سبحان سامع الأصوات

ابراهيم الهلالي
1439/07/12 - 2018/03/29 21:35PM

خطبة سبحان سامع الأصوات

الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله البصير التواب ، الفتّاح الوهّاب ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له السميع الخبير ، المتين القدير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله   صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه عدد قطر الندى وما تعاقب الإصباح والمساء أما بعد : فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ؛ فنحن في زمن تحقيقها فإننا إنما خلقنا لعبادة الله سبحانه وما عمرنا وحياتنا إلا مجموع الساعات واللحظات    { وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }المائدة4

عباد الرحمن : العبودية درجات وأعلى مراتبها : الإحسان ؛ أن تعبد الله كأنك تراه ، وهذه المرتبة طريق لرضا الرحمن وفردوس الجنان و نعيم القبر و سلامة من سخط الله وعذابه ، وإن مما يعين على الترقي في مرتبة الإحسان امتلاء القلب بمعاني الأسماء الحسنى واستشعارها ، ووقفتنا اليوم مع اسم من الأسماء الحسنى ، استشعاره يملأ القلب أنسا بالله وتذكره يبعث المؤمن لكثرة ذكر ربه ! و لقول كل كلمة طيبة ، واستشعاره له يقيّد اللسان عن الغيبة والنميمة و اللعن والسخرية والكذب وفحش الكلام ! وعموم ذنوب اللسان ” وَهَل يُكِبُّ النَّاسَ على وجوهِهِم في النَّارِ ، إلَّا حصائدُ ألسنتِهِم"

عباد الله: إننا لو تأملنا في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11] لوجدناها أصرحُ آية في القرآن في تنـزيه الله تعالى التنـزيه الكُلي، والكافُ في (كمِثله) لتأكيد النفي، ففي الآية نفي ما لا يليق بالله عن الله، وقوله -تعالى-: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فيه إثباتُ ما يليق بالله، فالسمع صفةٌ لائقةٌ، والبصرُ كذلك، وإنمَّا قدَّم الله -تعالى- في هذه الآية التنـزيه حتى لا يُتوهم أن سمعه وبصره كسمع وبصر غيره.

حديثي إليكم اليوم عن اسم من أسماء الله الحسنى، حبيب إلى القلوب، يزلزل كيان المتأملين، ويُبكي عيون المتخشعين، وتقشعر منه جلود المتذللين، إنه اسم الله السميع، الذي تكرر وروده في القرآن في خمسة وأربعين موضعا !

المتأمل في معاني هذا الاسم الجليل يستشعر جلال الملكوت، وهيبة الربانية، ورحمة الإلهية، وقوة الصمدانية:

وهو السَّميعُ يَرى ويَسْمعُ كلَّ ما ... في الكون من سِرٍّ ومن إعلانِ

ولكلِّ صوتٍ منه سمعٌ حاضرٌ ... فالسِّرُّ والإِعلان مستويــــــانِ

والسَّمعُ منه واسعُ الأصواتِ لا ... يخفى عليه بعيدُهـــا والدانـــــي

 

جاءت خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستفتيه في زوجها أوس بن الصامت وهو ابن عم لها والذي قال لها في حال غضب : أنتِ عليّ كظهر أمي ! – وكان الظهار موجودا عندهم في الجاهلية – فجاءت تستفتي النبي صلى الله عليه وسلم في أمرها، وتشتكي الحال والمعاناة معه ، فنزل صدر سورة المجادِلة ، تقول عائشة رضي الله عنها : الحمدُ للهِ الَّذي وسِع سمعُه الأصواتَ، لقد جاءت المجادِلةُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم تُكلِّمُه وأنا في ناحيةِ البيتِ ما أسمعُ ما تقولُ فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ :  {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }المجادلة1 ( أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والبخاري معلقا )

سبحانه السميع  الذي يسمع جميع الأصوات على اختلاف اللغات وتنوع الحاجات ، قد استوى  في سمعه سر القول وجهره  {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ }الرعد10

سبحانه السميع العليم لا يشغله سمع عن سمع ولا صوت عن صوت بل لو قام الجن والبشر كلهم من أولهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في صعيد واحد وسألوا الله جميعا في لحظة واحدة وعرض كلٌ حاجته وتحدث كلٌ بلغته ولهجته لوسعهم سمعه أجمعين دون أن يختلط عليه صوت بصوت أو لغة بلغة أو حاجة بحاجة ؛ ففي الحديث القدسي :” يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم . وإنسَكم وجِنَّكم . قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني . فأعطيتُ كل إنسانٍ مسألتَه . ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ ” ( رواه مسلم )

سبحانه السميع  الذي يسمع وهو يعلم ما تكنّه الصدور !

