سطوة القرآن
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عباد الله : لطالما أبْهَرَنا أصحابُ القلوبِ الخاشعةِ، الّتي تخشعُ للقرآنِ وعظمَتِه وتَذْرِفُ سيلاً من الدّموع لِتِلاوته، بينما ترى أغلبيتنا لا يخشعون ولو مرةً واحدة السّنة ، وهناك من تجمّدت قلوبُهم لا تُسْتَثار دموعُهم ولو قليلاً عند سماعِهم لكلام الله سبحانه ، فمن عجائِب الله وقدرته كلامُه تعالى وما يترُكه في نفوسِنا، تُحسّ بعد سماعِه أنّ سكينةً غريبة أطبقت على المكان وطُمأنينة تُخالج مشاعِرك وتجتاحُها وأنّ كلّ ما حولكَ توقف وأنّ كلّ الطاقات السلبية الّتي كانت تلتفُ بك قد غادرتِ المكان! حقًا إنّ للقرآن تأثيراً ملموساً يصعبُ على الواحِد منّا أن يُعَبّرَ عنه بالكلماتِ.
فهو يُريح قلب المهموم ويُفرّج همّ المغموم، يَزرعُ الطُمأنينة في النّفوس ويبُثّ فيها السّكينةَ والهدوءَ رويدًا رُويدًا، حتّى في قلوب الكافرين فما بالُك نحن المسلمون ، ولطالما كان القرآن الكريم السببَ في دخولِ الكثيرين من غير المسلمين للإسلام بسبب الشعور الّذي استحوذهم فورَ سماعِه حتّى وإن لم يعرفوا اللّغة العربية ، كلّ هذا راجع لسَطْوَةِ القرآن الّتي عجز عن تفسيرِها العلماء وحارت فيها العقول، وما يترُكُه من مشاعِر في نفوس البشر، فوحده القرآن ما يستثير فينا تلك الدمعات بعد سماعه أو تلاوته، ففي قوله تعالى في سورة الحشر: ﴿ لَوْ أنْزَلْنَا هَذَا القُرآنْ عَلَى جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله) فإن كان هذا حالُ الجمادْ ولَيْسَ أيُّ جمادْ إنّه الجَبَل الّذي لا تَهُزُّه ريحٌ، فكيف حالُنَا نحنُ البَشَر؟
عباد الله : في صحيح البخاري: (أّنَّ أبَا بَكر ابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِناء دارِه وبَرَزَ فكان يصلِّي فيه ويقرأ القرآن، فيَتَقَصَّفُ - يكتظ ويزدحم- عليه نساءُ المشركين وأبناؤهم يَعْجَبُون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكًّاء لا يملك دَمْعَه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشرافَ قريش من المشركين) ، ففي هذا الحديث دليلٌ واضح على مدى سطوة القرآن، فرُغم شِركُ العباد إلاّ أنّ هذا لم يشكّل حيلولةً بينهُم وبين الهربِ لسماع تلاوةِ أبي بكر لكلام الله عزّ وجلّ مأخوذين بجمالِ القرآن.
عباد الله : وهذه الظاهِرة الّتي تجعلُ مشاعِر بني الإنسان تهتز وتلكَ القشعريرة الغريبة الّتي تسري في أوصالنا ليست مجرّدَ تأثيرٍ بسيط ٍعلى النّفس والجوارِح بل هي أكثرُ من ذلك، إذ يصل بنا الأمر إلى الخُرُور في الأرض، ففي سورة الإسراء يقول جلاّ وعلا: ﴿ قٌل آمِنُوا أو لاَ تُومِنُوا إنَّ الّذِين أوتُوا العِلمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِم يَخِرّونِ للأذْقَانِ سُجَّدًا ﴾ وفي قصّةٍ أخرى يقول جبير بن مطعم: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴾ كاد قلبي أن يطير ".
فسُبحان الله رُغمَ شِرك جُبَير بن مطعم إلاّ أنّ كلام الله الّذي أنزله على حبيبِه المصطفى صلى الله عليه وسلم بثّ في نفسِه مشاعرَ غريبةً جعلتُه يحسّ أن قلبَهُ سيطيرُ، وهذه الظاهرةُ ليست باكتشافٍ علمي أو تجربةٍ خاصةٍ بفئةٍ عن فئةٍ بل هي معجزةٌ من معجزاتِ اللهِ تعالى الّتي أخبرنا بها وذكرها في كتابه تعالى في العديد من المواضع ففي قوله عزّ وجل: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" ﴾ ، وقالَ اللهُ تعالى : ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾.
عباد الله : وهذا ما جعل للقرآن الكريم خصوصيةً فريدة ًعن غيره من الكتبِ والمؤلفاتِ البشريةِ ، سرّ الله في كلامه المبين الّذي تقشعرُّ منه الجلود وتخشع له القلوب وتستثار منه الدّموع ، فهل يليق بنا هجره كلامهِ تعالى خاصةً ونحن نعلم أنّه الدواء لكلّ داء؟ فبينما هنالِك من يحافظون على وردهم اليومي ويسارعون لحفظ كلام الله وختم كتابه ويخشعون لآياته، نجدُ في المقابل أولئك الذين لا ينفعِل وجدانهم لكلامه تعالى بل ربما يتأثرون بالروايات والكتب الفكرية، يتفاخرون بإنهاء كتابٍ ما في ليلة واحدة وهم هاجرون لكتاب الله وقد مرّ على آخر وردٍ لهم الشهر والشهران أو ربما أكثر، يبيتون لياليهم يتصفحون المقالات وصفحات التواصل الاجتماعي ويتلذذون بقراءة الكتب ولا يتحرك ضميرهم ولو للحظة ليتدبروا كتاب الله ويتلون ولو ثُمنًا من أحزابه، ففي قوله تعالى عن هذه الفئة من النّاس في سورة الزّمر: ﴿ َأَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾.
الخطبة الثانية
عباد الله : ولكم هو أمرٌ مُحزِن حين نسمعُ عن أناسٍ يبيتون خاشعين مع كتاب الله يتلون آياتِه وأناسٍ يخشعون مع الكتب الفكرية أو مواقع التواصل الاجتماعي، ويا ليتنا ندري عظمة قراءة كلام الله تعالى في الهزيع الأخير من الليل ، ففي صحيح البخاري عن أسيد بن حضير: قال " بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال رسول الله "وتدري ما ذاك؟ " قال: لا ، قال رسول الله: " تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم".
ياعبدَ اللهِ : لا تجعل في قلبك أيَّ إدلالٍ على الله تعالى، فليس لله تعالى حاجةٌ بعبادتِنا بل نحن المحتاجون ، وحتّى نتقرّبَ منه بمختلفِ الطاعاتِ والعباداتِ علينا أن نشكره على نعمته التي فضلها علينا بأن ثبتنا على طاعته ولم يجعلنا من عباده الساهين الغافلين، فعبادة الله تحتاج عبادة قبل العبادة وبعد العبادة، الأولى تكمن في الاستعانة والثانية هي الشُكر، لقوله تعالى في سورة الفاتحة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾"، فاستعانة العبد بالله تعالى تفتح في وجهه أبواب التوفيق والتيسير والتي تكون حاضرةً في كلِّ شيء ناهيك عن عبادة الله لنتخم عبادتنا بشكره عزّ وجل على منته وكرمه أن هدانا لقراءة ورد أو اداء عبادة فلو لم يهدِنا لهذا لكانت تلك الدقائق ضاعت هباءً منثورا.
المرفقات
1741176741_سطوة.docx