سلسلة خطب الدار الآخرة (18) الميزان واستلام الصحف

عبدالله محمد الطوالة
1445/10/09 - 2024/04/18 12:06PM

الحمدُ للهِ الذي أنزلَ برحمته آياتِ الكتابِ، وأجرى بعظمته شتاتَ السحابِ، وهزمَ بقوته جموعُ الأحزابِ، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، سبحانهُ وبحمده، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} ..

وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، الكريمُ التواب، العظيم الوهّاب، {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} ..

وأشهد أن محمدًّا عبدهُ ورسولُه الْمُنيبُ الأواهُ الأوّاب .. سلامٌ على ذاكَ النبيِّ فإنَّهُ .. إليهِ العُلا والفضلُ والفخرُ يُنسبُ .. وأحسنُ خلقِ اللهِ خُلُقاً وخِلْقةُ .. وأطولهمْ في الجودِ باعاً وأرحبُ .. صفوهُ بما شئتمْ فواللهِ ما انطوى .. على مثلهِ في الكونِ أمٌّ ولا أبُ .. صلَّى اللهُ وسلّمَ وبارك عليهِ، وعـلى جميـعِ الآلِ والأهـلِ والأصـحـابِ، والتابعين وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم المآبِ، وسلم تسليماً كثيراُ ...

أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى عبادَ اللهِ وأطيعوهُ؛ فلنِعمَ زادُ المؤمنِ تقوى اللهِ تعالى وطاعتهِ، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] ..

معاشر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقة الثامنةَ عشرةَ من سلسلة حلقات ودروس الدار الآخرة، وكنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية عن مرحلة الحسابِ الفردي، حيثُ يقفُ كُل عبدٍ بين يدي ربه جلَّ وعلا لوحده، فيحاسِبهُ على أعماله وعباداته، ويسألُهُ عن دينهِ وإيمانه، وعن صدقهِ وكذِبه، وعن أهلهِ ورعيته، ويسألُه عن سمعهِ وبصره، وعن عُمرهِ وعِلمهِ, وعن مالهِ وبدنه، وعن عُهودهِ ومواثقه، وعمَّا أُعطي من نعيم الدنيا ومتاعها  .. ثم إن من عدل اللهِ جلَّ وعلا أن يُعطيَ كُلَّ عبدٍ كتابَ أعماله، فيرى فيه كلَّ ما عمِلهُ بمنتهي الدقة، ويقرأهُ بكلِّ تمعن، فيرى أنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .. وذكرنا كذلك أن الأعمالَ تُجسَّدُ في صورٍ محسوسة، فالقرآنُ ورمضانُ يشفعان، والمتوضئون غُراً محجلين، وجُرح الشهيدِ ينضحُ مِسكاً، والشيبةُ نورُ في وجه المؤمن، والمؤذنونَ أطولُ الناس أعناقاً .. وفي المقابل فالبخيلُ يطوقُ بماله ثعباً أسود، وكاتم العلمِ يُلجم بلجامٍ من نار، وغيرها من المشاهد .. ثم إنَّ هناك من يدخلُ الجنةَ بلا حسابٍ ولا عذاب، وهناك من يُحاسبُ حِساباً يسيراً، وهناك من يعاتب عتاباً بسيطاً .. وهناك من يُحاسبُ حِساباً عسيراً، وهم أهلُ الرياءِ والشركِ الأصغر، والمصرون على الكبائر ... كلُّ هذا والنتائجُ النهائيةُ لم تظهر بعدُ، والنتيجةُ إنما تظهرُ عند الميزان .. وما أدراك ما الميزان، موطنٌ من المواطن الرهيبة العصيبة التي ينسى العبد فيها أهلهُ وأحبابهُ وينشغلُ بنفسه فقط، هل يثقلُ ميزانهُ أم يخف، وهل يستلمُ صحيفتهُ بيمينه أم بشماله .. فما ظنكَ بموقفٍ ينتظرُ فيه العبدُ نتيجةَ وزنِ أعماله، والتي ستكونُ سبباً في يؤخذَ إلى الجنة أو إلى النار عياذً بالله .. إنه موقفُ ترقبٍ وتلهُفٍ .. إنها اللحظةُ التي سيعلمُ الكفَّارُ والفُجَّار فيها أيَّ منقلبٍ ينقلبون، وأيَّ سوءَ مصيرٍ سيلاقون، وفي المقابل فسيعلمُ المؤمنونَ أيَّ كرامةٍ ورفعةٍ وفضلٍ سينالون .. فلقد كانَ الكفارُ في الدنيا يمرحونَ ويلعبون، ويستهزؤون بالمؤمنين ويضحكون، أمَّا اليوم: فالمؤمنونَ هم الفائزون، وهم الذين يضحكون، ومن يضحكُ أخيراً, يضحكُ كثيراً ...

