلبه.

 

الإقناع بالحجج العقلية:

إنما العقل أداة للإدراك والتحليل والاستنباط، والطريق إلي إقناعه هو المنطق والمقدمات التي تؤدي إلى نتائجها، وعلى الخطيب -كما يهتم بخطاب العاطفة- أن يهتم كذلك بخطاب العقل، وهو أيضًا منهج قرآني أصيل، فها هو القرآن يقدم برهانًا عقليًا واضحًا يقول: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس: 81]، ولا يملك العاقل إلا أن يجيب “بلى”، فإن العقل يقرر أن الخلق الأول -الذي هو من عدم- أصعب من الثاني الذي هو من أنقاض الأول: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: 37]، وفي الحديث القدسي: “وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته”([9])؛ فإنهما عند الله يستويان.

 

ولن نطيل النفس في خطاب العقل لأنه كثير معلوم مشهور، وإنما السؤال الأهم والأخطر والذي عقدنا هذا المقال من أجله هو:

 

كيف نوازن بين خطاب العقل وخطاب العاطفة؟

نبدأ بكلمات مضيئة لابن القيم يوجهنا فيها إلى كيفية الموازنة بين الخطابين ومتى نستخدم كل منهما فيقول: “إنما يشتد افتقار العبد إلى العظة وهي الترغيب والترهيب إذا ضعفت إنابته وتذكره، وإلا فمتى قويت إنابته وتذكره لم تشتد حاجته إلى التذكير والترغيب والترهيب، ولكن تكون الحاجة منه شديدة إلى معرفة الأمر والنهي… فالمنيب المتذكر: شديد الحاجة إلى الأمر والنهي، والمعرض الغافل: شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب…”([10])، فالأمر والنهي خطابان عقليان، والترغيب في فعل الأوامر والترهيب من اقتراف المنهيات خطابان عاطفيان.

 

فاضرب -أيها الخطيب- على وتر الأحاسيس والمشاعر مرة، وخاطب العقل والفكر والإدراك أخرى، فمرة آية تزلزل ومرة حديث يرقق ومرة قصة تشوِّق ومرة مثال يبهر، واستخدم المثيرات والمنبهات والمحفزات… خاطب العقل ولا تهمل العاطفة، واستمل العاطفة ولا تتجاهل العقل، فكن متوازنًا، وسطًا بين نقيضين.

 

وإن الناظر إلى خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- للفتى الشاب التي أتاه قائلًا: “يا رسول الله ائذن لي في الزنا”! ليدرك ما نقصد من كلامنا السابق، فقد كف عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن أراد تعنيفه فقال: “ذروه”، وقربه منه قائلًا له: “ادن” فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله مستثيرًا نخوته وغيرته: “أتحبه لأمك؟”، فأجاب الشاب: لا، وعندها خاطب -صلى الله عليه وسلم- عقله: “فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم!”.

 

ثم أعاد -صلى الله عليه وسلم- نفس الأمر مرارًا خالطًا العقل بالعاطفة وموازنًا بينهما فسأله الثانية: “أتحبه لابنتك؟” قال: لا، قال: “وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟” قال: لا، قال: “فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟”، قال: لا، قال: “فكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم، أتحبه لخالتك؟” قال: لا، قال: “وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم، فاكره لهم ما تكره لنفسك، وأحب لهم ما تحب لنفسك” فقال: يا رسول الله ادع الله أن يطهر قلبي، فوضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره فقال: “اللهم أغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه”، فلم يكن الشاب بعد ذلك يلتفت إلى شيء([11]).

 

فبادل ووازن -صلى الله عليه وسلم- بين خطاب عاطفة الشاب وبين خطاب عقله، فبداية: أمَّنه وقربه وكف عنه ما يكره، وفي هذا استمالة لقلبه، ثم خاطب واستثار عاطفة الغيرة حين كرر عليه مرارًا: “أتحبه لأمك… أتحبه لابنتك… أتحبه لأختك… أتحبه لعمتك… أتحبه لخالتك”، وفي كل مرة يعرض الأمر على عقله: “فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم…”؛ فإن العقل يقول: أن ما لا ترضاه أنت لمحارمك لا يرضاه الناس -كذلك- لمحارمهم، فكف عن محارمهم كما تحب أن يكفوا عن محارمك.

