سبـــــــــــــــع غنــــــــــــــــــــائم !1445/8/27ه

يوسف العوض
1445/08/23 - 2024/03/04 09:11AM

الخطبة الاولى

عباد الله : فما هي إلا أيّامٌ قلائلُ، حتّى يحلَّ على الأمّةِ خيرُ موسمٍ نازلٍ؛ حيث تكتملُ دورةُ الفلكِ، ويُشرقُ على الدُّنيا هلالُ رمضانَ المباركِ؛ هذا الشّهرُ الذي تهفُو إليه نفوسُ المؤمنين، وتتطلّعُ شوقاً لبلوغِه أفئدةُ المتّقين، وكيف لا؟ وهو شهرُ مضاعفةِ الحسناتِ، ورفعِ الدّرجاتِ، ومغفرةِ الذنوبِ والخطيئاتِ. شهرٌ تفتحُ فيه أبوابُ الجِنانِ، وتغلقُ فيه أبوابُ النِّيرانِ، وتُصفَّدُ فيه مَرَدَةُ الجانِّ. شهرُ تهجُّدٍ وتراويحَ، وذكرٍ وتسبيحٍ، وتلاوةٍ وجُودٍ وصدقاتٍ، وتوبةٍ وضراعةٍ ودعواتٍ. شهرُ خيراتٍ ورحماتٍ، وفضائلَ ومكرماتِ، ويكفيه شرفاً أن اللهَ جلّ وعلا أنزل فيه كلامَه القرآنَ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان ).

عباد الله : فكيف يكونُ يا ترى استقبالُ هذا الضّيفِ الكريمِ؟ وكيف يكونُ اغتنامُ هذا الموسمِ العظيمِ؟

 أوّلاً: ينبغي أن يّكونَ عند المسلمِ حرصٌ كبيرٌ على بلوغِ هذا الشّهرِ الكريمِ؛ ويظهرُ ذلك في سؤالِ اللهِ تعالى بصدقٍ وإلحاحٍ أن يُّبلِّغَهُ إيّاهُ، وهو في كاملِ صحّتِهِ وقوّتِهِ، ونشاطِهِ واستعدادِه؛ حتّى يغتنمَه في طاعةِ اللهِ ومرضاتِهِ؛ كما كان دأبُ السّلفِ الصّالحين؛ فقد قال مُعلَّى بنُ الفضل: «كانوا يدعون الله تعالى ستّةَ أشهرٍ أن يّبلغَهم رمضانَ...»، وكان من دعاءِ التّابعيِّ الكبيرِ يحيي بن أبي كثير -رحمه الله-: «اللّهمّ سلِّمني إلي رمضانَ، وسلِّم لي رمضانَ، وتسلَّمه منِّي متقبلاً ».

ثانياً: ينبغي على المسلمِ أن يّشكرَ الله تعالى على بلوغه هذا الشهر-الذي يضاعفُ فيه العملُ، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ-؛ فإنّ بلوغَه نعمةٌ عُظمى، تستوجبُ عليه الشُّكرَ للمولى سبحانَهُ وتعالى، وليتذكّر كم من النّاسِ قد حُرمَ بلوغَه؛ ممّن كان يعرفهم من خلاّنٍ وأقاربَ وأحبابٍ، ومعارفَ وأصدقاءَ وأصحابٍ؛ يصومُ هذا العامَ دونَهم، وهم قد وُسِّدُوا في الترابِ؛ فليحمد الله، وليفرح بنعمة الله عليه (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون).

وإنّ ممّا يؤكِّدُ هذا المعنى، ويجعلُ المسلمَ يلهجُ لسانُه بحمده تعالى: ما رواهُ الإمامُ أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كَانَ رَجُلانِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الآخَرُ سَنَةً. قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ؛ فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ؛ فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالَ رَسُولُ الله : أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلافِ رَكْعَةٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً؛ صَلاةَ السَّنَةِ» .

