سحائب الرحمات في بر الأمهات
أبوزيد السيد عبد السلام رزق الأزهري
سحائب الرحمات في بر الأمهات
للشيخ / أبوزيد السيد عبد السلام رزق الأزهري
نعيش عباد الله في هذا اليوم مع ينبوع الحنان وبحر الرحمة مع القلب الحنون والحضن الدافئ مع ريحانة الدنيا مع الكنز المهجور مع صاحبة القلب الرحيم والصدر الحنون التي جبلها الله على الشفقة والرحمة حتى سرت سريان الدم في عروقها لا تجازي بالسيئة السيئة جمعت خصال الرقة والشفقة كم حزنت لتفرح وجاعت لتشبع وبكت لتضحك وسهرت لتنام تحملت الشدائد والصعاب في سبيل راحتك أملها أن تحيا سعيدًا راضيًا رضيا مناها أن يرفرف السرور في سمائك وتسكن السعادة في ربوعك من تعطي ولا تطلب أجرا وتبذل ولا تريد شكرا تأمل يا رعاك الله حال صغرك تذكر ضعف طفولتك فقد حملتك أمك تسع أشهرٍ وهنًا على وهن حملتك كرهًا ووضعتك كرها تزيدها بنموك ضعفًا وتُحملها فوق طاقتها عناءً وهي ضعيفة الجسم واهنة القوى وعند الوضع رأت الموت بعينيها زفرات وأنين غصص وآلام ولكنها تتصبر وتتصبر وعندما أبصرتك بجانبها وضمتك إلى صدرها واستنشقت ريحك وتحسست أنفاسك تتردد نسيت آلامها وتناست أوجاعها رأتك فعلقت فيك آمالها ورأت فيك بهجت الحياة وزينتها ثم انصرفت إلى خدمتك ليلها ونهارها تغذيك بصحتها وتنميك بهزالها وتقويك بضعفها طعامك لبنها وبيتك حجرها ومركبك يداها تحيطك وترعاك تجوع لتشبع أنت وتسهر لتنام أنت فهي بك رحيمة وبك شفيقة إن غابت عنك دعوتها وإن أعرضت عنك ناديتها وإذا أصابك مكروه استغثت بها تحسب الخير كله عندها وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لا حظتك بعينها تخاف عليك رقة النسيم وطنين الذباب فلما تم فصالك في عامين وبدأت بالمشي أخذت تحيطك بعنايتها وتتبعك نظراتها وتسعى ورائك خوفًا عليك ثم كبرت وأخذت منك السنون فأخذ منها الشوق والحنين صورتك أبهى عندها من البدر صوتك أندى في مسمعها من تغريد البلابل والطيور ريحك أروع عندها من الأزهار والطيب سعادتك أغلى عندها من الدنيا لو سيقت إليها بحذافيرها يرخص عندها كل شيء في سبيل راحتك حتى ترخص عندها نفسها فتُأثر الموت لتعيش أنت سالمًا مرضيا ، تطلب الجنة بزعمك و هي تحت أقدام أمك حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج و أرضعتك من ثديها لبنا و أطارت لأجلك وسنا و غسلت بيمينها عنك الأذى و آثرتك على نفسها بالغذاء و صيرت حجرها لك مهدا و أنالتك إحسانا و رفدا فإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية و أطالت الحزن و النحيب و بذلت مالها للطبيب و لو خيرت بين حياتك و موتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها هذا و كم عاملتها بسوء الخلق مرارا فدعت لك بالتوفيق سرا و جهارا فلما احتاجت عند الكبر إليك جعلتها من أهون الأشياء عليك فشبعت و هي جائعة و رويت و هي قانعة و قدمت عليها أهلك و أولادك بالإحسان و قابلت أياديها بالنسيان و صعب لديك أمرها و هو يسير و طال عليك عمرها و هو قصير هجرتها و مالها سواك نصير هذا و مولاك قد نهاك عن التأفف و عاتبك في حقها بعتاب لطيف ستعاقب في دنياك بعقوق البنين و في أخراك بالبعد من رب العالمين يناديك بلسان التوبيخ و التهديد ( ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد ) ، إنها الأم يا من تريد النجاة الزم رجليها فثم الجنة .
