سبل رفع الدرجات في القرآن الكريم والسنة النبوية
احمد ابوبكر
1438/05/10 - 2017/02/07 09:26AM
[align=justify]الكاتب: حسين أحمد عبد القادر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الدنيا دار اختبار، ومن الناس من آمن بالله سبحانه وفعل الصالحات وتقرب بالطاعات، ومنهم من كفر بالله ملك الملوك وفعل المعاصي والآثام، نسأل الله الكريم العفو والعافية، ولذا فالآخرة حصاد لما غرسه الإنسان في الدنيا، ولكنه حصاد دائم، فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم، ولذا كانت الجنة والنار درجات، قال الله –سبحانه-: (فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمَصِير . هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران:162-163]، وقال الله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:4]، ولذا فالمسلم يسعى لرفعة الدرجات في الجنة ويقتنص الفرص للعلو في مراتب الصلاح، وفيما يلي بيان بأسباب رفعة الدرجات في القرآن الكريم والسنة النبوية.
أولًا: الإيمان:
من أعظم السبل للرقي في درجات الجنة الإيمان بالله تعالى، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) [طه:75]، وفي ذلك يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ومن يأت ربه سبحانه مؤمنًا به مصدقًا لرسله عليهم الصلاة والسلام، متبعا لكتبه (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ) الواجبة والمستحبة، (فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) أي: المنازل العاليات، وفي الغرف المزخرفات، واللذات المتواصلات، والأنهار السارحات، والخلود الدائم، والسرور العظيم، فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر [1]".
وقال الله تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف:19]، وفي تفسير الآية الكريمة يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: " (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا): ولكلّ هؤلاء الفريقين: فريق الإيمان بالله سبحانه واليوم الآخر، والبرّ بالوالدين، وفريق الكفر بالله سبحانه واليوم الآخر، وعقوق الوالدين اللذين وصف صفتهم ربنا عزّ وجلّ في هذه الآيات منازل ومراتب عند الله يوم القيامة، مما عملوا، يعني من عملهم الذي عملوه في الدنيا من صالح وحسن وسيىء يجازيهم الله تعالى به [2]".
تعريف الإيمان:
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-: "أصول الإيمان، وهي أصول الدين. فإن الإيمان هو الدين كله وهو الإسلام وهو الهدى وهو البر والتقوى وهو ما بعث الله تعالى به الرسول -عليه الصلاة والسلام- من العلم النافع والعمل الصالح، كله يسمى إيمانًا، هذه أصول ديننا الستة أوضحها الكتاب العزيز في مواضع، وأوضحها رسول الله الأمين -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث، فمما ورد في كتاب الله -عز وجل- قول الله –سبحانه-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177]، فبين الله -سبحانه وتعالى- هنا خمسة من أصول الإيمان، وهي: الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر، والملائكة -عليهم الصلاة والسلام-، والكتاب، والنبيين -عليهم الصلاة والسلام-.
هذه خمسة أصول عليها مدار الدين ظاهرة وباطنه، وقال الله جل وعلا: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285] [3]".
أسباب زيادة الإيمان:
بين الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- أسباب زيادة الإيمان فقال: "السبب الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، فإن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله تعالى وبأسمائه وصفاته ازداد إيمانًا بلا شك، ولهذا تجد أهل العلم الذين يعلمون من أسماء الله تعالى وصفاته ما لا يعلمه غيرهم، تجدهم أقوى إيمانًا من الآخرين من هذا الوجه.
السبب الثاني: النظر في آيات الله تعالى الكونية والشرعية، فإن الإنسان كلما نظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ازداد إيمانًا قال الله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ . وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:20-21]. والآيات الدالة على هذا كثيرة أعني الآيات الدالة على أن الإنسان بتدبره وتأمله في هذا الكون يزداد إيمانه.
السبب الثالث: كثرة الطاعات، فإن الإنسان كلما كثرت طاعاته ازداد بذلك إيمانًا، سواء كانت هذه الطاعات قولية،أم فعليه: فالذكر يزيد الإيمان كمية وكيفية، والصلاة والصوم، والحج تزيد الإيمان أيضًا كمية وكيفية [4]".
وفي السنة النبوية شاهد عظيم على أثر الإيمان، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أهل الجنَّةَ يَتَراءونَ أهلَ الغرفِ من فوقهم، كما تَتَراءَونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأُفُقِ، من المشرقِ أو المغربِ، لِتَفاضُلِ ما بينهم. قالوا: يا رسولَ اللهِ تلك منازلُ الأنبياءِ لا يَبْلُغُها غيرُهم، قال: بلى، والذي نفسي بيَدهِ، رجالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ» (البخاري: [3256] ومسلم: [2831] واللفظ للبخاري).
ولذا فالإيمان بالله تعالى منبعه العقيدة الصحيحة، والعقيدة الصحيحة تستوجب العلم بها ومعرفتها دون اتباع للهوى وإنما على بصيرة، ويترتب على هذه المعرفة اليقين بما أمرنا الله سبحانه بالتصديق به، وتوجب هذه المعرفة ملازمة سبل الطاعة التي أمرنا الله الملك بفعلها، وتوجب الامتناع عن المعصية التي نهانا الله العزيز عن فعلها، ويتبع ذلك التوبة الصادقة عن التقصير في الطاعة وعن الوقوع في المعصية، ولو تكرر التقصير لا يثني ذلك العبد عن التقرب إلى مولاه بالتوبة.
وفي ملازمة التوبة يقول الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-: "سبحانه وتعالى سبق في قضائه وعلمه أن الجن والإنس يذنبون فيتوب الله سبحانه على من تاب، ويغفر الله سبحانه لمن شاء، ويعفو عمن شاء سبحانه وتعالى، وليس معناها الترخيص للذنوب، لا، الله تعالى نهى عنها وحرمها، لكن سبق في علمه أنها توجد، وأنه سبحانه يعفو عمن يشاء ويغفر لمن يشاء إذا تاب إليه، هذا فيه دلالة على أنها هذا لا بد منه، فلا يقنط المؤمن، لا يقنط ولا ييأس ويعلم أن الله تعالى كتب ذلك عليه فليتب إلى الله سبحانه ولا ييأس ولا يقنط وليبادر بالتوبة والله تعالى يتوب على التائبين، فليس القدر حجة، ولكن عليك ألا تقنط، وألا تيأس، وأن تتوب إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن هذا شيء قضاه الله سبحانه عليك وعلى غيرك، فلا تيأس ولا تقنط وبادر بالتوبة والله تعالى يتوب على التائبين سبحانه وتعالى، فقد سبق في علمه أنها تقع الذنوب من الجن والإنس، وأنه يتوب على من تاب، ويعفو عمن رجع إليه، ويعفو عمن يشاء ممن أصر سبحانه وتعالى، فضلًا منه وإحسانًا حتى تظهر آثار أسمائه الحسنى التواب، الرحيم، العفو، الغفور [5]".
ولذا فالمؤمن يسعى جاهدًا للوصول إلى الثبات مستعينًا بالله تعالى على ذلك، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكثر من سؤال الله تعالى الثبات، فعن شهر بن حوشب رحمه الله تعالى قال: "قُلتُ لأمِّ سلمةَ: يا أمَّ المؤمنينَ ما كانَ أَكْثرُ دعاءِ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا كانَ عندَكِ؟ قالَت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرُ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ؟ قالَ: يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ. فتلا معاذٌ: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران: 8]" (الترمذي 3522)، والعمل الصالح هو ركيزة الإيمان وأرجح وسيلة للثبات، وهو البرهان على صدق الإيمان، وكلما زاد العبد من العمل الصالح زادت مرتبة إيمانه، وارتقى في الجنة بزيادة درجاته، وهذا يحفز المؤمن على السعي الحثيث للبحث عن الأعمال الصالحة.
ثانيًا: العلم:
إن العلم من السبل العظيمة في الإسلام لرفعة الدرجات، وللعلم أثر فردي على حياة المسلم وأثر جماعي على غيره من المسلمين، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11]، وفي تفسير الآية الكريمة يقول الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "يرفع الله سبحانه المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله تعالى الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين، الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به (تفسير الطبري) [6]".
وفي السنة النبوية حديث شامل وجامع لبيان فضل العلم ومن يطلبه فعن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن سلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة، وإنَّ الملائكة لَتضعُ أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنَّ طالب العلم يستغفرُ له مَن في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإنَّ فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العُلماء هم ورثةُ الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ»؛ (ابن ماجه [183] وصححه الألباني في صحيح الجامع: [6297]).
والعلم سيلة شريفة لنيل الدرجات العلى في الجنة، وأعظم العلوم وأشرفها هي العلوم الشرعية وهي التي يعتني بها الشرع، فهي التي بها يكون المسلم بها على بصيرة بأوامر الله تعالى فيتبعها، ويعلم النواهي الشرعية فيتجنبها، ويساهم في بناء الأمة الإسلامية بنشر الوعي الشرعي، فينتفع المسلمون بما تعلمه، ويكون لبنة في نشر توحيد الله تعالى ودينه العظيم بكل وسيلة وآلية، ابتداءا من الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء وجموع المسلمين، وفي هذا الصدد يحرص طالب العلم على الإخلاص طلبا لرضا الله تعالى.
ثالثًا: الجهاد في سبيل الله تعالى
إن الجهاد في الإسلام من أكبر الدلائل على صدق اليقين بالله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من آمن باللهِ ورسولِه، وأقام الصلاةَ، وصام رمضانَ، كان حقًّا على اللهِ أن يُدخلَه الجنةَ، هاجر في سبيلِ اللهِ، أو جلس في أرضِه التي وُلِدَ فيها». قالوا: يا رسولَ اللهِ، أفلا نُنبِّئُ الناس بذلك؟ قال: «إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ، أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيلِه، كلُّ درجتيْنِ ما بينهما كما بين السماءِ والأرضِ، فإذا سألتم اللهَ فسلُوهُ الفردوسَ، فإنَّهُ أوسطُ الجنةِ، وأعلى الجنةِ، وفوقَه عرشُ الرحمنِ، ومنه تَفجَّرُ أنهارُ الجنةِ (البخاري: [7423]) وفي الحديث الشريف فوائد جمة منها:
•الوفاء بأركان الإسلام سبب عظيم لدخول الجنة.
•عظم أجر الجهاد في سبيل الله تعالى وأثره في علو الدرجات.
•الحث على الدعاء لله تعالى وسؤاله عز وجل الفردوس، وهي عبادة عظيمة قد يغفل عنها الكثيرون في دعائهم، ولذا يجب الحرص على هذا الطلب والمداومة والمثابرة عليه.
•الفرق بين كل درجة والتي تليها فرق كبير، وفي هذا حث شريف على طلب العلو في الدرجات، والسعي له بطلب الأعمال الصالحة، والاستثمار الأمثل لمن يطلب شرف الحصول على هذه الدرجات.