ثالثاً: الفرحُ والسّرورُ بقدومِهِ، والاستبشارُ والابتهاجُ بحلولِهِ؛ فقد كان النبيُّ رضي الله عنه يبشّر بهذا الشّهرِ الفضيلِ أصحابَه، ويُلوِّحُ لهم بالتّأهبِ له، وحسنِ استقبالِه واغتنامِه؛ فعن أبي هريرة قال: « قال نبيُّ اللهِ وهو يبشِّرُ أصحابَهُ: قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ؛ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ ».

قال الحافظ ابنُ رجبٍ الحنبليُّ -رحمه الله- في (لطائف المعارف): «قال بعضُ العلماءِ: هذا الحديثُ أصلٌ في تهنئةِ النّاسِ بعضِهم بعضاً بشهرِ رمضانَ».

وكان ابنُ عمرَ رضي الله عنهما يقول: « مرحباً بشهرٍ خيرٌ كلُّه؛ صيامٌ نهارُه، قيامٌ ليلُه ».

 عباد الله: ولكن أين هذا يا عباد الله! من أقوامٍ يستثقلُون هذا الضيفَ الكريمَ، ويتبرّمون من هذا الموسمِ العظيمِ، ولا يرون في الصّومِ إلا حرماناً لشهواتِهم العارمةِ، وكبحاً لغرائزِهم الجامحةِ؛ فوجوهُهم لاستقبالِ رمضان عابسةٌ، وصدورُهم به ضائقةٌ، لا همَّ لأحدهم طيلةَ نهارِه، إلا كيف يملأُ في آخرِه بطنَه. ألا إنّ أولئك هم المحرومون! ألا إنّ أولئك هم المحرومون!

 رابعاً: عقدُ العزمِ على اغتنامِه في طاعة الله عزّ وجلّ، والتخطيطُ المسبقُ للاستفادةِ من هذا الموسمِ على الوجهِ الأكملِ، واستغلالِ جميعِ أوقاتِه في طاعةِ الله ومرضاتِه؛ فإنّ من صدَقَ اللهَ صدقَه، وأعانَه على طاعتِه، ويسّرَ الخيرَ لهُ، وقد قال عزّ شأنُه: (فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) فيا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ولا تقصِّرْ في عبادةِ اللهِ عزّ وجلّ، وتذكّرْ دائماً قولَ المصطفى -فيما رواهُ التِّرمذيُّ -: « إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ».

عباد الله :وخيرُ ما عمَر به المسلمُ من الطّاعةِ وقتَه في هذا الشّهرِ الكريمِ: هو ما كان يعمرُ به وقتَهُ النبيُّ عليهِ أفضلُ الصّلاةِ وأزكى التسليمِ، وقد لخّص هديَه في ذلك العلّامةُ ابنُ القيّم -رحمه الله- في (زاد المعاد) ؛ فقال: « وكان من هديِه عليه الصلاة والسلام في شهرِ رمضانَ: الإكثارُ من العباداتِ؛ فكان جبريلُ عليه الصلاة والسلام يدارِسُه القرآنَ في رمضانَ، وكان إذا لقِيَه جبريلُ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ المرسلةِ، وكان أجودَ النّاسِ، وأجودَ ما يكونُ في رمضانَ؛ يُكثرُ فيه من الصّدقةِ، والإحسانِ، وتلاوةِ القرآنِ، والصّلاةِ، والذِّكرِ، والاعتكافِ، وكان يخصُّ رمضانَ من العبادةِ بما لا يخصُّ غيرَه به من الشُّهورِ...».

خامساً: من حسنِ استقبالِ هذا الشّهرِ الكريمِ، والاستعدادِ للاستفادةِ من هذا الموسمِ العظيمِ: أن يتفقّهَ المسلمُ في أحكامِ رمضانَ، ويعرفَ مسائلَ الصِّيامِ، ويعلمَ أركانَه، وشروطَه وواجباتِه، وآدابَه، وسننَه، ومفسداتِه؛ ليكونَ المسلمُ على بصيرةٍ من أمرِه، ويعبدَ اللهَ تعالى على علمٍ من دينِه؛ إذْ لا يُعذر أحدٌ بجهلِ الفرائضِ الّتي فرَضَها اللهُ على عبادِه، وقد قال سبحانه: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) ،وثبت في صحيح البخاريّ وصحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