بر الأم في كتاب الله تعالى
إن بر الوالدة من صفات الأنبياء والمرسلين ومن شمائل المؤمنين الصالحين، قال تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه السلام: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ (مريم: 30ـ 34)
لذا فقد خصها الله تعالى بالتكريم في قرآنه الكريم وأكد على فضلها، وخصه بالذكر والتعظيم، قال سبحانه: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ (لقمان: 14،15)
بل فهو سبحانه يفرح لفرحها ويحزن لحزنها، قال سبحانه في قصة أم موسى: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ( القصص: 13)
بر الأم في السنة النبوية
قدم النبي صلى الله عليه وسلم برها ورفع فضلها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ) أخرجه أحمد" 2/327(8326) والبخاري " 5971 ) ومسلم ـ 6592)
عن بَهْزَ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمَّكَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ." مسند أحمد (6 / 728)(20028) 20281- صحيح.
بين النبي صلى الله عليه وسلم أن بر الأم مقدم على الجهاد في سبيل الله عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ - . السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «ارْجِعْ فَبَرَّهَا» ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا» ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جِئْتُ أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَقَدْ أَتَيْتُ وَإِنَّ وَالِدَيَّ لَيَبْكِيَانِ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو صحيح .
بر الأم سبيل لجنة الله تعالى عَنْ طَيْسَلَةَ بْنِ مَيَّاسٍ قال: كُنْتُ مَعَ النَّجَدَاتِ [أي :مع الخوارج] فَأَصَبْتُ ذُنُوبًا لاَ أَرَاهَا إِلاَّ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «مَا هِيَ؟»، قُلْتُ: كَذَا وَكَذَا، [وعدد ذنوبه] قَالَ [أي :ابن عمر]: «لَيْسَتْ هَذِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، هُنَّ تِسْعٌ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ نَسَمَةٍ [أي :قتل النفس]، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَإِلْحَادٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَالَّذِي يَسْتَسْخِرُ [أي :يستهزئ بالناس] وَبُكَاءُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعُقُوقِ»، قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: «أَتَفْرَقُ النَّارَ [أي :أتخاف النار] وَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟»، قُلْتُ: إِي وَاللهِ، قَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدُكَ؟»، قُلْتُ: عِنْدِي أُمِّي، قَالَ: «فَوَ اللهِ لَوْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلاَمَ، وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ، لَتَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ، مَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ» أخرجه البخاري في الأدب المفرد وغيره وهو حديث صحيح .
بر الأم أفضل عمل يتقرب به العبد إلى ربه عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : " إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي ، وَخَطَبَهَا غَيْرِي فأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ ، فَغِرْتُ عَلَيْهَا ، فَقَتَلْتُهَا ، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ : أُمُّكَ حَيَّةٌ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : تُبْ إِلَى اللَّهِ ، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ . فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ : لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ ؟ فَقَالَ : إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ )
أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " ( رقم 4 ) بسند صحيح على شرط الصحيحين وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد الجزء الأول ( ص : 3 ) .
