سعي العاجلة والآجلة 1445/4/19ه

يوسف العوض
1445/04/15 - 2023/10/30 13:21PM

الخطبة الأولى

عِبَادَ اللهِ: يقولُ اللهُ تعالى : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ ، فكُلُّ عَامِلٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهُ هَدَفٌ يُرِيدُ الوُصُولَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ لَهُ غَايَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا وَقِيمَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ قِيمَةِ هَدَفِهِ وَغَايَتِهِ، فَكُلَّمَا كَانَ الهَدَفُ وَالغَايَةُ سَامِيَينِ كَانَ الإِنْسَانُ سَامِيًا، وَكُلَّمَا كَانَ الهَدَفُ وَالغَايَةُ صَغِيرَيْنِ كَانَ الإِنْسَانُ صَغِيرًا..

عِبَادَ اللهِ : قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : "من كانت الدُّنيا همَّه ، فرَّق اللهُ عليه أمرَه ، وجعل فقرَه بين عينَيْه ، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له ، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه ، جمع اللهُ له أمرَه ، وجعل غناه في قلبِه ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ " والنَّاسُ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى قِسْــــــــــمَيْنِ: قسمٌ أَرَادَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَزَخَارِفَهَا وَبَهَارِجَهَا، أَرَادَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا المُزَيَّنَةَ للنَّاسِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ ، وهَذَا القِسْمُ جَعَلَ الحَياةَ الدُّنْيَا هَدَفَهُ وَغَايَتَهُ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ مُستَمَدَّةً مِنْ قِيمَةِ هَدَفِهِ وَغَايَتِهِ.

وقسمٌ أَرَادَ اللهَ تعالى وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَ وَبِمَا أَنَّ الجَمِيعَ عَبِيدٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُمِدُّ كُلًّاً مِنَ القِسْمَيْنِ، قَالَ تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾..

عِبَادَ اللهِ: مَآلُ الذينَ أَرَادُوا العَاجِلَةَ دُونَ الآجِلَةِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى الفَانِيَةِ دُونَ البَاقِيَةِ، إلى خُسْرَانٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ ، وَأَمَّا الذينَ أَرَادُوا اللهَ تعالى وَالدَّارَ الآخِرَةَ، وَسَعَوْا لَها سَعْيَهَا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ المُفْلِحُونَ بِإِذْنِ اللهِ تعالى، وَسَوْفَ يَكُونُ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، هَذَا القِسْمُ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَحَمَلُوهَا عَلَى الالْتِزَامِ بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في سَاعَةِ الجِدِّ وَالهَزْلِ، في سَاعَةِ العَطَاءِ وَالمَنْعِ، في الرَّفْعِ وَالخَفْضِ، هَؤُلَاءِ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُم بِكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، هَؤُلَاءِ هُمُ الفَائِزُونَ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

عِبَادَ اللهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الآخِرَةَ، عَلَيْهِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى تِلْكَ الطَّاعَاتِ مِنَ الضَّيَاعِ حَتَّى لَا يَكُونَ مُفْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ كما قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ :" أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ" نَعوذُ باللهِ مِن النّارِ وأهلِها..

الخطبة الثانية

عِبَادَ اللهِ: مِن شَنائعِ الأمورِ الَّتي يَغفُلُ عنها كَثيرٌ مِن النَّاسِ أنَّهم ربَّما يُحسِنون العباداتِ، إلَّا أنَّهم يَقترِفون معها الذُّنوبَ، والَّتي منها ما يَتعلَّقُ بحُقوقِ العبادِ، وسَوفَ يُحاسَبُ كلُّ إنسانٍ يومَ القيامةِ على ما عَمِل مِن خَيرٍ أو شَرٍّ.

وفي هذا الحديثِ الآنفِ الذكرِ سألَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَهُ رَضيَ اللهُ عنهم: «أَتدْرونَ»، أي: أَتعلَمونَ «ما المُفلِسُ» وما حَقيقتُه ؟! وهذا الاستفهامُ للتَّقريرِ وإخراجِ الجَوابِ مِن المخاطَبِ لِيَبني عليه الحُكمَ المرادَ، فَأجابوا: الْمُفلِسُ فِيما بيْننا وفيما نَعرِفُه هو مَن لا يملكُ مالًا، ولا متاعًا، أي: مِمَّا يَحصُلُ به النَّقدُ وما يُتمتَّعُ به مِنَ حَوائجِ وأغراضِ الدُّنيا، مثلُ: الأقمشةِ والجواهرِ والْمَواشي والعبيدِ، وأمثالِ ذلك، والحاصلُ: أنَّهم أجابوا بما عندَهم مِنَ العِلمِ بِحسَبِ عُرْفِ أهْلِ الدُّنْيا، كما يدُلُّ عليه قولُهم: «فِينا»، فقال لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتِي»، أي: المفلسُ الحقيقيُّ، أوِ المُفْلِس في الآخرةِ، هو «مَن يأْتي يوْمَ القيامةِ بِصيامٍ وصَلاةٍ وزكاةٍ» مَقبولاتٍ قدْ أدَّاها كما أمَرَه اللهُ، وذِكرُ هذه العباداتِ ليْس للحصرِ، بلْ هو تَمثيلٌ يَشمَلُ جميعَ الطَّاعاتِ، ولكنَّه يَأْتي وقدْ شَتمَ هذا، أي: وَقعَ منه شَتْمٌ وسبٌّ لِأحدٍ، وقذَفَ هذا، وهو الاتِّهامُ بِالزِّنا ونحوِه، «وَأكَلَ مالَ هذا» بِالباطلِ، «وسفَكَ دمَ هذا» فأَراقَ دمَه بِغيرِ حقٍّ، «وضرَبَ هذا» مِن غيرِ استحقاقٍ، أو زيادة على ما يَستحِقُّه، وذِكرُ هذه السَّيِّئاتِ ليْس للحصرِ، بلْ هو تَمثيلٌ يَشمَلُ جميعَ المعاصِي، والمقصودُ جَميعُ حُقوقِ العِبادِ، والمعنى: مَن جمَعَ بيْن تلك العِباداتِ وهذه السَّيِّئاتِ، فَيُعْطَى هذا المظلومُ بَعضَ حَسناتِ الظَّالِمِ، ويُعطَى المظلومُ الآخَرُ بعضَ حَسناتِه، فإنْ فَنِيَتْ حَسناتُه قبْلَ أن يُؤدِّيَ ما عليه مِنَ الحقوقِ، أَخَذَ الظالِمُ مِن سيِّئاتِ أصحابِ الحقوقِ، فَطُرحتْ على هذا الظالِم ووُضعَتْ عليه، ثُمَّ أُلْقِيَ ورُمِيَ في النَّارِ؛ كَي يُعذَّبَ بها بقَدْرِ استحقاقِه إنْ لم يُغفَرْ له، وفيه إشعارٌ بأنَّه لا عَفوَ ولا شَفاعةَ في حقوقِ العبادِ إلَّا أنْ يَشاءَ اللهُ، فَيُرضِي المظلومَ بِمَا أرادَ، حتَّى إذا انتهَتْ عُقوبةُ تلك الخَطايا رُدَّ إلى الجنَّةِ إنْ كانت هناك حَسناتٌ باقيةٌ، وإلَّا فبَبركةِ الإيمانِ وبما كُتِب له مِن الخُلودِ.

المشاهدات 675 | التعليقات 0