سبق المفردون

مبارك العشوان
1436/04/30 - 2015/02/19 22:29PM
الحمد لله...أما بعد: فاتقوا الله... مسلمون.
عباد الله روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ: ( سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ، قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ ) وقال عليه الصلاة والســلام : ( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُم، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ، قَالُوا بَلَى؛ قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ) قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) أخرجه الترمذي وقال الألباني: صحيح.
عباد الله: لقد أمر الله تعالى بذكره كثيرا، و تسبيحه بكرة وأصيلا ورتب على ذلك الأجور العظيمة، قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }الأحزاب 41ـ 42 وقال سبحانه: { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْـراً عَظِيماً } الأحزاب 35 وقال جل وعلا: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعـُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ }آل عمران 191. وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: ( لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
ولِعِظَمِ هذه العبادة وَيُسْرِها أمر الله تعالى بالإكثار منها بغير مقدار ولا وقت؛ بينما جعل تعالى لسائر العبادات مقدارا، وجعل لها أوقاتا، أما الذكر فقد جَعَلَ للمسلم في كل شأنٍ من شؤون حياته ذكرا؛ فجعل للصباح من كل يومٍ ذكرا، وللمساء منه ذكرا ولدخول المسجد والخروج منه ذكرا، ولدخول المنزل وللخروج منه ذكرا، ولدخول الخلاء وللخروج منه ذكرا، وللطعام ذكرا بل حتى لمواقعة الرجل أهله ذكرا، بل إن الله تعالى أمر بذكره في أشد الظروف، عند ملاقاة العدو:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحــُونَ }الأنفال45 ينام المسلم وهو يذكر ربه، ويستيقظ فيذكر ربه، ثم هو طيلة يومه، وفي كل أحواله يذكر ربه، تقول عائشة رضي الله عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يـذكر الله على كل أحيانه ) رواه البخاري.
الذكر ـ رحمكم الله ـ عبادة لا مشقة فيها، يؤديها المسلم راكبا أو ماشيا، قائما أو قاعدا أو مضطجعا، وأيُّ مشقة على الإنسان في تحريك لسانه بذكر الله؟!.
عباد الله: مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكرِ ربه فليبشر بكل خير، ففي الحديث القدسي أن الله جل وعلا قال: ( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ) رواه البخاري ومسلم.
مَنْ أكثر من ذكر ربه؛ فلا يخشَ غما، ولا يَشْتَكِ هما، ولا يُصيبنه قلقٌ ولا حَزَنٌ ما دام ذكرُ الله تعالى قرينُه.
ذكر الله تعالى عبادةٌ جليلة؛ بها تطمئن القلوب، وبها تُفْرَجُ الكروب، وبها الحصن الحصين، وبها يُحرز العبد نفسه من كيد الكائدين، ومن السحرة والشياطين.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَـطَلَةُ ) قَالَ مُعَاوِيَةُ بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ. رواه مسلم.
هذا في قراءة القرآن وهي من أجَلِّ الذكر وأعظمه.
بذكر الله تعالى أيها الناس تـثـقل الموازين، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه؛ ففي الحديث: ( الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ) رواه مسلم.
ثم اعلموا رحمكم الله أن ذكرَ الله تعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بهما جميعا، وأفضلُ الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان؛ فأكثروا رحمكم الله من ذكر ربكم بقلوبكم وألسنتكم أكثروا وفقكم الله ذكرَ الله ولا تُلهينكم عنه دنياكم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُـمُ الْخَــاسِرُونَ } المنافقون 9 بارك الله لي ولكم ...







الخطبة الثانية:
الحمد لله...أما بعد: فاعلموا رحمكم الله أن حاجة الإنسان لذكر الله تعالى شديدة، فبذكر الله تعالى حياة القلوب، وبه قُوْتُها وزادها إلى معادها، متى فارقها كانت في عداد الأموات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ) رواه البخاري وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون السمك إذا فارق الماء.
ولموت قلوب المنافقين كان من صفاتهم أنهم: { َلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً } النساء 142
وفي ذكر الله تعالى سلامة القلوب من الأدواء؛ قال ابن القيم رحمه الله: ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك الذكر صدأ، فإذا ذكره جلاه، وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لكل شيء جلاء، وجلاء القلوب ذكر الله عز وجل.
عباد الله: وكما أن الذكر حياة القلوب فهو كذلك عمارة البيوت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ) رواه مسلم وبذكر الله تعالى تطرد الشياطين منها كما جاء في الحـديث: ( لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) رواه مسلم. وذكر الله كذلك أنس المجالس وزينتها وحياتها، ولهذا حذر النبي الله صلى الله عليه وسلم من مجالس الغافلين، ونهى عن كل تجمع لا يذكر الله فيه، فقـــــال:
( مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فَتَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ، إِلَّا كَأَنَّمَا تَفَرَّقُوا عَنْ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ) رواه الإمام أحمد وصححه الألباني. بينما قال صلى الله عليه وسلم في مجالس الذكر: ( وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ... ) رواه مسلم.
ولمَّا خَلَتْ بيوتُ كثير من المسلمين من ذكر ربهم، وأحَلَّ أهلُها محَلَّه لهو الحديث، ومزامير الشياطين، والصور، واستولت عليهم الغفلة؛ أظلمت عند ذلك بيوتهم، وابتُلوا بِمَسِّ الجانِّ ومردةِ الشياطين، ووقعوا في شباك السحرة والمشعوذين، وتوالت عليهم المصائب من كل فج؛ وما أُصيبوا إلا مِن قِبَلِ أنفسهــــــم و بإعراضهم وغفلتهم: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَـهُ قَرِينٌ } الزخرف 36 وقال سبحانه : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَـى } .
ألا فاذكروا الله تعالى أيها الناس ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا
ثم صلوا وسلموا ....
المشاهدات 1530 | التعليقات 0