سـورة الحجـرات (1ـ2)
فهد عبدالله الصالح
1434/03/15 - 2013/01/27 07:37AM
الحمد لله الذي حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وجعلنا من الراشدين
أحمده سبحانه وأشكره وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ والتزموا أمره ولا تعصوه
عباد الله : لقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن هدى للمتقين و نوراً يهدى به عباده الصالحين { قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } .
في القرآن الكريم ـ أيهـا الأخـوة ـ الكثير من التوجهات الربانية التي تحتاجها البشرية في مسيرة حياتها ، وسورة الحجرات سورة ٌربانية جليلة عظيمة تتضمن حقائق عن الإيمان والشريعة وعن الوجود والإنسانية .. إنها حقائق تفتح للعقل البشري أفاقا واسعة وتثير في النفس معان كبيرة , وهذه السورة تتحدث عن قواعد التربية والتهذيب وعن مبادئ التشريع والتوجيه .
المتأمل لهذه السورة العظيمة يجد أن الإسلام يريد عالَماً متأدباً مع الله ومتأدباً مع رسوله صلى الله عليه وسلم ومتأدباً مع نفسه ومتأدباً مع غيره , عالماً نقي القلب نظيف المشاعر عفً اللسان وقبل ذلك عف السريرة .
معـاشـر المسـلمين : تبدأ السورة بنداء الكرامة وهو الإيمان هذا النداء المحبب للنفوس والمحرك للقلوب .. يقول ابن عباس رضى الله عنهما : إذا سمعت الله تعالى يقول يأيها الذين آمنوا : فأرعها سمعك فإنه خيرٌ يؤمر به أو شرٌ ينهى عنه { يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله أن الله سميع عليم }
إنه أدبٌ نفسي مع الله تعالى وهو أعلى أنواع الأدب إنه المعتقد الصحيح في التلقي والتنفيذ وهو أصل من أصول التشريع ,
إنها التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميعٌ عليم , إنه مرآة الإيمان الصادق والنزاهة من النفاق وأهله، فلا يسيء الأدب مع الله تعالى إلاَ كافرٌ لا يؤمن بالله صراحة كاليهود الذين قالوا يد الله مغلولة وقالوا : إن الله فقير تعالى الله عن ذلك أو كالنصارى الذين زعموا أن لله ولداً وأنه ثالث ثلاثة والعياذ بالله ويسيء الأدب مع الله ـ أيضاً ـ المنافقون في نقدهم لأحكام الشريعة وسخريتهم بآيات الله واستهزائهم بالمؤمنين والمؤمنات عياذاً بالله من النفاق .
وكما يكون الأدب مع الله تعالى يكون الأدب مع نبيه صلى الله عليه وسلم ففي حياته يكون الأدب في الحديث والخطاب والتوقير في القلوب توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم ويميز شخص الرسول صلى الله عليه وسلم من بينهم والله عز وجل يدعوهم لذلك ويحذرهم من مخالفته { يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون }
ولقد تربى جيل الصحابة رضى الله عنهم على هذا الفهم الواعي فكانوا قمة ً في الأدب والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما جاء من حديث أنس رضى الله عنه قال لما نزلت هذه الآية { يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } كان ثابت بن قيس ابن الشماس رضي الله عنه رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزينا ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له : تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق النبي وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال : فقال عليه الصلاة والسلام { لا بل هو من أهل الجنة } قال أنس رضى الله عنه : فكنا نراه يمشى بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة } رواه الإمام أحمد في مسنده
والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يكون في احترام شريعته وعدم تقديم العقل عليها والاعتزاز بها والعمل بموجبها والدعوة لها ولقد وصف الله تعالى المتأدبين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم أصحاب تقوى وأنً لهم مغفرة وأجراً عظيماً وفي المقابل وصف الذين ينادونه صلى الله عليه وسلم من وراء بيته كأنهم ينادون أصغر أبنائهم وصفهم الله بأنً أكثرهم لا يعقلون وكان الأولى في حقهم كما قال تعالى { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم } .
ولقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع وتجاوزوا به كلً أستاذٍ وعالم جليل لا يزعجونه حتى يخرج إليهم ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم .. يحكى عن أبي عبيد العالم الزاهد الراوية الثقة رحمه الله أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه .
