سلامة الصدر

صالح عبد الرحمن
1443/02/27 - 2021/10/04 08:02AM

الخطبة الأولى :

الحمدُ لله منَّ علينا بالإسلامِ، أَرسَلَ لَنَا مُحمَّدا خَيرُ الأنامِ, أَشهدُ ألَّا إله إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ المَلِكُ العَلاَّمُ، وَأَشْهَدُ أنَّ نَبِيَّا محمَّدا عبدُ اللهِ وَرَسُولُه؛ صلَّى الله وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آلِهِ وأصحابهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإيمَانٍ على الدَّوامِ.

أمَّا بَعدُ: فاتَّقُوا اللهَ يَا مُؤمِنُونَ؛ واعلموا أنَّا إليهِ رَاجِعونَ

(واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )

هناك في مسجِد رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم حيث يَجلس خيرُ الخلق بين أصحابه في مجلسٍ إيماني بَهيج، قد اشرأبَّتْ نحوَه الأعناق، وأحْدقت إليه الأبصار، وملكتْ كلماتُه العذبة قلوب أصْحابه - رضي الله عنهم - وبينما هُم على هذه الحال من السَّكينة والطُّمَأْنينة، يُشير صلَّى الله عليه وسلَّم إلى ناحيةٍ من نواحي المسجِد فيقول : يطْلُع الآن عليكم رجلٌ من أهل الجنة فَتَشْخَصُ الأبصار إلى ذاك المكان المُشار إليه ، وتتلهَّف النُّفوس لمعرِفة مَن هو هذا الرَّجُل المبشَّر بأعظم بشارة سمعتها الآذان ، مَن هو هذا الرجُل المبشَّر بروح وريحان ، وربٍّ راضٍ غير غضبان . لعلَّه قد دار في نفوس الصَّحابة أن يكون هذا الرَّجُل من أهل سابقة الإسلام، أو من أهْل بدْر وبيعة الرِّضْوان، أو ممَّن قدَّم عملاً جليلاً للإسلام يُذكرُ فيُشْكر . فلم يفْجأْهم إلاَّ رجُلٌ يخرج إليهم ، تقطر لحيتُه من أثر الوضوء ، وإذا هو رَجُل من عامَّة أصحاب النَّبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لا يعْرِفه إلاَّ القليل ، وما يضيره ألاَّ يعْرفه إلاَّ القليل ، إذا كان ربُّ العالمين قد عرفه ورضي عنْه وأدخله جنته . وتَغيبُ شَمْسُ ذلك اليوم لتشرقَ مع صباح الغد القريب ، ويُعيد النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قولتَه بالأمس يطلُع الآن عليْكم رجلٌ من أهل الجنَّة . وإذا بالرَّجُل ذاته يخرج لهم تقطر لحيته من أثر الوضوء ، ويأتي اليوم الثَّالث وتأتي معه البشارة النبويَّة : يطلع الآنَ عليْكم رجلٌ مِن أهل الجنة . فيطلع ذلك الرَّجُل نفسه على هيئته السَّابقة

لا تسلْ عمَّا دار في نُفُوس الصَّحابة من معاني الغِبْطة والإكبار لذلك الرَّجل الذي يَمشي في دنيا النَّاس اليوم، والجنَّة مثواه غدًا، ليس المهمّ مَن هو ذلكم الرَّجُل، ولكن الأهمّ: لماذا بُشِّر؟ وما عمَلُه الذي بلَّغه رضا ربِّه عليْه ؟

 إنَّ رجلاً مغمورًا هذا مآلُه لحريٌّ أن يقتصَّ خبرُه، ثمَّ يُقْتَفى أثرُه، فانتدب لهذه المهمة عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال للرَّجل: إنّي لاحيت أبي – أي: خاصمتُه - فأقسمتُ ألاَّ أدخُل عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أَن تُؤْويني إليك حتَّى تَمضي، فقال الرَّجُل: نعم، فبات عنده عبدالله تلك اللَّيالي الثَّلاث، فلم يره يقوم من اللَّيل شيئًا، غير أنَّه إذا تعارَّ من الليل وتقلَّب على فراشِه ذكر الله عزَّ وجلَّ وكبَّر، حتَّى يقوم لصلاة الفجْر.

قال عبدالله: غير أنِّي لَم أسمعْه يقول إلاَّ خيرًا، فلمَّا مضت تلك اللَّيالي الثَّلاث، وكدتُ أن أحتقِر عمله، قلتُ له: إنِّي لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : يطلُع الآن عليْكم رجُلٌ من أهل الجنَّة . فطلعتَ أنت الثَّلاث مرار، فأردت أن أبيتَ عندك لأنظُر ما عملك فأقتديَ به، فلم أركَ تعمل كثيرَ عملٍ، فما الَّذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال الرَّجُل: ما هو إلاَّ ما رأيت، فلمَّا انصرف عبدالله ، ناداه الرَّجُل فقال : ما هو إلاَّ ما رأيتَ ، غير أنِّي لا أجِد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا ، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعْطاه الله إيَّاه ، فانصرف عبدالله وهو يقول هذه الَّتي بلغت بكَ، وهي الَّتي لا نطيق . إنَّها سلامة القلب وطهارته، تلك العبادة الخفيَّة، اليسير نُطْقها، العسير تطبيقها.