وفي هذا تجب الإشارة إلى تدعيم المجاهدين في سبيل الله تعالى بكل طريقة فهذا سبب لنيل الدرجات العلى، فعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَن جهَّز غازِيًا فقد غَزا. ومَن خلَف غازِيًا في أهلِه فقد غَزا» (مسلم: [1895]).
رابعًا: صدق النية
ومن الأسباب التي ترفع من درجات المسلم النية الصادقة، فعن سهل بن حنيف -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَن سأَل اللهَ الشَّهادةَ بصدقٍ بلَّغه اللهُ منازلَ الشُّهداءِ وإنْ مات على فِراشِه» (صحيح ابن حبان: [3192])، وفي الحديث الشريف بيان لأثر النية الصادقة في نيل المطالب السامية بالعلو في الدرجات العالية.
خامسًا: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة
ورد في الحديث الشريف ثلاثة أسباب لرفعة الدرجات، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أدلُكم على ما يمحو اللهُ بهِ الخطايا ويرفعُ بهِ الدرجاتِ؟» قالوا: بلى. يا رسولَ اللهِ! قال «إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ. وكثرةُ الخطا إلى المساجِدِ. وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ. فذلكمْ الرباطُ». وليس في حديثِ شعبةَ ذكر الرباطِ. وفي حديث مالكٍ «ثنتَينِ فذلكمُ الرِّباطِ. فذلكمُ الرِّباطِ»" (مسلم: [251]) وفي الحديث الشريف ثلاثة أسباب لنيل الدرجات العلى وسيتم بيان وشرح فضيلة كل عمل فيما يلي:
إسباغ الوضوء:
يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-:"(إسباغ الوضوء على المكاره) يعني: أن الإنسان يتوضأ وضوءه على كره منه، إما لكونه فيه حمى ينفر من الماء فيتوضأ على كره، وإما أن يكون الجو باردًا وليس عنده ما يسخن به الماء فيتوضأ على كره، وإما أن يكون هناك أمطار تحول بينه وبين الوصول لمكان الوضوء فيتوضأ على كره، المهم أنه يتوضأ على كره ومشقة، لكن بدون ضرر، أما مع الضرر فلا يتوضأ بل يتيمم، هذا مما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات. ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يشق على نفسه ويذهب يتوضأ بالبارد ويترك الساخن، أو يكون عنده ما يسخن به الماء، ويقول: لا، أريد أن أتوضأ بالماء البارد لأنال هذا الأجر، فهذا غير مشروع ؛ لأن الله تعالى يقول: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء:147]، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا واقفًا في الشمس، قال: «ما هذا؟» قالوا: نذر أن يقف في الشمس، فنهاه عن ذلك وأمره أن يستظل، فالإنسان ليس مأمورًا ولا مندوبًا إلى أن يفعل ما يشق عليه ويضره، بل كلما سهلت عليه العبادة فهو أفضل، لكن إذا كان لا بد من الأذى والكره، فإنه يؤجر على ذلك ؛ لأنه بغير اختياره [7]".
كثرة الخُطا للمساجد:
من أعظم الأعمال التي يحرص عليها المسلم هي صلاة الجماعة وأجور كثرة الخطا للمساجد شاهدة على ذلك فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أعظم الناس أجرًا في الصَّلاة أَبْعَدُهم إليها مَمشًى فأبعدُهم، والذي يَنتظر الصلاة حتى يصلِّيها مع الإمام أعظمُ أجرًا من الذي يصلِّيها ثم ينام»؛ (البخاري: [651] ومسلم: [662]).
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من غدا إلى المسجدِ أو راح، أعدَّ اللهُ له نُزُلًا من الجنَّةِ كلما غدا أو راح» (صححه الألباني في صحيح الجامع برقم: [6399]).
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تطهرَ في بيتِه ثم مشى إلى بيتٍ من بيوتِ اللهِ، ليقضي فريضةً من فرائضِ اللهِ، كانت خطوَتاهُ إحداهما تحطُّ خطيئةً، والأخرى ترفعُ درجةً» (مسلم: [666]).
انتظار الصلاة:
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الملائكةُ تصلِّي على أحدكم ما دام في مُصلَّاه، ما لم يُحدِثْ: اللهمَّ اغفرْ له، اللهمَّ ارحمْه، لا يزال أحدُكم في صلاةٍ ما دامت الصلاةُ تحبسُه، لا يمنعه أن ينقلبَ إلى أهلِه إلا الصلاةُ»؛ (البخاري: [659] ومسلم: [649] واللَّفظ للبخاري)، وعلى المسلم أن يغتنم هذا الشرف بكثرة انتظاره للصلاة، وهذا يحفز المسلم للمبادرة بدخول المسجد قبل حلول وقت الصلاة، فمنذ لحظة دخول المسلم المسجد انتظارا للصلاة يعتبر في صلاة، ويمكن تعظيم الأجر بذكر الله تعالى في فترة الانتظار وقراءة القرآن الكريم أو غير ذلك من العبادات، وفي هذا مضاعفة للأجور والثواب.
سادسًا: كثرة السجود:
عن ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله تعالى عنه- قال: "كنت أبيتُ مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فأتيتُه بوَضوئِه وحاجتِه. فقال لي: «سلْ» فقلت: أسألُك مرافقتَك في الجنةِ قال: «أو غيرَ ذلك؟» قلت: هو ذاك قال: «فأعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ» (مسلم: [489]). وفي الحديث بيان الإصرار والعزيمة على طلب الآخرة، وبيان فضل الصلاة جملة والسجود خاصة، وللسجود مواضع متنوعة هي سجود الصلاة والسهو والتلاوة والشكر وفي هذا الصدد يقول الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: "سجود الشكر مثل سجود الصلاة، ومثل سجود السهو ومثل سجود التلاوة، سجدة واحدة، يقول فيها: "سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى"، يحمد الله ويثني عليه ويشكره على ما من عليه من صحة أو ولد أو نصر للإسلام وفتح على المسلمين، أو نحو ذلك مما يسره أو يسر المسلمين، النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد لله تعالى للشكر، وهكذا الصديق -رضي الله تعالى- عنه لما جاءه فتح اليمامة، ومقتل مسيلمة الكذاب سجد لله تعالى شكرًا.
والصحيح أنه يجوز ولو كان الساجد على غير طهارة إذا جاءه الخبر السار سجد وإن كان على غير طهارة وهكذا سجود التلاوة من جنس سجود الشكر سجدة واحدة عند تلاوة الآيات التي فيها السجود ولو كان على غير طهارة في أصح قولي العلماء، يقول فيه مثل ما يقول في سجود الصلاة، سجود التلاوة، سجود الشكر، سجود السهو كله يقال فيه ما يقال في سجود الصلاة: "سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى" وذلك لما رواه حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- عن قول رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في السجود: «يقولُ في سجودِهِ سبحانَ ربِّيَ الأعلى سبحانَ ربِّيَ الأعلى سبحانَ ربِّيَ الأعلى»(النسائي: [1132])، ومن أذكار السجود أيضا قول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"، وذلك لما روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعهِ وسجودهِ: «سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدِك، اللهم اغفرْ لي»" (البخاري: [4293]).
ومن أذكار السجود قول: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح"، وذلك لما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: "أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان يقولُ في ركوعِه وسجودِه «سبوحٌ قدوسٌ ربُّ الملائكةِ والروحِ» "(مسلم: [487])، ويدعو فيه بما يسر الله تعالى من الدعوات الطيبة، ويشكر الله سبحانه في سجود الشكر زيادة يشكر الله تعالى على النعمة التي بلغته. ومن أذكار السجود أيضًا ما رواه علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- عن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السجود: "وإذا سجد قال" «اللهمَّ ! لك سجدتُ. وبك آمنتُ. ولك أسلمتُ. سجد وجهي للذي خلقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وبصرَه. تبارك اللهُ أحسنُ الخالقِين»" (مسلم: [771])، يقال هذا في سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجود الشكر مع سبحان ربي الأعلى، لا بد من كلمة "سبحان ربي الأعلى" ولو مرة ولو كررها ثلاثًا أو خمسًا كان أفضل وأولى في جميع أنواع السجود؛ سجود التلاوة، سجود الشكر، سجود الصلاة، سجود السهو" انتهى (بتصرف من موقع الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى).
سابعًا: إعالة جاريتين حتى تبلغا:
ورد في السنة الشريفة أسباب لمصاحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يشير إلى علو درجة من قام بهذه الأعمال لرفعتها وأثرها فعن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من عال جاريتَيْن حتَّى تبلغا، جاء يومَ القيامةِ أنا وهو». وضمَّ أصابِعَه. (مسلم: [2631]).
وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله تعالى عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَن عالَ ابنتينِ أو ثلاثًا، أو أختينِ أو ثلاثًا حتَّى يَبِنَّ، أو يَموتَ عنهنَّ ؛ كنتُ أنا وهوَ في الجنَّةِ كَهاتينِ. وأشار بأُصْبُعيهِ السبَّابةَ والتي تلِيهَا» (صححه الألباني في صحيح الترغيب: [1970]).
وهذا يبين فضل التربية، ويحفز كل مسلم على إدراك ذلك باتباع التعاليم والآداب الشرعية في تربية الأهل عمومًا والبنات على وجه الخصوص، واحتساب الأجر في ذلك، لنيل شرف مصاحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثامنًا: كفالة اليتيم
عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله تعالى عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أنا وكافلُ اليتيمِ كهاتين في الجنةِ. وقرن بين أصبعيه الوسطى، والتي تلي الابهامَ» (أبو داوود: [5150])، والحديث الشريف يبين أحد الأعمال الصالحة التي تضمن شرف مصاحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة وهي كفالة اليتيم، فليحرص عليها من أراد المبتغى في مرافقة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
تاسعًا: التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة:
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "جاء الفقراءُ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ذهب أهلُ الدُّثورِ منَ الأموالِ بالدرجاتِ العُلا والنعيمِ المقيمِ: يُصلّون كما نُصلّي، ويصومونَ كما نصومُ، ولهم فضلٌ من أموالٍ يحجُّونَ بها ويعتمِرونَ، ويُجاهدونَ ويتصدَّقونَ. قال: «ألا أُحدِّثُكمْ بأمرٍ إن أخذتُمْ بهِ، أدركْتُم مَن سبقَكمْ، ولمْ يدرككُمْ أحدٌ بعدَكُم، وكنتُمْ خيرَ مَنْ أنتمْ بينَ ظهرانَيهِ، إلا مَن عملَ مثلَهُ؟ تُسبِّحونَ وتحمدونَ وتكبِرونَ، خلفَ كلِّ صلاةٍ، ثلاثًا وثلاثينَ». فاختلفْنا بيننا، فقال بعضُنا: نسبحُ ثلاثًا وثلاثينَ، ونحمدُ ثلاثًا وثلاثينَ، ونكبِّرُ أربعًا وثلاثينَ، فرجعْتُ إليهِ، فقال: «تقولُ سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، واللهُ أكبرُ، حتى يكون منهنَّ كلُّهنَّ ثلاثًا وثلاثينَ»" (البخاري: [843]).