وذكرنا سابقاً أن أمة محمد ﷺ هي أولُ الأممِ حِساباً .. ثم المؤمنون من باقي الأمم .. ثم يكونُ حساب المشركين والكفار .. وذكرنا أنَّ حسابَ المؤمنين سيكون بفضل الله حساباً يسيراً، وأما حسابُ الكفار والفجار فسيكونُ حسابهم حساباً عسيراً، وكل ذلك توبيخاً لهم وزيادة في إذلالهم وهوانهم، وإظهاراً لعدل الله المطلق، وإقامة للحجة عليهم، وفي صحيح مسلم: قال أنس رضي الله عنه: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَضَحِكَ، فَقالَ: هلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ قالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: مِن مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ؛ يقولُ: يا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قالَ: يقولُ: بَلَى، قالَ: فيَقولُ: فإنِّي لا أُجِيزُ علَى نَفْسِي إلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قالَ: فيَقولُ: كَفَى بنَفْسِكَ اليومَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، قالَ: فيُخْتَمُ علَى فِيهِ، فيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قالَ: فَتَنْطِقُ بأَعْمَالِهِ، قالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بيْنَهُ وبيْنَ الكَلَامِ، قالَ: فيَقولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا؛ فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" ..

ومن الأدلة على شدة حساب الكفار والفجار تفاوت دركاتهم في الجحيم، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم: 68-70] .. إذن فبعض الكفار أشدَّ من غيره عداوة لله واستكباراً، وفعلاً للمنكرات وتطاولاً، وبالتالي فهم أشدُّ عذاباً وآلاماً .. ومن ذلك المنافقين الذين قال الله عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] ..

أيها الأحبة الكرام: لقد وعد اللهُ عبادهُ جميعاً، أنهُ سيزنُ أعمالهم بكلِّ دقةٍ، فهو سبحانهُ أحكمُ الحاكمين، وأعدلُ العادلين،  {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8-9] .. فكل انسانٍ ستوزنُ أعماله .. وذلك بعد أن ينتهي الله تعالى من حساب الخلائقِ أجمعين، وبعد أن يأخذَ كلَّ ذي حقٍّ حقهُ، ويدفعَ كل ظالمٍ ما عليه للذين ظلمهم، ويأخذَ كل مظلومٍ كامل حقه ممن ظلموه .. ففي الحديث الصحيح: (من كانت عندَهُ مظلِمةٌ لأخيهِ في دمٍ أو مالٍ, فليتحلَّلْها منْه قبلِ أن يأتي يوم ليسَ فيهِ درْهمٌ ولا دينارٌ, إلا الحسناتِ والسيِّئاتِ فإن كانت لَهُ حسناتٌ أُخِذَ من حسناتِهِ بقدرِ مظلِمتهِ, وإلَّا أخذَ من سيِّئاتِ صاحبِهِ فطُرِحت عليهِ ثمَّ طُرِحَ في النَّارِ) ... فكم ستعتصرُ الحسرةُ والندامةُ قلوبَ الظالمين، حين يرونَ عدلَ اللهِ ودِقةَ حِسابه، تأمَّل: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] .. نسوهُ لغفلتهم وعدمِ مُبالاتهم، نسوهُ لاستكبارهم وطُغينانهم، نسوهُ لسوء ظنهم بربهم ..  {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22-23] ... وحين تصدِمُهم المفاجأة، يَفزعون، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] ..