فما أحْوجنا - عباد الله - أن نتواصى بِهذه العبادة، في زمنٍ عمَّتْ فيه الشُّبهات، وطمَّت فيه الشَّهوات الَّتي تُمرض القلبَ وتُضْعِفه ، وتصدُّه عن سبيل الله، ناهيكم عن التَّنافُس على أمور الدنيا، حتَّى حلَّت الضَّغائن، وساءت العلاقات، وظهر التهاجُر والتَّدابُر،

إخوة الإيمان : سلامة القلْب وطهارته هي أعظم عمل ، وأجلُّ طاعة يلقى بها العبد ربَّه تعالى. إنَّ الله لا ينظر إلى صُوَركم و أموالكم ولكن ينظُر إلى قلوبِكم

سلامة القلوب بلْسمٌ للأرْواح، وراحةٌ للأجْسام؛ ولذا ترى سليم القَلْب من أهنأِ الناس عيشًا، وأطيبهم مَعْشَرًا

سليم القلب تنام عينه ملْء جفونها، هادئ البال ، مطمئنّ المضطجع ؛ لأنَّه يَحمل بين جنبيْه مضغة بيضاء، لا تحمل حقدًا ولا حسدًا ، ولا تكبُّرًا ولا غرورًا ، بل يحمل قلبًا طاهرًا طهارةَ الماء العذْب الزُّلال ، نقيًّا كنقاء الثَّلْج والبَرَد، مشرقًا بِنُور المحبَّة والمسامحة ، ساطعًا بضياء السَّلامة وحبّ الخير للغَير، يُسأل النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أيّ الناس خير فقال كلُّ مخموم القلب صدوق اللِّسان قالوا : يا رسولَ الله ، صدوق اللسان نعْرِفه ، فما مخموم القلب قال هو التَّقيّ النَّقيّ، لا إثْمَ فيه ولا بغْي، ولا غلَّ ولا حسد"

إخوة الإيمان : التديُّن الصادق يتمثَّل في المظهر والمخبر ، التديُّن الحق يبدأ حين يبدأ من إصلاح الباطن واستقامة القلب ؛ لأنَّ القلب إذا استقام استقامتِ الجوارح ، فلا لغْوَ يُرْسِلُه اللِّسان ، ولا خيانة يطلقها الطَّرف ، ولا إثم تتحسَّسه الأذن.

وصدَق الصَّادق المصْدوق ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحتْ صلحَ الجسَد كلُّه، وإذا فسدتْ فسد الجسد كلُّه، إلا وهي القلب

اللهم وفقنا لعمل الصالحات وجنبنا المنكرات .

الخطبة الثانية :

أما بعد : إنَّ خطايا القلوب آثامٌ موجِعة ، ينبغي أن نحترس منها أشدَّ مِن احترازنا من معاصي الجوارح ؛ فهي أشدُّ فتكًا وأعظم أثرًا ، خطايا القلوب تأكُل الحسنات كما تأكل النَّارُ الحطب، واستمع معي - أخي المبارك - إلى هذه النذُر المحمَّدية، واستجمعها بقلب يقظ، وعقل واع؛ لعلَّها تحول بينك وبين آثام الصدور . يقول عليه الصلاة والسلام :

لا يدخل الجنَّة مَن كان في قلْبِه مثقالُ ذرَّة من كِبْر .

والكبر مرض قلب يظهر أثره على صاحبه في حياته ..

يا فضلاء : ويَعْظُمُ خطر معاصي القلوب في أنَّها قد تأْتي في غير صورتها الواضحة ، فلا يستشْعِر حينَها العاصي أنَّه يتقلَّب في فساد باطني ، فالفرَح بأخطاء الآخَرين مثلا والسَّير بها في الآفاق للتشفِّي منهم مرضٌ قلْبي ، ينمُّ عن حسَدٍ أو بغض جاثم في القلْب.

 تنقُّصُ الآخرين ، وتقْزيم آرائهم ، واحتقار جهودهم ، عيبٌ يُورث العُجْب والتَّعالي

 وأخيرًا يا عبد الله :

لن تصِل إلى ما ترنو إليه من صلاح باطنك إلاَّ بعون من الله جلَّ جلاله . فاجْأر إلى ربك بالدعاء أن يصلحَ قلبك وينقي سريرتك من أمراض الشبهات والشهوات ، وقد كان من دعاء نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم : واسللْ سخيمة قلبي .

وردد دائما : ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا

اللهم صل على محمد ....

المشاهدات 585 | التعليقات 1

جُزيت الخير كله