أجور مصاحبة لرفعة الدرجات بالتسبيح والتحميد والتكبير.
وفي السنة النبوية أجور كبيرة مصاحبة للتسبيح والتحميد والتكبير وهي نبراس يضيء الطريق لأرباب التجارة الرابحة وتحث المؤمنين على زيادة رصيدهم من الأعمال الصالحة ومنها ما يلي:
- شرف ذكر الله تعالى للعبد: عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقول اللهُ تعالَى: أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرَنِي، فإن ذَكَرَنِي في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكَرَنِي في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٌ منهم، وإن تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّبَ إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرْولةً» (البخاري: [7405])، وهذا الشرف يكفي لكي يدرك العبد فضيلة ذكر الله تعالى دبر كل صلاة وفيها سبيل كريم للتقرب إلى الله تعالى ملك الملوك فيحظى العبد بتقرب الله العظيم إليه وينعم في ظلال هذه النعمة في الدنيا والآخرة.
- زيادة رصيد الأشجار في الجنة: عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أدلُّك على غراسٍ هو خير من هذا؟ تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ يُغرَس لك بكل كلمة منها شجرةً في الجنة» (صححه الألباني في صحيح الجامع: [2613])، ويترتب على المثابرة يوميًا على التسبيح والتحميد والتكبير دبر الخمس صلوات 495 شجرة في الجنة، وفي الأسبوع 3465 شجرة في الجنة، وفي الشهر 14850 شجرة في الجنة، وفي السنة 178200 شجرة في الجنة.
- زيادة رصيد الصدقات: عن أبي ذرٍّ الغفاري -رضي الله تعالى عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أوَليس قد جعل الله لكم ما تَصدَّقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكلِّ تحميدة صدقة، وكلِّ تهليلة صدقةٌ» (مسلم: [1006])، ويترتب على ذلك أن يحصل المسلم دبر الخمس صلوات على 495 صدقة يوميًا، وفي الأسبوع 3465 صدقة، وفي الشهر 14850 صدقة، وفي السنة 178200 صدقة.
- زيادة رصيد الحسنات: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله تعالى اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمَن قال: سبحان الله، كتبت له عشرون حسنة، وحُطَّت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر، مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله، مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين، من قبل نفسه، كُتبت له ثلاثون حسنة، وحُطَّ عنه ثلاثون خطيئة» (صححه الألباني في صحيح الجامع: [1718])، ويترتب على ذلك حسنات كبيرة تثقل الموازين يوم القيامة وتكون زادا له في يوم لا ينفع فيه إلا هذا الزاد.
وفي هذا الصدد يجب على المسلم أن يتواصى بتبليغ هذه الفضائل إلى أهله ووالديه وأخواته وزوجته وأطفاله وأصدقائه وجيرانه لكي يحفزهم على إدراك هذا الفضل واغتنام هذا الأجر وكما بشرنا سيد المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بأن الدال على الخير كفاعله.
عاشرًا: حفظ القرآن الكريم
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ، وارتَقِ، ورتِّل كَما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرأُ بِها» (الترمذي: [2914] وأبو داوود:[1464]).
إن القرآن الكريم هو كتاب الله العظيم، وهو شفاء وهدى للمسلمين، وتلاوته من أكبر أسباب السعادة والطمأنينة، وفي حفظه منابع متدفقة للأجور، وهو أمر يحث المسلمين على حفظ القرآن الكريم، والسعي الحثيث لتحقيق ذلك وتكريس الجهود للوصول لهذه الغاية العظيمة ومن يوجه نفسه لحفظ القرآن الكريم ينال رصيدًا كبيرًا من الحسنات، لأن سعي المسلم للحفظ يتولد منه كثرة التلاوة والمراجعة والتكرار، فعن عبدالله بنِ مسعودٍ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»؛ (الترمذي: [2910]).
طريقة حفظ القرآن الكريم:
بين الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- طريقتين لكيفية حفظ القرآن الكريم فقال: "للناس في حفظ القرآن الكريم طريقان: أحدهما: أن يحفظه آية آية أو آيتين آيتين أو ثلاثًا ثلاثًا حسب طول الآيات وقصرها والثاني: أن يحفظه صفحة صفحة. والناس يختلفون منهم من يفضل أن يحفظه صفحة صفحة يرددها حتى يحفظها، ومنهم من يفضل أن يحفظ الآية ثم يرددها حتى يحفظها ثم يحفظ آية أخرى كذلك وهكذا حتى يتم. ثم إنه أيضًا ينبغي سواء بالطريقة الأولى أو الثانية ألا يتجاوز شيئًا حتى يكون قد أتقنه لئلا يبني على غير أساس، وينبغي أن يستعيد ما حفظه كل يوم خصوصًا في الصباح، فإذا عرف أنه قد أجاد ما حفظه أخذ درسًا جديدًا [8]".
أحد عشر: سَد الفُرَج في الصلاة
عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سدّ فرجة رفعه الله بها درجة» (ابن ماجة: [281]) وصححه الألباني في (صحيح الجامع: [1843]) وهذا يدفعنا لتعلم كيفية التسوية الشرعية للصلاة ونثابر عليها وعلى سد الفرج في الصلاة وسيتم بيان ذلك فيما يلي:
- كيفية تسوية الصفوف:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أقيموا الصُّفوفَ وحاذُوا بينَ المناكبِ وسُدُّوا الخللَ ولينوا بأيدي إخوانِكم ولا تذَروا فرُجاتٍ للشَّيطانِ ومَن وصَلَ صفًّا وصَلَه اللَّهُ ومن قطعَ صفًّا قطعَه اللَّهُ» (أبو داوود: [666] وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة: [743])، وورد شرح مميز للحديث الشريف في الموسوعة الحديثية لموقع الدرر السنية وجاء فيه: «لِيُحاذِ مَنكِبُ كلِّ واحدٍ منكم مَنْكِبَ صاحبِه»، والمَنْكِبُ: مُلْتَقى عَظْمِ العَضُدِ مع الكَتِفِ، «وسُدُّوا الخَلَلَ»، أي: سُدُّوا أيَّ فَتْحةٍ ومسافةٍ بينَ المُصلِّينَ بأنْ يُلْصَقَ كُلُّ مَنْكِبٍ بمَنْكِبِ أخيه في الصَّلاةِ في غيرِ شِدَّةٍ، «ولِينُوا بأيدي إخوانِكم»، أي: لِينوا بيَدِ مَنْ أراد أنْ يَضْبِطَ بكُم الصَّفَّ ويُسوِّيَه، فلا يتَشدَّدْ معه أو يَمْنعْه أَحَدٌ نَفْسَه أنْ يُسوِّيَ له الصَّفَّ، «ولا تَذَروا فُرُجاتٍ للشَّيطانِ»، أي: ولا تَتْرُكوا مَسافاتٍ فارغةً بينَكم وبينَ بعضٍ؛ لأنَّها مِنَ الشَّيطانِ. ثمَّ قال -صلى الله عليه وسلم-: «ومَنْ وصَلَ صَفًّا»، أي: بأنْ يَحْرِصَ على سَدِّ الفُرَجِ فيه أو عدَّلَه وسوَّاه، «وصَلَه اللهُ»، أي: ومَن وصَله اللهُ فقدْ قرَّبه إليه وغَفَر له ورَحِمَه، والوَصْلُ: ضِدُّ الهِجرانِ والقَطعِ، «ومَن قَطَع صفًّا»، أي: بأنْ كان سببًا في قَطْعِ الصَّفِّ، أو عَمِلَ فُرْجةً للشَّيطانِ، «قَطَعه اللهُ»، أي: ومَن قَطعَه اللهُ فقدْ بتَرَه وأبْعَدَه عن رحمتِه، والْوَصْلُ وَالْقَطْعُ صِفتانِ فعليَّتانِ ثابتتانِ للهِ تعالى بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، على ما يَليقُ بالله -عَزَّ وجَلَّ وكمالِه-. وفي الحديثِ: الحثُّ على وَصْلِ الصُّفوفِ في الصَّلاةِ والمحافظةِ على استِقامَتِها، والتَّحذيرُ مِن قَطعِها، والحَذَرُ مِن اعوِجاجِها [9]".
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "المساواة إنما هي بالأكعب لا بالأصابع؛ لأن الكعب هو الذي عليه اعتماد الجسم؛ حيث إنه في أسفل الساق، والساق يحمل الفخذ، والفخذ يحمل الجسم، وأما الأصابع فقد تكون رجل الرجل طويلة فتتقدم أصابع الرجل على أصابع الرجل الذي بجانبه وقد تكون قصيرة وهذا الاختلاف لا يضر، وليس التساوي بأطراف الأصابع بل بالأكعب، أكرر ذلك لأني رأيت كثيرًا من الناس يجعلون مناط التسوية رؤوس الأصابع وهذا غلط. وهناك أمر آخر يخطئ فيه المأمومون كثيرًا، ألا وهو تكميل الصف الأول فالأول ولاسيما في المسجدين: المسجد الحرام والمسجد النبوي، فإنهم لا يبالون أن يصلوا أوزاعًا؛ أربعة هنا، وأربعة هناك، أو عشرة هنا وعشرة هناك، أو ما أشبه ذلك، وهذا لا شك أنه خلاف السنة. والسنة إتمام الصف الأول فالأول حتى إن صلاة الرجل وحده خلف الصف والصف الذي أمامه لم يتم غير صحيحة وباطلة، ويجب عليه أن يعيدها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي وحده خلف الصف، فأمره أن يعيد الصلاة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» [10]".
ثاني عشر: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-
الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- قربة عظيمة وفي ملازمتها أجور كبيرة، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وعن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه-، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه عشرَ صلواتٍ، وحُطَّت عنه عشرُ خطيئاتٍ، ورُفعَت له عشرُ درجاتٍ» (النسائي: [1296] وصححه الألباني في صحيح الجامع: [6359]).
إن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأذكار الشرعية الجليلة، وفيها ذكر لله تعالى ملك الملوك، وهي من أحب العبادات للمسلمين، لما للرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكانة عظيمة في قلوب المسلمين، فهذا الحب من أسس الإسلام العظيم ومن ركائز الإيمان، فعن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ من والدِه وولدِه والناسِ أجمعينَ" (البخاري: [15])، وعن عبدالله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أولى النَّاس بي يوم القيامة أكثرُهم عليَّ صلاةً» (الترمذيُّ: [484]).
- صيغ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-
إن صيغ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- متعددة، ووردت في أحاديث كثيرة وهي الأفضل والأكمل ومنها:
عن كعب بن عجرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "خرَجَ علينا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: قد عَرَفْنَا كيف نُسَلِّمُ عليك، فكيف نُصَلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهمَّ، صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ، بارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما بارَكْتَ على آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ»" (البخاري: [6357] ومسلم: [406]).
عن كعب بن عجرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "سألنا رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: يا رسولَ اللهِ، كيف الصلاةُ عليكم أهلَ البيتِ، فإنَّ اللهَ قد علَّمنا كيف نُسلِّمُ عليكم؟ قال: «قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ، وعلى آلِ إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ»" (البخاري: [3370]).
