سلامة الصدر, موعظة وتذكير, وقصص ومواقف من التاريخ 22-6-1437

أحمد بن ناصر الطيار
1437/06/21 - 2016/03/30 14:26PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتقوى الله أعظم أسباب السعادة, والرفعةِ في الدنيا والآخرة.
معاشر المسلمين: ما أجمل أنْ يكون الإنسانُ سليمَ الصدرِ تجاه المسلمين, نقيَّ الفؤادِ مِن الغلِّ والحقد, يَعْذُرهم ولا يقف عند زلاتهم وأخطائهم, يلتمس الأعذار لهم, ويحمل ما يبدر منهم على أحسن محمل.
بهذا والله يعيش الإنسان, ويرتاح الجنان, وصفو الخاطر, ويهنأ البال.
أما من يجعل قلبَه مستودعًا لزلات الناس, وقاموسًا للأخطاء والعثرات, وأرضًا خصبةً للغل والحقد والكراهة, يُدقق في أقوالهم وما صدر منهم, ويحمل في خاطره قبيح ما يراه منهم: فهذا نفسُه منه في بلاء, وقلبُه من الآلامِ أحرُّ من الرمضاءِ.
حيلتُه الكتمان, ومطيّتُه سوءُ الظنّ, وهذان الداءَان هما أعظم أسباب الهلاك, وأكثرُ مصادرِ الأمراضِ والحقدِ والهجران.

سلامةُ الصدر - يا أمة الإسلام- هي من أعظم أسباب رضا الله تعالى, وإدخالِه لصاحبه الجنة.
تأملوا في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد , بسندٍ صحيح على شرط البخاريِّ ومسلم, أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة», وكرر ذلك ثلاثًا, فعمل عبدُ الله بنُ عمروٍ حيلةً لينام عند هذا الرجل, وينظرَ في أعماله التي أوجبت له الجنة وهو بين أظهرهم, فلم يره يقوم من الليل شيئًا, غير أنه إذا تقلَّب على فراشه ذكر الله -عز وجل- وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، فلم يجده قوّامًا ولا صوَّامًا, ولا كثير قراءةٍ للقرآن, ولا مشتغلاً بالدعوة, ولا كثير الإنفاق وتفريج الْكُرب, قال عبد الله: فكدت أن أحتقر عمله, فقلت له: يا عبدَ الله, أردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به, فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: ما هو إلا رأيت, غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا, ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه.
فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق».
قال شيخ الإسلام رحمه الله: يُشِيرُ إلَى خُلُوِّهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَسَدِ.
وَبِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْصَارِ فَقَالَ: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً, أَيْ حَسَدًا وَغَيْظًا مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ. ا.ه
ويا سبحان الله, يُبَشَّر بالجنة وهو ليس معروفًا بأعماله الصالحة الظاهرة, بل ولا يُعرف حتى اسْمُه, لكنْ لِسَلامة قلبِه ضُمِنَتْ له الجنة وهو بين الأحياء.

ولننظر في تعامل شيخ الإسلام رحمه الله مع مَن أخطأ عليه, وهم الذين تسببوا في سجنه والتضييق عليه.
قال ابن القيم رحمه الله: كان بعضُ أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثلَه لأعدائه وخصومه, وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قط، وكان يدعو لهم.
وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتَنكَّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مساعدةٍ إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام. فسروا به ودَعوا له، وعظَّموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه ا.ه

وقال ابن كثير: قال ابن القلانسي: سمعت الشيخ تقيَّ الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام, وأن السلطانَ استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة؛ بسبب ما كانوا تكلموا فيه, وأنهم قاموا عليك وآذوْك, وأخذ يحُثُّه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم, وإنما كان حنقُه عليهم؛ بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله, ففهم الشيخ مراد السلطانِ, فأخذ في تعظيم القضاةِ والعلماء, وينكرُ أنْ ينالَ أحداً منهم سوءٌ, وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم.
فقال له: إنهم قد آذوك؛ وأرادوا قتْلَك مراراً, فقال الشيخُ: من آذاني فهو في حِلٍّ, ومن آذى الله ورسوله فاللهُ ينتقمُ منه, وأنا لا أنتصر لنفسي, وما زال به حتى حلُم عنهم وصفح.
قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابنِ تَيْميَّةَ, حرَّضْنا عليه فلم نَقْدر عليه, وقدر علينا فصفح عنا وحاجَجَ عنا. ا.ه
سبحان الله! يُنافح ويُدافع عن أعدى أعدائه! وبعضُ مَن ينتسب للعلم والسلفيّة, يُنافح ويُكافح لإيذاء بعض الدعاة والعلماء, وذكرِ معايبهم, والسكوت عن محاسنهم!
ورحمك يا شيخ الإسلام, أعداؤك لم يموتوا بموتك, بل لا يزالون إلى هذا اليوم, يشتمونك ويدعون إلى مُقاطعة كتبك, وينسبونك للإرهاب والعنف.