بر الوالدة سبب للتفريج في الدنيا
جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ ( البقرة: 67 )
إنه كان زمن بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى، وألقاه على بابها ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم بالقتل، فجحدوا واشتبه أمر القتيل على موسى عليه الصلاة والسلام. فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ما أشكل عليم، فسأل موسى ربه في ذلك فأمره بذبح بقرة، وأمره أن يضربه ببعضها فقال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴿ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ﴾ [البقرة: 67] أي نحن نسألك أمر القتيل، وأنت تستهزئ بنا وتأمرنا بذبح بقرة وإنما قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر، ولم يعلموا ما وجه الحكمة فيه ﴿ قَالَ ﴾ [البقرة: 67] يعني موسى ﴿ أَعُوذُ بِاللَّهِ ﴾ أي أمتنع بالله ﴿ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67] أي المستهزئين بالمؤمنين وقيل: من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال فلما علموا أن ذبح البقرة عزم من الله تعالى إستوصفوه إياها ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد عليهم وكان في ذلك حكمة الله عز وجل، وذلك أنه كان رجل صالح في بني إسرائيل، وله ابن طفل وله عجلة فأتى بها غيضة وقال: اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر و مات ذلك الرجل، وصارت العجلة في الغيضة عواناً وكانت تهرب من الناس، فلما كبر ذلك الطفل، وكان باراً بأمه وكان يقسم ليله ثلاثة أجزاء يصلي ثلثاً وينام ثلثاً، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فيحتطب ويأتي به السوق فيبيعه بما يشاء الله فيتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي أمه ثلثه، فقالت له أمه يوماً: يا بني إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى غيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، فأقبلت البقرة حتى وقفت بين يديه فقبض على قرنها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى، قالت: أيها الفتى البار بأمه اركبني فإنه أهون عليك. فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك فقالت البقرة والله لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له أمه: إنك رجل فقير ولا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع البقرة، فقال: بكم أبيعها قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها الفتى إلى السوق، وبعث الله ملكاً ليرى خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بأمه، وهو أعلم فقاله له الملك: بكم هذه البقرة؟ قال بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضى أمي فقاله له الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر أمك فقال له الفتى لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي ، ورجع الفتى إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت له: ارجع فبعها بستة دنانير ولا تبعها إلا برضاي فرجع بها إلى السوق وأتى الملك فقال له: استأمرت أمك فقال الفتى: نعم. إنها أمرتني أن لا نقصها عن ستة على رضاها. فقال الملك: إني أعطيتك اثني عشر ديناراً ولا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك فقالت له أمه: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجزيك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل فقاله له الملك: اذهب إلى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبعها إلا بملء مسكها ذهباً والمسك الجلد فأمسكتها وقدر الله على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفون البقرة حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها مكافأة بذلك الفتى على بره بأمه فضلاً من الله تعالى ورحمة ) ( تفسير الخازن 1/ 245 ) .
الإمام البخاري رحمه الله تعالى يرد الله تعالى عليه بصره لبره بأمه يروي الإمام اللالكائي في كتابة "شرح السنة" وغنجا ر في "تاريخ بخاري" هذه القصة: كان البخاري قد ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليل إبراهيم عليه السلام في المنام فقال لها: يا هذه رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك، قال: فأصبح وقد رد الله عليه بصره.
إن بر الوالدين سبب لتفريج الكربات عن العبد في الدنيا ففي الصحيحين عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ، رضيَ اللهُ عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: "انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فانْحَدَرَتْ صَخْرةٌ مِنَ الْجبلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا الله تعالى بصالح أَعْمَالكُمْ قَالَ رجلٌ مِنهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كَبِيرانِ، وكُنْتُ لاَ أَغبِقُ قبْلهَما أَهْلاً وَلا مالاً فنأَى بِي طَلَبُ الشَّجرِ يَوْماً فَلمْ أُرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا فَحَلبْت لَهُمَا غبُوقَهمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِميْنِ، فَكَرِهْت أَنْ أُوقظَهمَا وَأَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِى أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ وَالصِّبْيَةُ يَتَضاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمى فَاسْتَيْقظَا فَشَربَا غَبُوقَهُمَا. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَة، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ ....) .
نماذج من بر السلف لأمهاتهم
بر النبي صلى الله عليه وسلم بأمه لقد ضرب لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - مثالاً عملياً على ذلك، فها هو عليه الصلاة والسلام يتذكر أمه ويزور قبرها بعد وفاتها بعد أكثر من خمسين سنة من رحيلها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَزُورُوَا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ. صحيح مسلم (2304) وصحيح ابن حبان - (7 / 440).