ولقد دلت النصوص المتواترة، أنَّ الميزان مِيزانٌ حقيقيٌ لا يُقدِّرُ قدره ولا حجمه إلا الله جلَّ في علاه .. ففي الحديث الصحيح: "يُوضَعُ الميزانُ يومَ القيامةِ، فلو وُزِنَ فيه السمواتُ والأرضُ لوَسِعَت، فتقول الملائكةُ: يا ربِّ لمن يَزِنُ هذا؟ فيقولُ اللهُ تعالى: لمن شئتُ مِن خلقي، فيقولون: سبحانك ما عبدْناك حقَّ عبادَتِك" ... فأهلُ السنةِ يؤمنون بأنَّ الميزانَ ميزانٌ حقيقيٌ له لِسانٌ وكفَّتان، تُوزنُ به أعمالُ العبادِ يوم القيامة .. في الصحيحين قال ﷺ: " كَلِمَتانِ خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ، حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ: سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ" .. وقال ﷺ عن ساقَي عبدالله بن مسعودt: " لَهُمَا أَثْقَلُ في الميزانِ من جَبَلِ أُحُدٍ" ... بل إنَّ الآياتِ تُشيرُ بوضوحٍ إلى أنَّ هناكَ موازينَ كثيرةً ومُتنوعة، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] ..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:1 -11] ..  أقول ما تسمعون ....

.

الحمد لله وكفى، و صلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى ..

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] ..

معاشرَ المؤمنين الكرام: المتأمِّلُ في قضية الوزن، يُرجِحُ أنهُ ليس ثمةَ مِيزانٌ واحدٌ لجميع البشر، ولا مِيزانٌ واحدٌ لجميع الأعمالِ، بل هي أعدادٌ هائلةٌ من الموازين، وكما أنَّ موازين الدنيا مختلفة، فلا يبعدُ أن تكونَ موازينُ الآخرةِ كذلك، فالأعمالُ توزن، والأشخاصُ توزن، والأقوالُ توزن، وحتى الاشارةُ والابتسامةُ والنِّيةُ توزن .. قال ابن عطية: "وعلى هذا فلا يبعدُ أن يكونَ لأفعال القلوبِ مِيزانٌ، ولأفعال الجوارحِ مِيزانٌ، ولما يتعلقُ بالقول مِيزانٌ .." .. بل وهناك من يقول: أنَّ لكلِّ إنسانٍ موازينهُ الخاصةَ به، فمثلاً صدَقةُ الفقيرِ تختلفُ عن صدَقة الغني، جاء في الحديث الصحيح: "سبق درهمٌ مائة ألف"، قالوا: يا رسول الله، كيف يسبق درهمٌ مائةَ ألف؟ قال: "رجل كان له درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخرُ له مالٌ كثير، فأخذ من عرضها مائة ألف" .. وهكذا فعِفَّةُ الشابِ عن الحرام تختلفُ عن عِفة الشيخ الكبير؛ وعِفةُ المغتربِ تختلفُ عن عِفةِ المستوطنِ، وزنا الكبيرِ والجارِ يختلفُ عن زنا غيره .. وكذلك فالطاعةُ والمعصيةُ في مكةَ وفي رمضانَ ليست كغيرها .. والمستخفي بالمعصية أو الطاعة ليس كالمظهر لها .. فهي إذن موازينُ كثيرةٌ ومتنوعةٌ, بحسب الأشخاصِ, وبحسب الإخلاص، وبحسب الزمان والمكان. وبحسب الأحوال ..