 

ومن خطاب العقل والعاطفة معًا قوله -صلى الله عليه وسلم-: “لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله -عز وجل-، إنه يشرك به، ويجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم”([12])، فالعقل يقضي أن من يعافي ويرزق هو المستحق للعبادة، والعاطفة تشمئز أن يؤذى المحسن المتفضل، وقد ساعد على استحضار تلك العاطفة أسلوب الاستمالة في أول الحديث؛ فالله يسمع “الأذى” الموجه إليه -جل وعلا- بما لا يليق به، ولو أوذي أحد من الخلق -رغم إحسانه- لشعرنا أنه مظلوم ولتعاطفنا معه.

 

وقد سلك الأنبياء -عليهم السلام- جميعًا تلك الموازنة بين الخطابين، فنسمع منهم: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود: 84]، وهذا من خطاب العاطفة، ثم نسمع: (يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) [هود: 28]، وهذا من خطاب العقل، وهذا كثير.

 

***

 

وإنك -أيها الخطيب- حين تقول للناس: “اتقوا الله تفلحوا”، فهذا خطاب عاطفي في حاجة أن ترفقه بخطاب عقلي؛ توضح لهم به كيف تكون تقوى الله وما هي أصولها… وحين تأمرهم قائلًا: “صِلوا أرحامكم تفوزوا بالجنة”، فإنه كذلك خطاب عاطفي يحتاج أن يتكامل مع خطاب عقلي تخبرهم فيه بم تكون صلة الأرحام… وحين تخوِّفهم من الرياء والشرك وأنهما طريقان لحبوط العمل، فهذا أيضًا خطاب عاطفي لا تكتمل فائدته حتى تبصِّرهم ما هو الرياء وما هو الشرك وكيف يتقيهما العبد.

 

وأنت إذ تحثهم على العمل لدين الإسلام وأنه مضطهد من الشرق ومن الغرب بل ومن بعض المنتسبين إليه، فقد أثرتهم استثارة عاطفية لا ينبني عليها عمل، إلا إذا أتبعتها بخطاب عقلي تشرح فيه طرائق نصرة الإسلام وكيفية العمل له وآليات إعزازه وخطوات الدفاع عنه…

 

وكم من خطبة رنانة خرج الجمهور منها متحمسًا متأثرًا وجلًا دامعًا… لكنه لا يدري ماذا يفعل حيال ما سمع وكيف يطبقه؛ والسبب: أن الخطيب غلَّب الجانب العاطفي على خطبته وتغافل عن الجانب العقلي الذي ينبني عليه العمل؛ فشوق الناس وحببهم وحمسهم إلى عمل ما لكنه لم يبين لهم كنه ذلك العمل! فما أشبه حاله بحال من بات يشرح منافع “الخنفشار” وفوائده ويرغب في تناوله، لكنه نسي أن يوضح للناس ما هو ذلك “الخنفشار”؛ أطعام أم شراب؟ أصلب أم سائل؟ أدواء يُشرب أم حجر يُسحق؟! وللأسف فهذا هو الغالب على كثير من خطاباتنا اليوم.

 

وكم من خطبة أخرى خرج منها سامعوها وهم يدركون تمام الإدراك ماذا يتوجب عليهم أن يفعلوا وماذا ينبغي أن يصنعوا، لكنهم خرجوا باهتين فاترين ليس لديهم الرغبة ولا النية أن يطبِّقوا ما سمعوا… والسبب: أن الخطيب اكتفى بالخطاب العقلي فعلَّمهم الحق وحفَّظهم الواجبات المرتبة عليهم، لكنه لم يحمِّسهم تجاه فعلها ولم يشوقهم بأجرها وثوابها ولم يثرهم عاطفيًا ووجدانيًا كي يسارعوا إلى فعلها!