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: انْتَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَسْمِ قَبْرٍ فَجَلَسَ، وَجَلَسَ النَّاسُ حَوْلَهُ كَثِيرٌ، فَجَعَلَ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ كَالْمُخَاطِبِ. قَالَ: ثُمَّ بَكَى، فَاسْتَقْبَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:" هَذَا قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَأَبَى عَلَيَّ، وَأَدْرَكَتْنِي رِقَّتُهَا فَبَكَيْتُ " قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ سَاعَةً أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ ". دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (101) صحيح السيرة النبوية للألباني الجزء الأول صفحة رقم ـ 23) . .
قَالَ الْقَاضِي: بُكَاؤُهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ إِدْرَاك أَيَّامه، وَالْإِيمَان بِهِ. شرح النووي على مسلم- (3 / 403 ) .
بر عثمان بن عفان رضي الله عنه بأمه قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ- رَحِمَهُ اللَّهُ -: بَلَغَتِ النَّخْلَةُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَعَمَدَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِلَى نَخْلَةٍ فَاشْتَرَاهَا فَنَقَرَهَا وَأَخْرَجَ جُمَّارَهَا [والجمار هو لب النخلة الأبيض وهو ألذ شيءٍ في النخلة] فَأَطْعَمَهَا أُمَّهُ، فَقَالُوا لَهُ: مَا يَحْمِلُكُ عَلَى هَذَا؟ وَأَنْتَ تَرَى النَّخْلَةَ قَدْ بَلَغَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ؟، قَالَ: «إِنَّ أُمِّي سَأَلَتْنِي وَلَا تَسْأَلُنِي شَيْئًا أَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهَا
بر حارثة بن النعمان رضي الله عنه بأمه عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعَتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ ) شعب الإيمان - (10 / 262) (7467) صحيح .
و عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا قَالَتْ : " كَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأُمِّهِمَا : عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ، وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ ، فَأَمَّا عُثْمَانُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : مَا قَدَرْتُ أَنْ أَتَأَمَّلَ أُمِّي مُنْذُ أَسْلَمْتُ ، وَأَمَّا حَارِثَةُ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَفْلِي رَأْسَ أُمِّهِ ، وَيُطْعِمُهَا بِيَدِهِ ، وَلَمْ يَسْتَفْهِمُهَا كَلَامًا قَطُّ تَأْمُرُ بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ عِنْدَهَا بَعْدُ أَنْ يَخْرُجَ ، مَاذَا قَالَتْ أُمِّي ؟
بر أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بأمها عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْر قالت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أمِّي وَهيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ. فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قَدِمَتْ عَلَيَّ أمِّي وَهِيَ رَاغِبَة أفَأصِلً أمِّي؟ قال: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ ) أخرجه أحمد 6/344 و "البُخَارِي" 3/215 و"مسلم" 3/81 ) .
بر أبو هريرة رضي الله عنه بأمه عَنْ أَبِي كَثِيرٍ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِى قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ فَتَأْبَى عَلَىَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِىَ أُمَّ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِى هُرَيْرَةَ. فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَ فَقَالَتْ مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ - فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَ دُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - قَالَ - فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِى مِنَ الْفَرَحِ - قَالَ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِى هُرَيْرَةَ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا - قَالَ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا - يَعْنِى أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ - إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلاَ يَرَانِي إِلاَّ أَحَبَّنِي ) أخرجه أحمد 2/319(8242) و "البُخاري" في الأدب المفرد (34) و"مسلم" 7/165) .
بر أويس بن عامر القرني بأمه في صحيح مسلم عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ نَعَمْ . قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ قَالَ نَعَم قَالَ فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ قَالَ نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ ». فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ الْكُوفَةَ. قَالَ أَلاَ أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا قَالَ أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَىَّ ...) .