عن عقبة بن عمرو بن ثعلبة أبو مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: " أتانا رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ونحنُ في مَجلسِ سعدِ بنِ عبادةَ فقالَ لَهُ بشيرُ بنُ سعدٍ: أمرَنا اللَّهُ أن نصلِّيَ عليكَ فَكَيفَ نصلِّي عليكَ؟ قالَ: فسَكَتَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حتَّى ظننَّا أنَّهُ لم يسألهُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صلَّيتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما بارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ في العالَمينَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، والسَّلامُ كما قد عُلِّمتُمْ»" (الترمذي: [3320]).
عن كعب بن عجرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "ألا أُهدي لَكَ هديَّةً خَرجَ علَينا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فقُلنا قَد عرَفنا السَّلامَ علَيكَ فَكيفَ الصَّلاةُ علَيكَ قالَ «قولوا اللَّهُمَّ صلِّ علَى مُحمَّدٍ وعلَى آلِ محمَّدٍ كما صلَّيتَ علَى إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ اللَّهمَّ بارِك علَى مُحمَّدٍ وعلى آلِ مُحمَّدٍ كما بارَكتَ علَى إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مَجيدٌ»" (ابن ماجه: [746]).
وقد نص الحافظ ابن حجر (فتح الباري: [166/11]) على أن جماهير العلماء يرون: "أن أيّ لفظٍ أدَّى المراد بالصَّلاة على رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أجزأ، أما داخل الصَّلاة؛ فينبغي الاقتصار على المأثور الوارِد، وعدم النَّقص عنه احتياطا للسُّنَّة والدِّين، واتِّباعا للوارد عنه عليه الصلاة والسلام [11]".
- المثابرة على الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال الشيخ محمد صالح المنجد: "من نسي الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد خسر، وباء بالذلة والهوان، فقال عليه الصلاة والسلام: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة» (الترمذي: [3345]). إن هذه عبادة عظيمة يغفل عنها المسلم، ويفوت عليه أجر عظيم، فلابد أن نذكر أنفسنا وأبناءنا وأصحابنا بهذه العبادة، وأن ننشرها، ونحرص عليها، وأن نعلمها إن في ذلك لخير عظيم [12]".
قال الشيخ الدكتور محمد بن إبراهيم الحمد: "في الدقيقة الواحدة تستطيع أن تصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- (50) مرة بصيغة -صلى الله عليه وسلم-، فيصلي عليك الله سبحانه مقابلها (500) مرة لأن الصلاة الواحدة بعشر أمثالها [13]".
والمسلم يحرص على الإكثار من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فهي سبب لتفريج الهموم ومغفرة الذنوب ووسيلة عظيمة لرفعة الدرجات، وفي اليوم الواحد يستطيع المسلم أن يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- آلاف المرات، وأن يستثمر أوقاته، ويذكر أهله وأطفاله وأصدقائه في العمل، ويطوع لسانه دوما على ذكر الله تعالى فلا تفتر همته.
ثالث عشر: الكلمة
إن الكلمة قد تكون سبب في رفع الدرجات وقد تكون سببًا في دخول جهنم فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ العبد لَيتكلَّمُ بالكلمة من رِضوان الله لا يُلقي لها بالاً، يرفعُه الله بها درجاتٍ، وإنَّ العبد ليتكلَّمُ بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنَّم»؛ (البخاري: [6478]).
وفي الحديث الشريف قال ابن بطال -رحمه الله تعالى-: "وقال أهل العلم: هي الكلمة عند السلطان بالبغي والسعي على المسلم، فربما كانت سببًا لهلاكه، وإن لم يرد ذلك الباغي، لكنها آلت إلى هلاكه، فكتب عليه إثم ذلك. والكلمة التي يكتب الله له بها رضوانه الكلمة يريد بها وجه الله بين أهل الباطل، أو الكلمة يدفع بها مظلمة عن أخيه المسلم، ويفرج عنه بها كربةً من كرب الدنيا، فإن الله تعالى يفرج عنه كربةً من كرب الآخرة، ويرفعه بها درجات يوم القيامة" انتهى من (شرح صحيح البخاري: [186/10]) [14].
ومن فضائل الحديث الشريف إدراك فضل الكلمة، والأفعال المصاحبة للمسلم بكل الآليات والوسائل وتقديرها حق قدرها، وحث المسلمين على اغتنام هذا الفضل لرفعة الدرجات في الجنة، والكلمة قد تكون نصيحة للمسلمين أو تذكير لهم بفضل الله تعالى ونعمه، وتعريفهم بالعبادات الشرعية وكيفة الوفاء بحقها، وإحياء النسة النبوية وما بها من خيرات، والتواصي والتعاون على فعل الخير وتفعيله، والكلمة قد تكون تفريجا لمهموم، أو تسلية لذوي الكربات، والكلمة قد تكون شفاعة بالخير أو شهادة حق.
ولبيان عاقبة كلمة السوء قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: ولما استهزأ بعضهم فقالوا عمن -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء"، أنزل الله تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة:64-66]؛ فقد أخبر الله تعالى أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبيَّن أن الاستهزاء بآيات اللّه تعالى كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام" انتهى من (الإيمان: [284/2]).
ولذا فمن مقاصد الحديث الشريف التحذير من عاقبة الكلمة التي تؤدي إلى سخط الله تعالى، والتي قد تكون حث على المعصية أو تشجيع للمنكرات أو غير ذلك من سبل الشرور ولذا فعلينا حفظ اللسان، ومراقبة الأفعال، وعدم التساهل في الكلمة ومحاسبة النفس وترويضها، وترهيبها من ويلات الجحيم، وترغيبها في نعيم الجنان، وتدبر العاقبة الحميدة سبيل لكي نلازم تقدير الأقوال والأفعال، وتذكر عاقبة السوء وسيلة لتجنب كل ما يفضي إلى الشر أو يقربنا منه.
- كلمات تثقل الميزان:
وذكر الله تعالى أعظم الكلام ولقد ورد في السنة النبوية شاهد عظيم لفضل كلمات ذكر الله تعالى ومنها قول: "لا إله إلا الله" و"سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده" و"سبحان اللهِ وبحمدِه، عددَ خلقِه ورضَا نفسِه وزِنَةِ عرشِه ومِدادَ كلماتِه" وهذا يستوجب تدبرنا لذلك والإكثار من هذه الكلمات وفيما يلي بيان للأدلة من السنة النبوية:
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كلِمتان خفيفتان على اللِّسانِ، ثَقيلتان في الميزانِ، حبيبتان إلى الرَّحمنِ: سبحان اللهِ العظيمِ، سبحان اللهِ وبحمدِه» (البخاري: [6406] ومسلم: [3021]).
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ سيُخَلِّصُ رجلًا من أمَّتي على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ فينشُرُ علَيهِ تسعةً وتسعينَ سجلًّا، كلُّ سجلٍّ مثلُ مدِّ البصرِ ثمَّ يقولُ: أتنكرُ من هذا شيئًا؟ أظلمَكَ كتبتي الحافِظونَ؟ يقولُ: لا يا ربِّ، فيقولُ: أفلَكَ عذرٌ؟ فيقولُ: لا يا ربِّ، فيقولُ: بلَى، إنَّ لَكَ عِندَنا حسنةً، وإنَّهُ لا ظُلمَ عليكَ اليومَ، فيخرجُ بطاقةً فيها أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، فيقولُ: احضُر وزنَكَ فيقولُ يا ربِّ، ما هذِهِ البطاقةُ ما هذِهِ السِّجلَّاتِ؟ فقالَ: فإنَّكَ لا تُظلَمُ، قالَ: فتوضَعُ السِّجلَّاتُ في كفَّةٍ، والبطاقةُ في كفَّةٍ فطاشتِ السِّجلَّاتُ وثقُلتِ البطاقةُ، ولا يثقلُ معَ اسمِ اللَّهِ شيءٌ» (الترمذي: [2639]).
عن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث -رضي الله تعالى عنها-: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خرج من عندِها بُكرةً حين صلى الصبحَ، وهي في مسجدِها. ثم رجع بعد أن أَضحَى، وهي جالسةٌ. فقال «ما زلتِ على الحالِ التي فارقتُكِ عليها؟» قالت: نعم. قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- «لقد قلتُ بعدكِ أربعَ كلماتٍ، ثلاثَ مراتٍ. لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذُ اليومَ لوزَنَتهنَّ: سبحان اللهِ وبحمدِه، عددَ خلقِه ورضَا نفسِه وزِنَةِ عرشِه ومِدادَ كلماتِه»" (مسلم: [2726]).
رابع عشر: حسن الخلق
عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما مِن شيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقلُ من حُسنِ الخلقِ، وإنَّ صاحبَ حُسنِ الخلقِ ليبلُغُ بِهِ درجةَ صاحبِ الصَّومِ والصَّلاةِ» (الترمذي: [2003] وصححه الألباني في صحيح الجامع: [5726]).
إن حسن الخلق منهج حياة للمسلم، وذلك باتباع أوامر الله تعالى وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالمسلم يحسن معاملة الناس، ويقهر النفس للتخلص من الصفات المذمومة، ويطوعها لكي تتوافق مع خلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع الناس، فلا يغضب، ويكون الحلم زاده، ويصبر على أذى الناس، ويلازم العفو في حياته، ويسارع إلى قضاء حاجات الآخرين بكل محبة وإخلاص لله الكريم، وعند إدراك عظيم المطالب تهون الصعاب، فمعرفة المسلم بأجر حسن الخلق وثقله في الميزان يكون محفزًا على اكتساب فضائل الأخلاق الحسنة وتجنب الأخلاق السيئة، وكلما لازم المسلم حسن الخلق زادت درجاته وارتفعت مرتبته في الدنيا والآخرة.
قال الشيخ محمد صالح المنجد: "وصاحب الخلق الحسن أقرب الناس مجلسًا من النبي -عليه الصلاة والسلام- يوم القيامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا» (الترمذي: [2018])، وهو حديث صحيح، فهذا الخلق الحسن أثقل شيء في ميزان العبد؛ لأن الأعمال توزن يوم القيامة وزنًا حقيقيًا ترجح الكفة بها، وأثقل شيء في الميزان الخلق الحسن، وهي وصيته -صلى الله عليه وسلم- للمؤمن في معاملة الناس حين قال: «وخالق الناس بخلق حسن» (الترمذي: [1987]) [15]".
خامس عشر: الدلالة على الخير
إن الدلالة على الخير سبيل عظيم للرقي في درجات الجنة، فكل عمل يترتب عليه الدلالة على أسباب رفعة الدرجات في الجنة يكون لصاحبه ثواب وأجر في ذلك، فما أعظمها من عاقبة، فعن أنس بن مالكٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الدالَّ على الخير كفاعله»؛ (الترمذي: [2670]).