 

***

وختامًا: فإن العقل والعاطفة ذراعان لجسد واحد هو الإقناع، فلا يُستغنى بأحدهما عن الآخر، فإذا ما حُرِم أحد الخطابين من الآخر صار كطائر يطير بجناح واحد، أو كمسافر يمشي على قدم واحدة، فـ”عقل بلا عاطفة جفاء، وعاطفة بلا عقل هباء”!

 

فإذا سيطر الأسلوب العقلي وحده جاء الخطاب جافًا مملًا فاقد اللون والرائحة منفِّرًا لأكثر المخاطبين… وإن طغى الأسلوب العاطفي على كلمات الخطيب جاء الخطاب انفعاليًا حماسيًا جذابًا ممتعًا، لكنه خاوٍ وخالٍ من البناء العملي، متميع غير منضبط، منفصل عن الواقع الـمُعاش… كموج البحر؛ يثور ويتقلب ويتعالى لكنه سرعان من يهدأ ويختفي فكأنه ما كان!

 

ولقد سمعنا الخليل إبراهيم -عليه السلام- مع كمال إيمانه بقدرة الله -تعالى- على الإحياء والإماتة، وهو يطلب من الله -عز وجل- أن يرى ذلك بعينه، والسبب: أنه يحب أن يترافق ويتكامل عنده الاقتناع العقلي مع القناعة الوجدانية العاطفية، فها هو يقول: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي…) [البقرة: 260].

 

والخطيب الحاذق من مزج بين خطاب العقل وخطاب العاطفة مزيجًا مناسبًا لحال مستمعيه، فهو أشبه ما يكون -في هذا الصدد- بالصيدلاني الذي يمزج العقاقير بنسب معينة مناسبة لحالة المريض الذي بين يديه، أو بالطباخ الماهر الذي يمزج مقادير الأطعمة ويضع نسبة معينة من الملح أو السكر مناسبة لذوق الآكل ومناسبًا لحالته؛ فإن علمه مصابًا بمرض “السكر” مثلًا قلل السكريات في الطعام، أو بمرض “ضغط الدم” خفض نسبة الأملاح…

 

وكذا الخطيب المقنع؛ يخاطب بالخطاب العقلي كل مثقف يحترم الفكر المنطقي المتدرج بالمقدمات إلى النتائج، مع عدم حرمانه من قدر من الخطاب العاطفي يستثيره للتطبيق والعمل، ويخاطب بالخطاب العاطفي كل مرهف الإحساس رقيق المشاعر، مع عدم إغفال الخطاب العقلي…

 

——-

([1]) البزار (2661)، والنسائي (1303)، وصححه الألباني (صحيح الأدب المفرد: 534/690).

([2]) النسائي في الكبرى (9963)، والترمذي (2392)، وصححه الألباني (الصحيحة: 417).

([3]) أبو دود (5125)، النسائي في الكبرى (9939)، وصححه الألباني (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: 570).

([4]) العافية: أي: السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها، وتجمع على العوافي، انظر: شرح سنن أبي داود للعيني (6/66)، الناشر: مكتبة الرشد الرياض، الطبعة الأولى 1420هـ -1999م.

([5]) الترمذي (1016)، وأبو داود (3136)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي).

([6]) مسلم (1826).

([7]) مسلم (265)، وأبو داود واللفظ له (8).

([8]) أحمد (18006)، والدارمي (2575)، وحسنه الألباني لغيره (صحيح الترغيب والترهيب: 1734).

([9]) البخاري (4974).

([10]) مدارج السالكين لابن القيم (1/444)، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1416 هـ – 1996م.

([11]) أحمد (22211)، ومسند الشاميين للطبراني (1066)، وصححه الألباني (الصحيحة: 370).

([12]) البخاري (6099)، ومسلم (2804).

المشاهدات 627 | التعليقات 0