إخوة الإسلام: وتأملوا في موقف الإمام أحمد رحمه الله, مع المخالفين له العقيدة, الذين تسببوا في حبسه وضربه وحرمانه من نشر العلم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد قَدْ بَاشَرَ الْجَهْمِيَّة, الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ, وَامْتَحَنُوهُ وَسَائِرَ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ, وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ, الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَى التَّجَهُّمِ, بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ, وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَاتِ, وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ.
فَمَنْ أَقَرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ حَكَمُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ, وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ, وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا إلَى غَيْرِ التَّجَهُّمِ قَتَلُوهُ أَوْ ضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ.
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا لِلْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ, مِمَّنْ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ, وحللهم مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ مِنْ الظُّلْمِ, وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ. ا.ه

قارنوا بين فعل هذا الإمام الجليل مع خصومه في العقيدة, الذين لم يكتفوا بمخالفته في عقيدته ومذهبه, بل تعدّوا عليه بالضرب والسبّ والحبس, ومنعوه من الدروس ونشر العلم, وبين حال الكثير من الناس, الذين لم يُسامحوا إخوانهم في أمور تافهةٍ, أو مظلمةٍ قد لا تكون مقصودة.
نسأل الله تعالى أنْ يُصلح فساد قلوبِنا, ويجمع ذات بينِنِا, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.


الحمدُ لله الذي خلق فسوَّى، وقَدَّر فهدى، وصلى الله وسلم على رسوله المجتبى، وعلى آلِه وأصحابِه أعلام الهدى، أما بعد:

يا من تحمل أحقادًا مضى عليها أعوامًا طويلة, وتستذكرُ مواقفَ مُؤلمةً حدثت منذ أزمانٍ بعيدة, ماذا تستفيد من ذلك سوى الهمِّ والغمِّ والنكد, ماذا لو حلّلتهم وسامحتهم لوجه الله تعالى.
كن سليم الصدر تجاه الناس, المواقف والآلامُ ذهبت وانتهت, فلماذا تُبقيها في صدرك, وتستذكرها كلّ وقتك؟
قل بصدقٍ وعزيمة: اللهم إني عفوتُ عن كلّ من أساء إلي وأخطأ في حقّي, ابتغاء وجهك, ورجاء ثوابك, وطمعًا في عظيم عفوك.

واعلم أنّ الجزاء من جنس العمل, فمن حاسب الناس وناقشهم على كلّ صغيرة وكبيرة, حاسبه الله وشدّد عليه يوم يلقاه, ومن أبى أنْ يُسامح المسيء ويتجاوز عن المعسرين, قد لا يتجاوز الله عنه يوم تذهل كلّ مرضعةٍ عما أرضعتْ, وتضع كلّ ذات حمل حملها, يوم تشيب رؤوس الولدان, ومن هولِ ما يحدث تقف حيران, وتشخص العينان, ويأتي الجبار للفصل بين العباد, وتُقاد النارُ بالسلاسل, ويُبعث الناس من قبورهم, ويُنادى حينها بنداء يسمعه الجميع: ليقمِ العافين عن الناس, ليقم من عفى ليعفو الله عنه, فلْيدخلوا الجنة التي غرسها بيده, وهيأها لأفضل عبادِه, ما موقفك وأنت لست منهم, بل مت وقلبك مليء بالحقد والكراهية لأحد المسلمين, والأشنعُ لو كان من أقرب الأقربين؟
ما موقفك وأنت ترى الناس يقومون أفواجًا, فتقوم لتذهب معهم فتصدّك الملائكة وتقول: هل عفوت عمن ظلمك؟ هل مت وأنت سليم الصدر, هل مت وأنت لم تهجر أحدًا من المسلمين؟
فتقول: لا والله, لم أُسامحْ فلانًا الذي ظلمني, ولم أعف عن الآخر الذي آذني, ومت وأنا أحمل كرهًا لفلان, وهجرت أخي وابن عمي وصديقي.
فتقول: انظر بابًا غير هذا فلست أهلاً له.
اللهم مَن عَفا مِنَّا عن كلِّ المسلمين فاعف عنه, ومَن تجاوز عنهم فتجاوز عنه, ومن ترك هُجرَانهم فقرِّبْه إليك في الدنيا والآخرة.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا, الله اجعل قلوبَنَا سليمةً على المسلمين.
المشاهدات 1376 | التعليقات 0