نسأل الله الكريم أن يرزقنا وأهلنا والمسلمين الفردوس الأعلى، والحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
_________________________
[1]- تفسير السعدي من موقع المصحف الإلكتر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الدنيا دار اختبار، ومن الناس من آمن بالله سبحانه وفعل الصالحات وتقرب بالطاعات، ومنهم من كفر بالله ملك الملوك وفعل المعاصي والآثام، نسأل الله الكريم العفو والعافية، ولذا فالآخرة حصاد لما غرسه الإنسان في الدنيا، ولكنه حصاد دائم، فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم، ولذا كانت الجنة والنار درجات، قال الله –سبحانه-: (فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمَصِير . هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [آل عمران:162-163]، وقال الله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:4]، ولذا فالمسلم يسعى لرفعة الدرجات في الجنة ويقتنص الفرص للعلو في مراتب الصلاح، وفيما يلي بيان بأسباب رفعة الدرجات في القرآن الكريم والسنة النبوية.
أولًا: الإيمان:
من أعظم السبل للرقي في درجات الجنة الإيمان بالله تعالى، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) [طه:75]، وفي ذلك يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ومن يأت ربه سبحانه مؤمنًا به مصدقًا لرسله عليهم الصلاة والسلام، متبعا لكتبه (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ) الواجبة والمستحبة، (فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) أي: المنازل العاليات، وفي الغرف المزخرفات، واللذات المتواصلات، والأنهار السارحات، والخلود الدائم، والسرور العظيم، فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر [1]".
وقال الله تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف:19]، وفي تفسير الآية الكريمة يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: " (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا): ولكلّ هؤلاء الفريقين: فريق الإيمان بالله سبحانه واليوم الآخر، والبرّ بالوالدين، وفريق الكفر بالله سبحانه واليوم الآخر، وعقوق الوالدين اللذين وصف صفتهم ربنا عزّ وجلّ في هذه الآيات منازل ومراتب عند الله يوم القيامة، مما عملوا، يعني من عملهم الذي عملوه في الدنيا من صالح وحسن وسيىء يجازيهم الله تعالى به [2]".
تعريف الإيمان:
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-: "أصول الإيمان، وهي أصول الدين. فإن الإيمان هو الدين كله وهو الإسلام وهو الهدى وهو البر والتقوى وهو ما بعث الله تعالى به الرسول -عليه الصلاة والسلام- من العلم النافع والعمل الصالح، كله يسمى إيمانًا، هذه أصول ديننا الستة أوضحها الكتاب العزيز في مواضع، وأوضحها رسول الله الأمين -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث، فمما ورد في كتاب الله -عز وجل- قول الله –سبحانه-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177]، فبين الله -سبحانه وتعالى- هنا خمسة من أصول الإيمان، وهي: الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر، والملائكة -عليهم الصلاة والسلام-، والكتاب، والنبيين -عليهم الصلاة والسلام-.
هذه خمسة أصول عليها مدار الدين ظاهرة وباطنه، وقال الله جل وعلا: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285] [3]".
أسباب زيادة الإيمان:
بين الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- أسباب زيادة الإيمان فقال: "السبب الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، فإن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله تعالى وبأسمائه وصفاته ازداد إيمانًا بلا شك، ولهذا تجد أهل العلم الذين يعلمون من أسماء الله تعالى وصفاته ما لا يعلمه غيرهم، تجدهم أقوى إيمانًا من الآخرين من هذا الوجه.
السبب الثاني: النظر في آيات الله تعالى الكونية والشرعية، فإن الإنسان كلما نظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ازداد إيمانًا قال الله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ . وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:20-21]. والآيات الدالة على هذا كثيرة أعني الآيات الدالة على أن الإنسان بتدبره وتأمله في هذا الكون يزداد إيمانه.
السبب الثالث: كثرة الطاعات، فإن الإنسان كلما كثرت طاعاته ازداد بذلك إيمانًا، سواء كانت هذه الطاعات قولية،أم فعليه: فالذكر يزيد الإيمان كمية وكيفية، والصلاة والصوم، والحج تزيد الإيمان أيضًا كمية وكيفية [4]".
وفي السنة النبوية شاهد عظيم على أثر الإيمان، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أهل الجنَّةَ يَتَراءونَ أهلَ الغرفِ من فوقهم، كما تَتَراءَونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأُفُقِ، من المشرقِ أو المغربِ، لِتَفاضُلِ ما بينهم. قالوا: يا رسولَ اللهِ تلك منازلُ الأنبياءِ لا يَبْلُغُها غيرُهم، قال: بلى، والذي نفسي بيَدهِ، رجالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ» (البخاري: [3256] ومسلم: [2831] واللفظ للبخاري).
ولذا فالإيمان بالله تعالى منبعه العقيدة الصحيحة، والعقيدة الصحيحة تستوجب العلم بها ومعرفتها دون اتباع للهوى وإنما على بصيرة، ويترتب على هذه المعرفة اليقين بما أمرنا الله سبحانه بالتصديق به، وتوجب هذه المعرفة ملازمة سبل الطاعة التي أمرنا الله الملك بفعلها، وتوجب الامتناع عن المعصية التي نهانا الله العزيز عن فعلها، ويتبع ذلك التوبة الصادقة عن التقصير في الطاعة وعن الوقوع في المعصية، ولو تكرر التقصير لا يثني ذلك العبد عن التقرب إلى مولاه بالتوبة.
وفي ملازمة التوبة يقول الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-: "سبحانه وتعالى سبق في قضائه وعلمه أن الجن والإنس يذنبون فيتوب الله سبحانه على من تاب، ويغفر الله سبحانه لمن شاء، ويعفو عمن شاء سبحانه وتعالى، وليس معناها الترخيص للذنوب، لا، الله تعالى نهى عنها وحرمها، لكن سبق في علمه أنها توجد، وأنه سبحانه يعفو عمن يشاء ويغفر لمن يشاء إذا تاب إليه، هذا فيه دلالة على أنها هذا لا بد منه، فلا يقنط المؤمن، لا يقنط ولا ييأس ويعلم أن الله تعالى كتب ذلك عليه فليتب إلى الله سبحانه ولا ييأس ولا يقنط وليبادر بالتوبة والله تعالى يتوب على التائبين، فليس القدر حجة، ولكن عليك ألا تقنط، وألا تيأس، وأن تتوب إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن هذا شيء قضاه الله سبحانه عليك وعلى غيرك، فلا تيأس ولا تقنط وبادر بالتوبة والله تعالى يتوب على التائبين سبحانه وتعالى، فقد سبق في علمه أنها تقع الذنوب من الجن والإنس، وأنه يتوب على من تاب، ويعفو عمن رجع إليه، ويعفو عمن يشاء ممن أصر سبحانه وتعالى، فضلًا منه وإحسانًا حتى تظهر آثار أسمائه الحسنى التواب، الرحيم، العفو، الغفور [5]".
ولذا فالمؤمن يسعى جاهدًا للوصول إلى الثبات مستعينًا بالله تعالى على ذلك، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكثر من سؤال الله تعالى الثبات، فعن شهر بن حوشب رحمه الله تعالى قال: "قُلتُ لأمِّ سلمةَ: يا أمَّ المؤمنينَ ما كانَ أَكْثرُ دعاءِ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا كانَ عندَكِ؟ قالَت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرُ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ؟ قالَ: يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ. فتلا معاذٌ: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران: 8]" (الترمذي 3522)، والعمل الصالح هو ركيزة الإيمان وأرجح وسيلة للثبات، وهو البرهان على صدق الإيمان، وكلما زاد العبد من العمل الصالح زادت مرتبة إيمانه، وارتقى في الجنة بزيادة درجاته، وهذا يحفز المؤمن على السعي الحثيث للبحث عن الأعمال الصالحة.
ثانيًا: العلم:
إن العلم من السبل العظيمة في الإسلام لرفعة الدرجات، وللعلم أثر فردي على حياة المسلم وأثر جماعي على غيره من المسلمين، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11]، وفي تفسير الآية الكريمة يقول الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "يرفع الله سبحانه المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله تعالى الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين، الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به (تفسير الطبري) [6]".
وفي السنة النبوية حديث شامل وجامع لبيان فضل العلم ومن يطلبه فعن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن سلَك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة، وإنَّ الملائكة لَتضعُ أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنَّ طالب العلم يستغفرُ له مَن في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإنَّ فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العُلماء هم ورثةُ الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ»؛ (ابن ماجه [183] وصححه الألباني في صحيح الجامع: [6297]).
والعلم سيلة شريفة لنيل الدرجات العلى في الجنة، وأعظم العلوم وأشرفها هي العلوم الشرعية وهي التي يعتني بها الشرع، فهي التي بها يكون المسلم بها على بصيرة بأوامر الله تعالى فيتبعها، ويعلم النواهي الشرعية فيتجنبها، ويساهم في بناء الأمة الإسلامية بنشر الوعي الشرعي، فينتفع المسلمون بما تعلمه، ويكون لبنة في نشر توحيد الله تعالى ودينه العظيم بكل وسيلة وآلية، ابتداءا من الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء وجموع المسلمين، وفي هذا الصدد يحرص طالب العلم على الإخلاص طلبا لرضا الله تعالى.
ثالثًا: الجهاد في سبيل الله تعالى
إن الجهاد في الإسلام من أكبر الدلائل على صدق اليقين بالله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من آمن باللهِ ورسولِه، وأقام الصلاةَ، وصام رمضانَ، كان حقًّا على اللهِ أن يُدخلَه الجنةَ، هاجر في سبيلِ اللهِ، أو جلس في أرضِه التي وُلِدَ فيها». قالوا: يا رسولَ اللهِ، أفلا نُنبِّئُ الناس بذلك؟ قال: «إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ، أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيلِه، كلُّ درجتيْنِ ما بينهما كما بين السماءِ والأرضِ، فإذا سألتم اللهَ فسلُوهُ الفردوسَ، فإنَّهُ أوسطُ الجنةِ، وأعلى الجنةِ، وفوقَه عرشُ الرحمنِ، ومنه تَفجَّرُ أنهارُ الجنةِ (البخاري: [7423]) وفي الحديث الشريف فوائد جمة منها:
•الوفاء بأركان الإسلام سبب عظيم لدخول الجنة.
•عظم أجر الجهاد في سبيل الله تعالى وأثره في علو الدرجات.
•الحث على الدعاء لله تعالى وسؤاله عز وجل الفردوس، وهي عبادة عظيمة قد يغفل عنها الكثيرون في دعائهم، ولذا يجب الحرص على هذا الطلب والمداومة والمثابرة عليه.
•الفرق بين كل درجة والتي تليها فرق كبير، وفي هذا حث شريف على طلب العلو في الدرجات، والسعي له بطلب الأعمال الصالحة، والاستثمار الأمثل لمن يطلب شرف الحصول على هذه الدرجات.
وفي هذا تجب الإشارة إلى تدعيم المجاهدين في سبيل الله تعالى بكل طريقة فهذا سبب لنيل الدرجات العلى، فعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَن جهَّز غازِيًا فقد غَزا. ومَن خلَف غازِيًا في أهلِه فقد غَزا» (مسلم: [1895]).
