سلسلة حقوق المصطفى 5 - الحذر من معصيته (صلى الله عليه وسلم)
ماجد بن سليمان الرسي
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن من حقوق النبي (صلى الله عليه وسلم) الحذر من معصيته، فقد جاء التحذير من معصيته في قوله تعالى ]ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين[، وقوله ]ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا[، وقوله ]ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتا ليتني لم اتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا[، وقال تعالى }ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً{، وقال }فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبَهم عذاب أليم{، قـال ابن كثــير رحمه الله في تفسير قوله تعالى }فليحذر الذين يخالفون عن أمره{: أي عن أمرِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهو سبيله ومنــهاجه وطريقــته وسنتـه وشريـعته، فتـوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائناً من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول ظاهرا وباطنا أن تصيبهم فتنة، أي في قلوبهم، مِن كُفرٍ أو نفاقٍ أو بدعةٍ، أو يصيبَهم عذاب أليم، أي في الدنيا، بِقتل أو حَـدٍّ أو حَبس أو نحو ذلك. انتهى بتصرف يسير.
أيها المسلمون، وقد جاءت السنة كذلك بالتحذير من معصية النبي r كما في قوله: إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم.[1]
ومعصيته سبب للعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فقد ثبت من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً أكل عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشماله، فقال له: كل بيمينك، قال: لا أستطيع، فقال له (صلى الله عليه وسلم): (لا استطعت، ما منعه إلا الكِبـْــر)، قال: فما رفعها إلى فِـيهِ.[2]
وعن سعيد بن المسيَّب بن حَــــزْن[3] عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: ما اسمك؟ قال: حَــــزْن. قال: أنت سَهل. قال: ما أنا بمغير اسماً سمانيه أبي. قال ابن المسيَّب: فما زالت فينا الـحُزونةُ بعدُ.[4]
يعني أنه وقعت فيهم صُعوبةُ الأمورِ وامتِناع التَّسهيلِ فيما يُريدون بسبب الاعتراض على مشورة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غزوة تبوك، فلما أتينا تبوك قال: أمَا إنها ستهبُّ ريحٌ شديدة، فلا يقومَنَّ أحدٌ، ومن كان معه بعير فليعقِلْه.
فعقلناها، وهبَّت ريح شديدةٌ فقام رجل فألقته بجبل طَيْء.[5]
أيها المسلمون، إن معصية النبي (صلى الله عليه وسلم) تنقسم إلى أربعة أنواع، صغائر وكبائر وبدع وكفر.
فأما الكبيرة فهي كل ذنب ورد في حق فاعله لعنة أو غضب أو وعيد بالنار أو حَـــدٌّ، وصاحب الكبيرة تحت المشيئة في الآخرة، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، فعلى هذا فينبغي الحذر من الوقوع في الكبائر، قال تعالى )إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما(.
ومن أنواع الكبائر السرقة وشرب الخمر وأكل الربا والزنا وقطيعة الرحم وتبرج النساء ونحو ذلك، فكل هذه ورد فيها إما حدٌّ في الدنيا أو نص على عقوبة في الآخرة أو كلاهما.
عباد الله، وأما الصغيرة فهي الذنب الذي لم يرد فيه حَـــدٌّ في الدنيا ولا وعيد خاص في الآخرة.[6]
غير أنه ينبغي التنبه إلى أن الصغيرة إذا استمر عليها الإنسان ولم يتب منها صارت كبيرة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إياكم ومحقَّرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)، وإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ضرب لـهُنَّ مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم (أي حضر وقت صنع طعامهم)، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا فأجَّجوا نارا وأنضجوا ما قذفوا فيها.[7] انتهى كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
ولهذا صح عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. رواه ابن جرير.