بر زين العابدين بأمه هذا زين العابدين كان أبر الناس بأمه وكان لا يأكل معها في صحفة واحدة [أي : لا يأكل معها في صحن واحد] فقيل له إنك أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل معها في صحفة واحدة فقال أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها من الطعام فأكون قد عققتها ..
بر ابن الحسن التميمي بأمه أراد ابن الحسن التميمي قتل عقرب، فدخلت في جحر فأدخل أصابعه خلفها، فلدغته، فقيل له! قال: خفت أن تخرج فتجئ إلى أمي تلدغها.
بر طلق بن حبيب بأمه كان طلق بن حبيب يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيتٍ هي تحته إجلالاً لها.
بر عثمان بن سودة بأمه كانت أمه من العابدات يقال لها: راهبة، قال: فلما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء، فقالت: يا ذخري وذخيرتي عند الموت، لا توحشني في قبري. قال: فماتت، كنت آتيها عند القبر كل جمعة أدعو لها، وأستغفر لها ولأهل القبور. فرأيتها ذات ليلة في منامي، فقلت: يا أماه، كيف أنت؟ قالت: يا بني أن للموت لكربة شديدة، وأنا بحمد في برزخ محمود، نفترش فيه الريحان، ونتوسد السندس والإستبرق إلى يوم النشور. قلت: ألك حاجة؟ قالت: نعم، لا تدع ما أنت عليه من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت، يقال: يا راهبة هذا ابنك قد أقبل من أهله زائراً لك، فأسر بذلك، ويسر به من حولي من الأموات ) ( ابن الجوزي: بر الوالدين )
بر الأم لا مثيل له
ذكر الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين عن أحد العباد أنه رأى في بعض السكك بابا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكرا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤيه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينا فوجد الباب مرتجا فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول يا ولدي أين تذهب عني ومن يؤيك سواي ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك ثم أخذته ودخلت )
أخي في الله : إن أردت أن تعرف مدى حنانها فتأمل كيف وصفه الشاعر قائلا
اغرى امرؤ يوما غلاما جاهلا ...... بنقوده كيما ينال به ضرر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ...... ولك الجواهر والدراهم والدرر
فمضى وأغمد خنجرا في صدرها ..... والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فرط سرعته هوى ........ فتدحرج القلب المضرج إذ عثر
ناداه قلب الأم وهو معفر ...... ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟؟؟؟
فكأن هذا الصوت رغم حنوه ...... غضب السماء على الغلام قد انهمر
فارتد نحو القلب يغسله بما ...... لم يأتها أحد سواه من البشر
واستل خنجره ليطعن نفسه ...... طعنا فيبقى عبرة لمن اعتبر
ويقول يا قلب انتقم مني ولا ...... تغفر فإن جريمتي لا تغتفر
ناداه قلب الأم كف يدا ولا ...... تذبح فؤادي مرتين على الأثر
رسالة من أم مكلومة لولدها الذي عقها وهجرها
أما بعد: فهذه رسالةٌ بعثتها أمٌ مجروحةٌ مكلومةٌ إلى ولدها وريحانة فؤادها بعد أن فارقها وأصبح لا يأتيها فبعد أن ذكرته بما فعلته معه منذ أن حملته في بطنها إلى أن كبر وغادر البيت وانقطع عنها قالت حتى إذا اشتد عودك واستقام شبابك وبدأت تظهر عليك معالم الرجولة فإذا بي أجري يمينًا ويسارا لأبحث لك عن المرأة التي طلبت وأتى موعد زفافك فتقطع قلبي وجرت مدامعي فرحةً بحياتك الجديدة وحزنًا على فراقك ومرت الساعات ثقيلة فإذا بك لست ابني الذي عرفت لقد أنكرتني وتناسيت حقي تمر الأيام ولا أراك ولا أسمع صوتك وتجاهلت من قامت لك خير قيام لا أطلب منك إلا القليل اجعلني من بين أصدقائك وأبعدهم خطوةً لديك اجعلني يا بني إحدى محطات حياتك لأراك فيها ولو لحظات
يا بني، احدودب ظهري وارتعشت أطرافي وأنهكتني الأمراض لا أقوم إلا بصعوبة ولا أجلس إلا بمشقه يا بني، لا يزال قلبي ينبض بمحبتك لو أكرمك شخصٌ يومًا لأثنيت على حسن صنعه بك وشكرت له جميله وأمك أحسنت إليك إحسانًا لا تراه وأسدت إليك معروفًا لا تجازيه لقد خدمتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات فأين الجزاء؟! وأين الوفاء؟! إلى هذا الحد بلغت بك القسوة وأختك الأيام.