رابعًا: صدق النية
ومن الأسباب التي ترفع من درجات المسلم النية الصادقة، فعن سهل بن حنيف -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَن سأَل اللهَ الشَّهادةَ بصدقٍ بلَّغه اللهُ منازلَ الشُّهداءِ وإنْ مات على فِراشِه» (صحيح ابن حبان: [3192])، وفي الحديث الشريف بيان لأثر النية الصادقة في نيل المطالب السامية بالعلو في الدرجات العالية.
خامسًا: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة
ورد في الحديث الشريف ثلاثة أسباب لرفعة الدرجات، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أدلُكم على ما يمحو اللهُ بهِ الخطايا ويرفعُ بهِ الدرجاتِ؟» قالوا: بلى. يا رسولَ اللهِ! قال «إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ. وكثرةُ الخطا إلى المساجِدِ. وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ. فذلكمْ الرباطُ». وليس في حديثِ شعبةَ ذكر الرباطِ. وفي حديث مالكٍ «ثنتَينِ فذلكمُ الرِّباطِ. فذلكمُ الرِّباطِ»" (مسلم: [251]) وفي الحديث الشريف ثلاثة أسباب لنيل الدرجات العلى وسيتم بيان وشرح فضيلة كل عمل فيما يلي:
إسباغ الوضوء:
يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-:"(إسباغ الوضوء على المكاره) يعني: أن الإنسان يتوضأ وضوءه على كره منه، إما لكونه فيه حمى ينفر من الماء فيتوضأ على كره، وإما أن يكون الجو باردًا وليس عنده ما يسخن به الماء فيتوضأ على كره، وإما أن يكون هناك أمطار تحول بينه وبين الوصول لمكان الوضوء فيتوضأ على كره، المهم أنه يتوضأ على كره ومشقة، لكن بدون ضرر، أما مع الضرر فلا يتوضأ بل يتيمم، هذا مما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات. ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يشق على نفسه ويذهب يتوضأ بالبارد ويترك الساخن، أو يكون عنده ما يسخن به الماء، ويقول: لا، أريد أن أتوضأ بالماء البارد لأنال هذا الأجر، فهذا غير مشروع ؛ لأن الله تعالى يقول: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء:147]، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلًا واقفًا في الشمس، قال: «ما هذا؟» قالوا: نذر أن يقف في الشمس، فنهاه عن ذلك وأمره أن يستظل، فالإنسان ليس مأمورًا ولا مندوبًا إلى أن يفعل ما يشق عليه ويضره، بل كلما سهلت عليه العبادة فهو أفضل، لكن إذا كان لا بد من الأذى والكره، فإنه يؤجر على ذلك ؛ لأنه بغير اختياره [7]".
كثرة الخُطا للمساجد:
من أعظم الأعمال التي يحرص عليها المسلم هي صلاة الجماعة وأجور كثرة الخطا للمساجد شاهدة على ذلك فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أعظم الناس أجرًا في الصَّلاة أَبْعَدُهم إليها مَمشًى فأبعدُهم، والذي يَنتظر الصلاة حتى يصلِّيها مع الإمام أعظمُ أجرًا من الذي يصلِّيها ثم ينام»؛ (البخاري: [651] ومسلم: [662]).
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من غدا إلى المسجدِ أو راح، أعدَّ اللهُ له نُزُلًا من الجنَّةِ كلما غدا أو راح» (صححه الألباني في صحيح الجامع برقم: [6399]).
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تطهرَ في بيتِه ثم مشى إلى بيتٍ من بيوتِ اللهِ، ليقضي فريضةً من فرائضِ اللهِ، كانت خطوَتاهُ إحداهما تحطُّ خطيئةً، والأخرى ترفعُ درجةً» (مسلم: [666]).
انتظار الصلاة:
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الملائكةُ تصلِّي على أحدكم ما دام في مُصلَّاه، ما لم يُحدِثْ: اللهمَّ اغفرْ له، اللهمَّ ارحمْه، لا يزال أحدُكم في صلاةٍ ما دامت الصلاةُ تحبسُه، لا يمنعه أن ينقلبَ إلى أهلِه إلا الصلاةُ»؛ (البخاري: [659] ومسلم: [649] واللَّفظ للبخاري)، وعلى المسلم أن يغتنم هذا الشرف بكثرة انتظاره للصلاة، وهذا يحفز المسلم للمبادرة بدخول المسجد قبل حلول وقت الصلاة، فمنذ لحظة دخول المسلم المسجد انتظارا للصلاة يعتبر في صلاة، ويمكن تعظيم الأجر بذكر الله تعالى في فترة الانتظار وقراءة القرآن الكريم أو غير ذلك من العبادات، وفي هذا مضاعفة للأجور والثواب.
سادسًا: كثرة السجود:
عن ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله تعالى عنه- قال: "كنت أبيتُ مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فأتيتُه بوَضوئِه وحاجتِه. فقال لي: «سلْ» فقلت: أسألُك مرافقتَك في الجنةِ قال: «أو غيرَ ذلك؟» قلت: هو ذاك قال: «فأعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ» (مسلم: [489]). وفي الحديث بيان الإصرار والعزيمة على طلب الآخرة، وبيان فضل الصلاة جملة والسجود خاصة، وللسجود مواضع متنوعة هي سجود الصلاة والسهو والتلاوة والشكر وفي هذا الصدد يقول الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: "سجود الشكر مثل سجود الصلاة، ومثل سجود السهو ومثل سجود التلاوة، سجدة واحدة، يقول فيها: "سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى"، يحمد الله ويثني عليه ويشكره على ما من عليه من صحة أو ولد أو نصر للإسلام وفتح على المسلمين، أو نحو ذلك مما يسره أو يسر المسلمين، النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد لله تعالى للشكر، وهكذا الصديق -رضي الله تعالى- عنه لما جاءه فتح اليمامة، ومقتل مسيلمة الكذاب سجد لله تعالى شكرًا.
والصحيح أنه يجوز ولو كان الساجد على غير طهارة إذا جاءه الخبر السار سجد وإن كان على غير طهارة وهكذا سجود التلاوة من جنس سجود الشكر سجدة واحدة عند تلاوة الآيات التي فيها السجود ولو كان على غير طهارة في أصح قولي العلماء، يقول فيه مثل ما يقول في سجود الصلاة، سجود التلاوة، سجود الشكر، سجود السهو كله يقال فيه ما يقال في سجود الصلاة: "سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى" وذلك لما رواه حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- عن قول رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في السجود: «يقولُ في سجودِهِ سبحانَ ربِّيَ الأعلى سبحانَ ربِّيَ الأعلى سبحانَ ربِّيَ الأعلى»(النسائي: [1132])، ومن أذكار السجود أيضا قول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"، وذلك لما روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوعهِ وسجودهِ: «سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدِك، اللهم اغفرْ لي»" (البخاري: [4293]).
ومن أذكار السجود قول: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح"، وذلك لما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: "أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان يقولُ في ركوعِه وسجودِه «سبوحٌ قدوسٌ ربُّ الملائكةِ والروحِ» "(مسلم: [487])، ويدعو فيه بما يسر الله تعالى من الدعوات الطيبة، ويشكر الله سبحانه في سجود الشكر زيادة يشكر الله تعالى على النعمة التي بلغته. ومن أذكار السجود أيضًا ما رواه علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- عن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السجود: "وإذا سجد قال" «اللهمَّ ! لك سجدتُ. وبك آمنتُ. ولك أسلمتُ. سجد وجهي للذي خلقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وبصرَه. تبارك اللهُ أحسنُ الخالقِين»" (مسلم: [771])، يقال هذا في سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجود الشكر مع سبحان ربي الأعلى، لا بد من كلمة "سبحان ربي الأعلى" ولو مرة ولو كررها ثلاثًا أو خمسًا كان أفضل وأولى في جميع أنواع السجود؛ سجود التلاوة، سجود الشكر، سجود الصلاة، سجود السهو" انتهى (بتصرف من موقع الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى).
سابعًا: إعالة جاريتين حتى تبلغا:
ورد في السنة الشريفة أسباب لمصاحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يشير إلى علو درجة من قام بهذه الأعمال لرفعتها وأثرها فعن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من عال جاريتَيْن حتَّى تبلغا، جاء يومَ القيامةِ أنا وهو». وضمَّ أصابِعَه. (مسلم: [2631]).
وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله تعالى عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَن عالَ ابنتينِ أو ثلاثًا، أو أختينِ أو ثلاثًا حتَّى يَبِنَّ، أو يَموتَ عنهنَّ ؛ كنتُ أنا وهوَ في الجنَّةِ كَهاتينِ. وأشار بأُصْبُعيهِ السبَّابةَ والتي تلِيهَا» (صححه الألباني في صحيح الترغيب: [1970]).
وهذا يبين فضل التربية، ويحفز كل مسلم على إدراك ذلك باتباع التعاليم والآداب الشرعية في تربية الأهل عمومًا والبنات على وجه الخصوص، واحتساب الأجر في ذلك، لنيل شرف مصاحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثامنًا: كفالة اليتيم
عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله تعالى عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أنا وكافلُ اليتيمِ كهاتين في الجنةِ. وقرن بين أصبعيه الوسطى، والتي تلي الابهامَ» (أبو داوود: [5150])، والحديث الشريف يبين أحد الأعمال الصالحة التي تضمن شرف مصاحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة وهي كفالة اليتيم، فليحرص عليها من أراد المبتغى في مرافقة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
تاسعًا: التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة:
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "جاء الفقراءُ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ذهب أهلُ الدُّثورِ منَ الأموالِ بالدرجاتِ العُلا والنعيمِ المقيمِ: يُصلّون كما نُصلّي، ويصومونَ كما نصومُ، ولهم فضلٌ من أموالٍ يحجُّونَ بها ويعتمِرونَ، ويُجاهدونَ ويتصدَّقونَ. قال: «ألا أُحدِّثُكمْ بأمرٍ إن أخذتُمْ بهِ، أدركْتُم مَن سبقَكمْ، ولمْ يدرككُمْ أحدٌ بعدَكُم، وكنتُمْ خيرَ مَنْ أنتمْ بينَ ظهرانَيهِ، إلا مَن عملَ مثلَهُ؟ تُسبِّحونَ وتحمدونَ وتكبِرونَ، خلفَ كلِّ صلاةٍ، ثلاثًا وثلاثينَ». فاختلفْنا بيننا، فقال بعضُنا: نسبحُ ثلاثًا وثلاثينَ، ونحمدُ ثلاثًا وثلاثينَ، ونكبِّرُ أربعًا وثلاثينَ، فرجعْتُ إليهِ، فقال: «تقولُ سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، واللهُ أكبرُ، حتى يكون منهنَّ كلُّهنَّ ثلاثًا وثلاثينَ»" (البخاري: [843]).
أجور مصاحبة لرفعة الدرجات بالتسبيح والتحميد والتكبير.