عباد الله، وأما الكفر فيكون بارتكاب شيء من نواقض الإسلام، كعبادة غير الله من الأنبياء أو الصالحين أو قبورهم، أو سب الله أو رسوله أو الدين، أو الاستهزاء بشيء منها، أو رد شيء معلوم من الدين بالضرورة؛ كالإيمان بالله أو إنكار تحريم شرب الخمر حرام – مثلا، أو اعتقاد أن غير هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) أفضل من هديه، أو ارتكاب السحر، أو مظاهرة الكافرين على المؤمنين رغبة في دينهم.
وموجِبات الوقوع في الكفر كثيرة، ذكرها الفقهاء في كتب الفقه في باب المرتد، إلا أن هذه بعض أمثلتها.
عباد الله، وأما البدعة؛ فالابتداع لغة هو الاختراع والإحداث، وشرعا هو إحداث عبادات أو اعتقادات في الدين لم تأت بها الشريعة.
ومن بدع العبادات التسبيح الجماعي بعد الصلوات، وصلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، والاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وغير ذلك من الأفعال التي يرتكبها بعض الناس يتقربون بها إلى الله بزعمهم، وهي لا تزيدهم إلا بعدا، لأن الله لم يشرَعها، وقد سماها النبي (صلى الله عليه وسلم) ضلالة، كما في الحديث: كل بدعة ضلالة. [8]
والواجب هو الاعتصام بالكتاب والسنة، وألا يُعبد الله إلا بما شرع، والحذر من معصية النبي (صلى الله عليه وسلم) أيا كان نوعها وأيا كانت دوافعها، فإن من اعتصم بالكتاب والسنة نجا، ومن حاد عنهما هلك، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): خلَّفتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتابَ الله وسنتي.[9]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم عليه السلام، وفيه قُبِــــض، وفيه النفخة[10]، وفيه الصَّعقة[11]، فأكثروا عليَّ من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة علي)[12]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم هداة مهتدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بشر فاشغَله في نفسه، ورد كيده في نحره. اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك، وإعزاز دينك، واجعلهم رحمة على رعاياهم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان الرسي، في السابع عشر من شهر جمادى الأولى لعام 1442، في مدينة الجبيل، في المملكة العربية السعودية، وهي منشورة في:
www.saaid.net/kutob
https://t.me/jumah_sermons
[1] رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه مسلم (2021).
[3] (حَــزْن) بسكون النون هو الصعب الغليظ، وضده (سهل)، وفي الحديث: اللهم لاَ سَهْلَ إِلاَّ مَا جَعَلْتَهُ سَهْلاً، وَأَنْتَ تَجْعَلُ الْحَزْن إِنْ شِئْتَ سَهْلاً.
[4] رواه البخاري (6190).
[5] رواه البخاري (1482) ومسلم (1392).
[6] انظر «مجموع فتاوى ابن تيمية» (11/650 – 651)، وعزا هذا القول لابن عباس وأبو عبيد القاسم بن سلام والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، وقال: هو أمثل الأقوال.
[7] رواه أحمد (1/402 – 403)، وقال محققو «المسند»: حسن لغيره.
[8] رواه مسلم (867) من حديث جابر رضي الله عنهما، ورواه أحمد (4/126 – 127) وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني رحمه الله.
[9] رواه الخطيب في «كتاب الفقيه والمتفقه» (1/274) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (3232).
[10] أي النفخة الثانية في الصور، وهو قرنٌ يَنفخ فيه إسرافيل، وهو الـمَـلك الـمُـوكَل بالنفخ في الصور، فيقوم الخلائق من قبورهم.
[11] أي يُصعق الناس في آخر الحياة الدنيا، فيموتون كلهم، والصعقة تكون بسبب النفخة الأولى في الصور، وبين النفختين أربعون عاما.
[12] رواه أحمد (4/8) وغيره، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود»، ومحققو «المسند» برقم (16162).
المرفقات
1708572364_خطبة مختصرة في وجوب الحذر من معصية المصطفى.docx
1708572365_خطبة مختصرة في وجوب الحذر من معصية المصطفى.pdf