سادساً: من خيرِ ما يُستقبل به شهرُ رمضانَ: العفوُ عن النّاسِ والإحسانُ، والبرُّ وصلةُ الأرحامِ، وتطهيُر القلوبِ من أدرانِ الأحقادِ والبغضاءِ، والحسدِ والغِلِّ والشّحناءِ؛ حتّى تصلحَ القلوبُ، وتنتفعَ بما ينزلُ عليها من السّماءِ، وتستحقَ المغفرةَ والرحمةَ من ذي الجلالِ والكبرياءِ (فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ) كما أمركم بذلك ربكم؛ فإنّ الّذي ُيطلُّ عليه شهرُ رمضانَ قاطعاً لأرحامِه، هاجراً لإخوانِه: هيهاتَ، هيهات أن يّستفيد من رمضانَ.

 

الخطبة الثانية

عباد الله : أخيرا لاغتنام رمضان ويعتبر سابعاً: التّوبةُ النّصوحُ من كلِّ ذنبٍ وعصيانٍ، فأعلنها - من الآن- يا عبد الله! توبةً نصوحاً إلى الملكِ العلّامِ؛ لتستقبلَ الشّهرَ الكريمَ طاهراً من الآثامِ، وتصيبَك الرّحماتُ والبركاتُ في سائرِ اللّيالي والأيامِ؛ فإنّ الله تعالى قد حثّ عبادَه على التّوبةِ إليه، واشترط فيها أن تكونَ نصوحاً؛ فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً).

 وإنّ التّوبةَ لا تكونُ نصوحاً إلا بتوّفُّر شروطِها، وإنّ من أعظمِ شروطِها: الإخلاصَ لله تعالى فيها، والإقلاعَ عن المعصيةِ بعد الاعترافِ بها، والنّدمَ على ما سلف وكان منها، وعقدَ العزمِ على عدمِ الرجوعِ إليها، وردَّ المظالمِ إلى أهلِها، أو طلبَ المسامحةِ من أصحابِها إذا كان الذنبُ يتعلّقُ بحقوقِ المخلوقين.

 وليحذرِ المسلمُ من أن ينويَ توبةً مؤقّتةً في رمضانَ؛ لينقضَها، ويرجعَ إلى المعصيةِ بعد رمضانَ؛ فإنّ هذه النيّةَ مانعةٌ من قبولِها.

عباد الله :ألا وإنّ من أعظمِ ما تجبُ منه التّوبةُ بين يدي رمضانَ: هو المالُ الحرامُ؛ الّذي يجرُّ لصاحبِه البلاءَ والآثامَ، ويكونَ سبباً في عدمِ استجابةِ الدُّعاءِ، ولا تُفتح له أبوابُ السماءِ، وقد ثبت في (صحيح مسلم) عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ؛ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)،ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ؛ يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!».

فانظرْ يا عبدَ الله في نفسِك، وفتِّشْ في بيتِك، وأدخلْ يدَك في جيبِك، وافتَح حسابَك وأخرِجْ كلَّ مالٍ حرامٍ لا يحلُّ لك؛ حتّى يأتي عليك الزائرُ الحبيبُ، وأنت من الله قريبٌ قريبٌ.

عباد الله : علينا أيُّها الأخيارُ! أن نحسنَ استقبالَ ضيفِنا الكريمِ، وأن نريَ الله تعالى من أنفسنا خيراً في هذا الموسمِ العظيمِ، ولنتُبْ فيه من الذُّنوبِ والسيّئاتِ، ولنكثِر فيه من نوافلِ الطّاعاتِ؛ من ذكر، وتلاوة وصلاةٍ، وصدقات، وغيرها من الأعمال المستحبات؛ عسى أن يصيبَنا ما في هذا الشهر من خيراتٍ ورحماتٍ، ولنحذرْ من تضييعه بالغفلةِ والإعراضِ؛ كحالِ الأشقاءِ الّذين نسُوا اللهَ فأنساهُم أنفسَهم؛ فلا يستفيدون شيئاً من مرورِ مواسمِ الخيرِ عليهم.

 

 

المشاهدات 940 | التعليقات 0