وفي السنة النبوية أجور كبيرة مصاحبة للتسبيح والتحميد والتكبير وهي نبراس يضيء الطريق لأرباب التجارة الرابحة وتحث المؤمنين على زيادة رصيدهم من الأعمال الصالحة ومنها ما يلي:
- شرف ذكر الله تعالى للعبد: عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقول اللهُ تعالَى: أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرَنِي، فإن ذَكَرَنِي في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكَرَنِي في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٌ منهم، وإن تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّبَ إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرْولةً» (البخاري: [7405])، وهذا الشرف يكفي لكي يدرك العبد فضيلة ذكر الله تعالى دبر كل صلاة وفيها سبيل كريم للتقرب إلى الله تعالى ملك الملوك فيحظى العبد بتقرب الله العظيم إليه وينعم في ظلال هذه النعمة في الدنيا والآخرة.
- زيادة رصيد الأشجار في الجنة: عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أدلُّك على غراسٍ هو خير من هذا؟ تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ يُغرَس لك بكل كلمة منها شجرةً في الجنة» (صححه الألباني في صحيح الجامع: [2613])، ويترتب على المثابرة يوميًا على التسبيح والتحميد والتكبير دبر الخمس صلوات 495 شجرة في الجنة، وفي الأسبوع 3465 شجرة في الجنة، وفي الشهر 14850 شجرة في الجنة، وفي السنة 178200 شجرة في الجنة.
- زيادة رصيد الصدقات: عن أبي ذرٍّ الغفاري -رضي الله تعالى عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أوَليس قد جعل الله لكم ما تَصدَّقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكلِّ تحميدة صدقة، وكلِّ تهليلة صدقةٌ» (مسلم: [1006])، ويترتب على ذلك أن يحصل المسلم دبر الخمس صلوات على 495 صدقة يوميًا، وفي الأسبوع 3465 صدقة، وفي الشهر 14850 صدقة، وفي السنة 178200 صدقة.
- زيادة رصيد الحسنات: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله تعالى اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمَن قال: سبحان الله، كتبت له عشرون حسنة، وحُطَّت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر، مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله، مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين، من قبل نفسه، كُتبت له ثلاثون حسنة، وحُطَّ عنه ثلاثون خطيئة» (صححه الألباني في صحيح الجامع: [1718])، ويترتب على ذلك حسنات كبيرة تثقل الموازين يوم القيامة وتكون زادا له في يوم لا ينفع فيه إلا هذا الزاد.
وفي هذا الصدد يجب على المسلم أن يتواصى بتبليغ هذه الفضائل إلى أهله ووالديه وأخواته وزوجته وأطفاله وأصدقائه وجيرانه لكي يحفزهم على إدراك هذا الفضل واغتنام هذا الأجر وكما بشرنا سيد المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بأن الدال على الخير كفاعله.
عاشرًا: حفظ القرآن الكريم
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرأ، وارتَقِ، ورتِّل كَما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا، فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرأُ بِها» (الترمذي: [2914] وأبو داوود:[1464]).
إن القرآن الكريم هو كتاب الله العظيم، وهو شفاء وهدى للمسلمين، وتلاوته من أكبر أسباب السعادة والطمأنينة، وفي حفظه منابع متدفقة للأجور، وهو أمر يحث المسلمين على حفظ القرآن الكريم، والسعي الحثيث لتحقيق ذلك وتكريس الجهود للوصول لهذه الغاية العظيمة ومن يوجه نفسه لحفظ القرآن الكريم ينال رصيدًا كبيرًا من الحسنات، لأن سعي المسلم للحفظ يتولد منه كثرة التلاوة والمراجعة والتكرار، فعن عبدالله بنِ مسعودٍ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»؛ (الترمذي: [2910]).
طريقة حفظ القرآن الكريم:
بين الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- طريقتين لكيفية حفظ القرآن الكريم فقال: "للناس في حفظ القرآن الكريم طريقان: أحدهما: أن يحفظه آية آية أو آيتين آيتين أو ثلاثًا ثلاثًا حسب طول الآيات وقصرها والثاني: أن يحفظه صفحة صفحة. والناس يختلفون منهم من يفضل أن يحفظه صفحة صفحة يرددها حتى يحفظها، ومنهم من يفضل أن يحفظ الآية ثم يرددها حتى يحفظها ثم يحفظ آية أخرى كذلك وهكذا حتى يتم. ثم إنه أيضًا ينبغي سواء بالطريقة الأولى أو الثانية ألا يتجاوز شيئًا حتى يكون قد أتقنه لئلا يبني على غير أساس، وينبغي أن يستعيد ما حفظه كل يوم خصوصًا في الصباح، فإذا عرف أنه قد أجاد ما حفظه أخذ درسًا جديدًا [8]".
أحد عشر: سَد الفُرَج في الصلاة
عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سدّ فرجة رفعه الله بها درجة» (ابن ماجة: [281]) وصححه الألباني في (صحيح الجامع: [1843]) وهذا يدفعنا لتعلم كيفية التسوية الشرعية للصلاة ونثابر عليها وعلى سد الفرج في الصلاة وسيتم بيان ذلك فيما يلي:
- كيفية تسوية الصفوف:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أقيموا الصُّفوفَ وحاذُوا بينَ المناكبِ وسُدُّوا الخللَ ولينوا بأيدي إخوانِكم ولا تذَروا فرُجاتٍ للشَّيطانِ ومَن وصَلَ صفًّا وصَلَه اللَّهُ ومن قطعَ صفًّا قطعَه اللَّهُ» (أبو داوود: [666] وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة: [743])، وورد شرح مميز للحديث الشريف في الموسوعة الحديثية لموقع الدرر السنية وجاء فيه: «لِيُحاذِ مَنكِبُ كلِّ واحدٍ منكم مَنْكِبَ صاحبِه»، والمَنْكِبُ: مُلْتَقى عَظْمِ العَضُدِ مع الكَتِفِ، «وسُدُّوا الخَلَلَ»، أي: سُدُّوا أيَّ فَتْحةٍ ومسافةٍ بينَ المُصلِّينَ بأنْ يُلْصَقَ كُلُّ مَنْكِبٍ بمَنْكِبِ أخيه في الصَّلاةِ في غيرِ شِدَّةٍ، «ولِينُوا بأيدي إخوانِكم»، أي: لِينوا بيَدِ مَنْ أراد أنْ يَضْبِطَ بكُم الصَّفَّ ويُسوِّيَه، فلا يتَشدَّدْ معه أو يَمْنعْه أَحَدٌ نَفْسَه أنْ يُسوِّيَ له الصَّفَّ، «ولا تَذَروا فُرُجاتٍ للشَّيطانِ»، أي: ولا تَتْرُكوا مَسافاتٍ فارغةً بينَكم وبينَ بعضٍ؛ لأنَّها مِنَ الشَّيطانِ. ثمَّ قال -صلى الله عليه وسلم-: «ومَنْ وصَلَ صَفًّا»، أي: بأنْ يَحْرِصَ على سَدِّ الفُرَجِ فيه أو عدَّلَه وسوَّاه، «وصَلَه اللهُ»، أي: ومَن وصَله اللهُ فقدْ قرَّبه إليه وغَفَر له ورَحِمَه، والوَصْلُ: ضِدُّ الهِجرانِ والقَطعِ، «ومَن قَطَع صفًّا»، أي: بأنْ كان سببًا في قَطْعِ الصَّفِّ، أو عَمِلَ فُرْجةً للشَّيطانِ، «قَطَعه اللهُ»، أي: ومَن قَطعَه اللهُ فقدْ بتَرَه وأبْعَدَه عن رحمتِه، والْوَصْلُ وَالْقَطْعُ صِفتانِ فعليَّتانِ ثابتتانِ للهِ تعالى بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، على ما يَليقُ بالله -عَزَّ وجَلَّ وكمالِه-. وفي الحديثِ: الحثُّ على وَصْلِ الصُّفوفِ في الصَّلاةِ والمحافظةِ على استِقامَتِها، والتَّحذيرُ مِن قَطعِها، والحَذَرُ مِن اعوِجاجِها [9]".
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "المساواة إنما هي بالأكعب لا بالأصابع؛ لأن الكعب هو الذي عليه اعتماد الجسم؛ حيث إنه في أسفل الساق، والساق يحمل الفخذ، والفخذ يحمل الجسم، وأما الأصابع فقد تكون رجل الرجل طويلة فتتقدم أصابع الرجل على أصابع الرجل الذي بجانبه وقد تكون قصيرة وهذا الاختلاف لا يضر، وليس التساوي بأطراف الأصابع بل بالأكعب، أكرر ذلك لأني رأيت كثيرًا من الناس يجعلون مناط التسوية رؤوس الأصابع وهذا غلط. وهناك أمر آخر يخطئ فيه المأمومون كثيرًا، ألا وهو تكميل الصف الأول فالأول ولاسيما في المسجدين: المسجد الحرام والمسجد النبوي، فإنهم لا يبالون أن يصلوا أوزاعًا؛ أربعة هنا، وأربعة هناك، أو عشرة هنا وعشرة هناك، أو ما أشبه ذلك، وهذا لا شك أنه خلاف السنة. والسنة إتمام الصف الأول فالأول حتى إن صلاة الرجل وحده خلف الصف والصف الذي أمامه لم يتم غير صحيحة وباطلة، ويجب عليه أن يعيدها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي وحده خلف الصف، فأمره أن يعيد الصلاة، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» [10]".
ثاني عشر: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-
الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- قربة عظيمة وفي ملازمتها أجور كبيرة، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وعن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه-، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه عشرَ صلواتٍ، وحُطَّت عنه عشرُ خطيئاتٍ، ورُفعَت له عشرُ درجاتٍ» (النسائي: [1296] وصححه الألباني في صحيح الجامع: [6359]).
إن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأذكار الشرعية الجليلة، وفيها ذكر لله تعالى ملك الملوك، وهي من أحب العبادات للمسلمين، لما للرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكانة عظيمة في قلوب المسلمين، فهذا الحب من أسس الإسلام العظيم ومن ركائز الإيمان، فعن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ من والدِه وولدِه والناسِ أجمعينَ" (البخاري: [15])، وعن عبدالله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أولى النَّاس بي يوم القيامة أكثرُهم عليَّ صلاةً» (الترمذيُّ: [484]).
- صيغ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-
إن صيغ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- متعددة، ووردت في أحاديث كثيرة وهي الأفضل والأكمل ومنها:
عن كعب بن عجرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "خرَجَ علينا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: قد عَرَفْنَا كيف نُسَلِّمُ عليك، فكيف نُصَلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهمَّ، صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيْتَ على آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ، بارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما بارَكْتَ على آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ»" (البخاري: [6357] ومسلم: [406]).
عن كعب بن عجرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "سألنا رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: يا رسولَ اللهِ، كيف الصلاةُ عليكم أهلَ البيتِ، فإنَّ اللهَ قد علَّمنا كيف نُسلِّمُ عليكم؟ قال: «قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيمَ، وعلى آلِ إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ»" (البخاري: [3370]).