إذن فالأعمالُ الصالحةُ وغيرِ الصالحة توزن .. والعبادُ أنفُسهم يوزنون، فيثقلونَ ويخِفُون بحسب إيمانهم .. ففي صحيح مُسلم: " إنَّه لَيَأْتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيامَةِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَؤُوا {فَلا نُقِيمُ لهمْ يَومَ القِيامَةِ وزْنًا} ... والسجلاتُ توزن أيضاً، كما جاء في حديث البطاقة المشهور وفيه: "فتوضَعُ السَّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ، والبطاقةُ في كِفَّةٍ، فطاشتِ السِّجِلَّاتُ، وثقُلَتِ البطاقةُ، فلا يَثقُلُ مع اسمِ اللهِ شيءٌ" ... وفي حديث حسَّنهُ الامام العِراقي: "أنَّ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها ذكرَتْ النَّارَ فبكَتْ فقالَ: ما يُبكيكِ يا عائشةُ؟ قالت: ذكرتُ النَّارَ هلْ تذكرونَ أهليكُم يومَ القيامةِ؟ قالَ: والَّذي نفسي بيدِهِ في ثلاثِ مَواطنَ فإنَّ أحدًا لا يذكرُ إلَّا نفسَهُ, إذا وُضِعَت المَوازينُ ووُزِنَت الأعمالُ حتَّى ينظرَ ابنُ آدمَ أيخِفُّ ميزانُهُ أم يثقُلُ, وعندَ الصُحفِ حتَّى ينظرَ أبيمينِهِ يأخذُ كتابَهُ أمْ بشمالِهِ, وعندَ الصِّراطِ" ..

والخُلاصةُ يا عباد الله: أنه بعد العرضِ العامِّ على الله تعالى، ثمَّ استلامُ كُتبِ الأعمالِ وقراءتها، ثم جِدالُ الأممِ والأفرادِ وتخاصُمِهم وردِّ الحقوقِ لأهلها، بالحسنات والسيئات، ثمَّ الحسابُ الفردي .. ثم توزنُ الأعمالُ وما تبقى من الحسنات والسيئات، فتوضعُ الحسناتُ في كفةٍ والسيئاتُ في كفة .. فمن رجَحت حسناتهُ أخذَ صحيفتهُ بيمينه ونجا، ومن تساوت حسناتهُ مع سيئاتهِ فهو من أصحابِ الأعرافِ الذين سنعرفُ خبرهم بعد قليل، ومن رجحت سيئاتهُ أخذَ صحيفتهُ بشماله .. أما الكفَّارُ فتوزنُ أعمالهم الصالحةِ إن وجدت مع كُفرِهم فلا يكونُ لها وزنٌ ولا قيمة، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] ..

وأما أهل الأعرافِ فالعُرفُ هو ما علا من الشيء كعُرف الديك، والأعرافُ سُورٌ عالٍ يحيطُ بمن دَاخِله، فيطلِّعونَ من فوقه على ما في الخارج، كما قال الله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 46-47] .. فالأعرافُ منطقةٌ محجوبةٌ بسورٍ عالٍ بين الجنة والنار، يُحبسُ فيها أقوامٌ تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، فيطَّلعون على أهل الموقفِ من فوق السورِ فيعرفونَ أهل الجنةِ ببياض وجهوهم، فينادونهم يسلمونَ عليهم، ويعرفونَ أهل النَّارِ بسواد وجوههم، فإذا نظروا إليهم سألوا الله أن لا يجعلهم معهم، ويبقون َمترقبين على هذه الحال, إلى أن يدخلَ أهلُ الجنةِ الجنة، ويدخُلَ أهلُ النارِ النار، ثم يحكمُ الله فيهم بما شاء ..

أيها الأحبة الكرام: ماذا يحدثُ بعد الوزنِ واستلامِ الصُّحفِ .. هذا ما سنعرفهُ في الحلقة القادمةِ بإذن الله ..

فيا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..

اللهم صل على محمد

المشاهدات 424 | التعليقات 1

للوصول إلى الخطب الماضية

 

أضغط هنا