يا بني، كلما علمت أنك سعيدٌ في حياتك زاد فرحي وسروري ولكني أتعجب وأتساءل أي ذنبٍ اقترفت حتى أصبحت عدوةً لك لا تطيق رؤيتي لا لن أرفع الشكوى ولن أبث الحزن لأنها إن ارتفعت فوق الغمام واعتلت إلى باب السماء أصابك شؤم العقوق ونزلت بك العقوبة وحلت بدارك المصيبة لا لن أفعل فإنك لا تزال ابني وفلذة كبدي وريحانة حياتي أفق يا بني فقد بدأ الشيب يعلو مفرقك وتمر السنوات ثم تصبح أبًا شيخًا كبيرا والجزاء من جنس العمل وستكتب رسائل لابنك بدموعٍ مثلما كتبت لك وعند الله تجتمع الخصوم والسلام ) .
بر الأم بعد موتها
عباد الله من بر الأم بعد موتها قضاء صيام الفريضة الذي فاتها وكذلك الحج عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ فَمَاتَتْ، وَإِنَّهَا رَجَعَتْ إِلَيَّ فِي الْمِيرَاثِ؟ قَالَ: قَدْ آجَرَكِ اللهُ، وَرَدَّ عَلَيْكِ فِي الْمِيرَاثِ. قَالَتْ: فَإِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، فَيُجْزِئُهَا أَنْ أَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَإِنَّ أُمِّي كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، فَيُجْزِئُهَا أَنْ أَصُومَ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. أخرجه أحمد 5/349 (23344. ومُسْلم 3/157(2671) والنسائي"، في "الكبرى" 6280 ) .
من بر الأم بعد موتها الصدقة عنها وأفضلها سقي الماء في صحيح البخاري عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا ) . وفي رواية صحيحه ( فحفر لها بئراً وقال هذه لأم سعد )
من بر الأم بعد موتها قراءة القرآن عنها وقد وقع في ذلك الخلاف بين أهل العلم: هل يصل ثواب قراءة القرآن إلى المتوفى أم لا؟ فقال الإمام الشافعي لا يصل ثوابه إليه ; لقول الله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقول النبي صلى الله عليه وسلم : “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية , أو علم ينتفع به من بعده , أو ولد صالح يدعو له ” . ولأن نفعه لا يتعدى فاعله , فلا يتعدى ثوابه.
والتحقيق أن من عمل عملاً ملك ثوابه، ومن ملك شيئاً فله أن يهبه ما لم يقم بالموهوب مانع، ولا مانع إلا الكفر ، يقول ابن قدامة _رحمه الله_:( ولنا ما ذكرناه وأنه إجماع المسلمين فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرئون القرآن ، ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير ؛ ولأن الحديث صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه، ويحجب عنه المثوبة) ، وقال بعضهم : إذا قرئ القرآن عند الميت, أو أهدي إليه ثوابه, كان الثواب لقارئه , ويكون الميت كأنه حاضرها , فترجى له الرحمة .
فاللهم اجعلنا من البارين بوالديهم، وارزقنا اللهم رضاهم، اللهم اغفر لهما كما ربياني صغيرا، وعلماني كبيرا
هذا وصلى الله وسلم على البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وسلم .
.