عن عقبة بن عمرو بن ثعلبة أبو مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: " أتانا رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ونحنُ في مَجلسِ سعدِ بنِ عبادةَ فقالَ لَهُ بشيرُ بنُ سعدٍ: أمرَنا اللَّهُ أن نصلِّيَ عليكَ فَكَيفَ نصلِّي عليكَ؟ قالَ: فسَكَتَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حتَّى ظننَّا أنَّهُ لم يسألهُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صلَّيتَ علَى إبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما بارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ في العالَمينَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، والسَّلامُ كما قد عُلِّمتُمْ»" (الترمذي: [3320]).
عن كعب بن عجرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "ألا أُهدي لَكَ هديَّةً خَرجَ علَينا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فقُلنا قَد عرَفنا السَّلامَ علَيكَ فَكيفَ الصَّلاةُ علَيكَ قالَ «قولوا اللَّهُمَّ صلِّ علَى مُحمَّدٍ وعلَى آلِ محمَّدٍ كما صلَّيتَ علَى إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ اللَّهمَّ بارِك علَى مُحمَّدٍ وعلى آلِ مُحمَّدٍ كما بارَكتَ علَى إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مَجيدٌ»" (ابن ماجه: [746]).
وقد نص الحافظ ابن حجر (فتح الباري: [166/11]) على أن جماهير العلماء يرون: "أن أيّ لفظٍ أدَّى المراد بالصَّلاة على رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أجزأ، أما داخل الصَّلاة؛ فينبغي الاقتصار على المأثور الوارِد، وعدم النَّقص عنه احتياطا للسُّنَّة والدِّين، واتِّباعا للوارد عنه عليه الصلاة والسلام [11]".
- المثابرة على الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال الشيخ محمد صالح المنجد: "من نسي الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد خسر، وباء بالذلة والهوان، فقال عليه الصلاة والسلام: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة» (الترمذي: [3345]). إن هذه عبادة عظيمة يغفل عنها المسلم، ويفوت عليه أجر عظيم، فلابد أن نذكر أنفسنا وأبناءنا وأصحابنا بهذه العبادة، وأن ننشرها، ونحرص عليها، وأن نعلمها إن في ذلك لخير عظيم [12]".
قال الشيخ الدكتور محمد بن إبراهيم الحمد: "في الدقيقة الواحدة تستطيع أن تصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- (50) مرة بصيغة -صلى الله عليه وسلم-، فيصلي عليك الله سبحانه مقابلها (500) مرة لأن الصلاة الواحدة بعشر أمثالها [13]".
والمسلم يحرص على الإكثار من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فهي سبب لتفريج الهموم ومغفرة الذنوب ووسيلة عظيمة لرفعة الدرجات، وفي اليوم الواحد يستطيع المسلم أن يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- آلاف المرات، وأن يستثمر أوقاته، ويذكر أهله وأطفاله وأصدقائه في العمل، ويطوع لسانه دوما على ذكر الله تعالى فلا تفتر همته.
ثالث عشر: الكلمة
إن الكلمة قد تكون سبب في رفع الدرجات وقد تكون سببًا في دخول جهنم فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ العبد لَيتكلَّمُ بالكلمة من رِضوان الله لا يُلقي لها بالاً، يرفعُه الله بها درجاتٍ، وإنَّ العبد ليتكلَّمُ بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنَّم»؛ (البخاري: [6478]).
وفي الحديث الشريف قال ابن بطال -رحمه الله تعالى-: "وقال أهل العلم: هي الكلمة عند السلطان بالبغي والسعي على المسلم، فربما كانت سببًا لهلاكه، وإن لم يرد ذلك الباغي، لكنها آلت إلى هلاكه، فكتب عليه إثم ذلك. والكلمة التي يكتب الله له بها رضوانه الكلمة يريد بها وجه الله بين أهل الباطل، أو الكلمة يدفع بها مظلمة عن أخيه المسلم، ويفرج عنه بها كربةً من كرب الدنيا، فإن الله تعالى يفرج عنه كربةً من كرب الآخرة، ويرفعه بها درجات يوم القيامة" انتهى من (شرح صحيح البخاري: [186/10]) [14].
ومن فضائل الحديث الشريف إدراك فضل الكلمة، والأفعال المصاحبة للمسلم بكل الآليات والوسائل وتقديرها حق قدرها، وحث المسلمين على اغتنام هذا الفضل لرفعة الدرجات في الجنة، والكلمة قد تكون نصيحة للمسلمين أو تذكير لهم بفضل الله تعالى ونعمه، وتعريفهم بالعبادات الشرعية وكيفة الوفاء بحقها، وإحياء النسة النبوية وما بها من خيرات، والتواصي والتعاون على فعل الخير وتفعيله، والكلمة قد تكون تفريجا لمهموم، أو تسلية لذوي الكربات، والكلمة قد تكون شفاعة بالخير أو شهادة حق.
ولبيان عاقبة كلمة السوء قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: ولما استهزأ بعضهم فقالوا عمن -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء"، أنزل الله تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة:64-66]؛ فقد أخبر الله تعالى أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبيَّن أن الاستهزاء بآيات اللّه تعالى كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام" انتهى من (الإيمان: [284/2]).
ولذا فمن مقاصد الحديث الشريف التحذير من عاقبة الكلمة التي تؤدي إلى سخط الله تعالى، والتي قد تكون حث على المعصية أو تشجيع للمنكرات أو غير ذلك من سبل الشرور ولذا فعلينا حفظ اللسان، ومراقبة الأفعال، وعدم التساهل في الكلمة ومحاسبة النفس وترويضها، وترهيبها من ويلات الجحيم، وترغيبها في نعيم الجنان، وتدبر العاقبة الحميدة سبيل لكي نلازم تقدير الأقوال والأفعال، وتذكر عاقبة السوء وسيلة لتجنب كل ما يفضي إلى الشر أو يقربنا منه.
- كلمات تثقل الميزان:
وذكر الله تعالى أعظم الكلام ولقد ورد في السنة النبوية شاهد عظيم لفضل كلمات ذكر الله تعالى ومنها قول: "لا إله إلا الله" و"سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده" و"سبحان اللهِ وبحمدِه، عددَ خلقِه ورضَا نفسِه وزِنَةِ عرشِه ومِدادَ كلماتِه" وهذا يستوجب تدبرنا لذلك والإكثار من هذه الكلمات وفيما يلي بيان للأدلة من السنة النبوية:
عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كلِمتان خفيفتان على اللِّسانِ، ثَقيلتان في الميزانِ، حبيبتان إلى الرَّحمنِ: سبحان اللهِ العظيمِ، سبحان اللهِ وبحمدِه» (البخاري: [6406] ومسلم: [3021]).
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ سيُخَلِّصُ رجلًا من أمَّتي على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ فينشُرُ علَيهِ تسعةً وتسعينَ سجلًّا، كلُّ سجلٍّ مثلُ مدِّ البصرِ ثمَّ يقولُ: أتنكرُ من هذا شيئًا؟ أظلمَكَ كتبتي الحافِظونَ؟ يقولُ: لا يا ربِّ، فيقولُ: أفلَكَ عذرٌ؟ فيقولُ: لا يا ربِّ، فيقولُ: بلَى، إنَّ لَكَ عِندَنا حسنةً، وإنَّهُ لا ظُلمَ عليكَ اليومَ، فيخرجُ بطاقةً فيها أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، فيقولُ: احضُر وزنَكَ فيقولُ يا ربِّ، ما هذِهِ البطاقةُ ما هذِهِ السِّجلَّاتِ؟ فقالَ: فإنَّكَ لا تُظلَمُ، قالَ: فتوضَعُ السِّجلَّاتُ في كفَّةٍ، والبطاقةُ في كفَّةٍ فطاشتِ السِّجلَّاتُ وثقُلتِ البطاقةُ، ولا يثقلُ معَ اسمِ اللَّهِ شيءٌ» (الترمذي: [2639]).
عن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث -رضي الله تعالى عنها-: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خرج من عندِها بُكرةً حين صلى الصبحَ، وهي في مسجدِها. ثم رجع بعد أن أَضحَى، وهي جالسةٌ. فقال «ما زلتِ على الحالِ التي فارقتُكِ عليها؟» قالت: نعم. قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- «لقد قلتُ بعدكِ أربعَ كلماتٍ، ثلاثَ مراتٍ. لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذُ اليومَ لوزَنَتهنَّ: سبحان اللهِ وبحمدِه، عددَ خلقِه ورضَا نفسِه وزِنَةِ عرشِه ومِدادَ كلماتِه»" (مسلم: [2726]).
رابع عشر: حسن الخلق
عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما مِن شيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقلُ من حُسنِ الخلقِ، وإنَّ صاحبَ حُسنِ الخلقِ ليبلُغُ بِهِ درجةَ صاحبِ الصَّومِ والصَّلاةِ» (الترمذي: [2003] وصححه الألباني في صحيح الجامع: [5726]).
إن حسن الخلق منهج حياة للمسلم، وذلك باتباع أوامر الله تعالى وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالمسلم يحسن معاملة الناس، ويقهر النفس للتخلص من الصفات المذمومة، ويطوعها لكي تتوافق مع خلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع الناس، فلا يغضب، ويكون الحلم زاده، ويصبر على أذى الناس، ويلازم العفو في حياته، ويسارع إلى قضاء حاجات الآخرين بكل محبة وإخلاص لله الكريم، وعند إدراك عظيم المطالب تهون الصعاب، فمعرفة المسلم بأجر حسن الخلق وثقله في الميزان يكون محفزًا على اكتساب فضائل الأخلاق الحسنة وتجنب الأخلاق السيئة، وكلما لازم المسلم حسن الخلق زادت درجاته وارتفعت مرتبته في الدنيا والآخرة.
قال الشيخ محمد صالح المنجد: "وصاحب الخلق الحسن أقرب الناس مجلسًا من النبي -عليه الصلاة والسلام- يوم القيامة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا» (الترمذي: [2018])، وهو حديث صحيح، فهذا الخلق الحسن أثقل شيء في ميزان العبد؛ لأن الأعمال توزن يوم القيامة وزنًا حقيقيًا ترجح الكفة بها، وأثقل شيء في الميزان الخلق الحسن، وهي وصيته -صلى الله عليه وسلم- للمؤمن في معاملة الناس حين قال: «وخالق الناس بخلق حسن» (الترمذي: [1987]) [15]".
خامس عشر: الدلالة على الخير
إن الدلالة على الخير سبيل عظيم للرقي في درجات الجنة، فكل عمل يترتب عليه الدلالة على أسباب رفعة الدرجات في الجنة يكون لصاحبه ثواب وأجر في ذلك، فما أعظمها من عاقبة، فعن أنس بن مالكٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الدالَّ على الخير كفاعله»؛ (الترمذي: [2670]).
نسأل الله الكريم أن يرزقنا وأهلنا والمسلمين الفردوس الأعلى، والحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
_________________________
[1]- تفسير السعدي من موقع المصحف الإلكتر