أيهـا المسـلمون : كان التوجيه الأول في أول السورة لاحترام وتوقير جهة التلقي عظمة الله عز وجل, ثم كان التوجيه الثاني في أدب التعامل مع قائد الأمة صلى الله عليه وسلم حتى يصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها , ثم جاء النداء الثالث يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء وكيف يتصرفون بها ويؤكد ضرورة التثبت من مصدرها { يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } .
وخص الفاسق بالذكر ـ أيها المؤمنون ـ لأنه مظنة الكذب وجاء التحذير من تصديقه حتى لا تفقد الثقة في مجتمعات المسلمين لأن الأصل أن يكون أفرادها موضع ثقة وأن تكون أنباؤهم صادقة ً مأخوذاً بها وكلمة فاسق تشمل كلً ما اتصف بالفسق وهو الخروج عن الطاعة , وهي شاملة ٌ لكل شخص معروفٍ بفسقه أو جهة أو فضائيةِ أو صحيفةٍ أو إذاعةٍ ثبتُ الفسوق والعصيان .
فالمسلم لا يأخذ الحق من الفاسق ولو تزين في والمسلم في هذا العصر لا يجوز في حقه أن يكون مصدر معلوماته ومنطلقات حكمه الصحف والمجلات والفضائيات التي ثبت الفسوق والفجور والعصيان حتى أن بعضها يقلب المفاهيم ويطمس الحقائق ويشوه الفضيلة ويزين الرذيلة ويهاجم الشريعة
وصدق الله العظيم بقوله : يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } إنه ندم يصيب المؤمنين في الدنيا إذا اكتشفوا الحقيقة وندمٌ يصيبهم في الأخرى جزاء ما اقترفته ألسنتهم وسائر جوارحهم , ولكنً الله تعالى لا يترك عباده المؤمنين هملاً وضيعة لا يتركهم عالة على خبر الفاسق وعلى مروجي الأكاذيب بل يطمئنهم بوجود الوحي المنزل بقوله تعالى { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكنُ الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم } .
لقد أراد الله بعباده المؤمنين خيراً حين حبب إليهم الإيمان وزينهم به وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان , إنه بقدر قوة الإيمان وتمسك الإنسان به تكون قوة كره الكفر والفسوق والعصيان .
وبهذه النعمة وبهذه المنة ـ أيها الأخوة ـ يكون الرشاد والفلاح أولئك هم الراشدون , والإنسان لا يسعد ولا يسلم في هذه الدنيا إلاَ إذا أسلم نفسه لله ورضي بحكم الله وبما قسمه الله له وبقضائه وقدره فالله تعالى يقول { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاَ في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم { عجباً لأمر المؤن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلاَ للمؤن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً } .
آلا فاتقوا الله أيها المسلمون وتأدبوا مع الله ورسوله ومع أنفسكم ومع الخلق أجمعين واحذروا الفساق بشتى صورهم وأشكالهم واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أمَـا بعـد : فلا تزال توجيهات سورة الحجرات تتوالى للأمة المسلمة وبعد أن حذر الله من الانسياق وراء خبر الفاسق عقب الله تعالى بقوله ـ عز وجل ـ { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنين أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } . . قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع من الخصام والتفكك
والإصلاح بين الناس يكون كما قال الله تعالى بالعدل والقسط
إن الإصلاح بين الناس ـ أيهـا الأخـوة ـ باب عظيم من أبواب الخير فهو يجمع الشمل ويقارب بين القلوب ويوحد الكلمة قال تعالى { لا خير في كثير من نجواهم إلاَ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيما } .
والخلاف وارد لاختلاف النفوس والطبائع سواء كان بين زوجين أو شريكي تجارة أو زميلين أو جارين أو قريبين أو غيرهما وغالباً ما تكون المشكلة صغيرة والهوة ضيقة فهي تحتاج إلى طرف ثالث ناصح يوفق ويقرب .
وبعد أن أمر الله بذلك ذكَر الجميع بالرابطة الوثيقة بينهم والتي جمعتهم بعد تفرق وألفت بينهم بعد الخصام { إنما المؤمنين إخوة فأصلحوا بين أخويكم } . ورحمة الله ـ أيهـا المـؤمنون ـ لا تنال إلاَ بتقواه فلما ذكَر الله المتخاصمين ذكر الأمة جمعاء بقوله تعالى { واتقوا الله لعلكم ترحمون } .
آلا فاتقوا الله ـ أيهـا المسـلمون ـ وافعلوا الخير لعلكم ترحمون ثم صلوا على البشير النذير ....