سبحانه السميع أنكر ظن من ظن من المشركين  أن الله لا يعلم السر والنجوى ! قال سبحانه  {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }الزخرف80

إخوة الإيمان : والسمع المضاف لله عز وجل ينقسم إلى قسمين : الأول : سمع يتعلق بالمسموعات وهو ما مر بنا ؛ فيكون معناه : إدراك الصوت . والقسم الثاني : سمع بمعنى الاستجابة ، أي أن الله يستجيب لمن دعاه ومنه قوله  {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء }آل عمران38  وقوله تعالى على لسان الخليل  {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء }إبراهيم39 ومنه قول المصلي : ” سمع الله  لمن حمده ”

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : اجتمع عند البيتِ ثلاثةُ نفَرٍ . قرشيان وثقفيُّ. أو ثقفيان وقرشيُّ . قليلٌ فقهُ قلوبِهم . كثيرٌ شحمُ بطونِهم . فقال أحدُهم : أترون اللهَ يسمعُ ما نقولُ ؟ وقال الآخر : يسمعُ ، إن جهَرنا . ولا يسمعُ ، إن أخفَينا . وقال الآخرُ : إن كان يسمعُ ، إذا جهرنا ، فهو يسمعُ إذا أخفَينا . فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ :  {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ }فصلت22  وفي هذا السياق المبارك دلالة على أن فساد الاعتقاد بصفات الرب وأسمائه يترتب عليه الخسارة والردى فلذا قال سبحانه في الآيتين بعدها  {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ .فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} ياحسرتا على من جهل عقيدته في الأسماء والصفات، ياخسارة من شك صفات ربه، أو التبس عليه علم الصالحين بربهم، والله أنهم مساكين تزلزل يقينهم بربهم فلم يتفيأوا ظلال القدس، ولم يتذوقوا لذة الأنس، فلك الحمد بما أنعمت علينا من معرفتك، يارب اجعل ألستنا وقلوبنا دائمة الدعاء لك بما ذكرته عن الصالحين قبلنا فأخبرتنا أنهم كانوا يقولون: { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أنا هدانا الله} وتفضل علينا بما تفضلت عليهم فتنادينا برحمتك وفضلك وإحسانك مثلما ناديتهم: { ونودوا أن تلكم الجنةُ أورثتموها بما كنتم تعملون}   بارك الله لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمد لله العلي الكبير العلاّم الخبير  وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11  وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أما بعد : فإن مما لا يخفى أن  لله سمعا يليق بعظمته وجلاله نثبت ذلك لله سبحانه من غير تحريف لمعناه ولا تشبيه بخلقه ولا تكييف لشكله وذاته كما قال جل جلاله عن ذاته العلية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11 

عباد الرحمن : وللإيمان باسم الله السميع واستشعاره آثار على المؤمن : فمن ذلك :

  • تعظيم الله وتوحيده وإجلاله ومحبته ، فربنا الخلاق  القدير السميع البصير العليم الخبير والحمد له سبحانه أن كنّا مسلمين نعبده وحده لا شريك له بينما أعداد كبيرة من البشر يعبدون أوثانا  {  يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً }مريم42
  • ومن آثار الإيمان باسم الله السميع العظيمة : الأنس بالله والتلذذ بذكره بل والإكثار من ذلك ، واستشعار حلاوة المناجاة ؛ فهو سبحانه وتعالى سميع الدعــــاء، فلُذ بربِّك والجأ إليـــــه بكثرة الدعــــاء .. وخذ بأسبـــاب الإجابة حتى يكون دعـــاءك أحرى للقبول إن شاء الله تعالى ، وادعُ ربَّك وأنت موقن بالإجـــابة، بقلب يقظ غير غـــافل، متحريًا ساعــــات إجـــابة الدعـــاء ؛ فالله هو السَّميع الَّذي يسمع المناجاة، ويُجيب الدُّعاء ، ويقبل الطَّاعة، وقد دعا الأنبِياء والصَّالحون بهذا الاسم؛ ليقبل منهم طاعتهم، ويستجيب لدعائهم، فإبراهيم وإسماعيل قالا: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، ودعا زكريا أن يرزُقَه الله ذرّيَّة صالحة: ﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]، فاستجاب الله دعاءه، ودعا يوسف – عليه السَّلام – أن يصرف عنه كيْدَ السُّوء؛ ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ .
  • ومن آثار امتلاء القلب باستحضار اسم الله السميع : لجم اللسان عن الآثام ؛ من الغيبة واللعن وفحش الكلام وغيرها فكلماتك يسمعها الله سبحانه ! نسأل الله كمال الإيمان والعصمة عن الآثام !
  • ومن آثار الإيمان باسم الله السميع : صلاة الليل وترتيل كلام الرحمن تأمل قوله تعالى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الشعراء 217 – 220
  • ومن آثار الإيمان باسم الله السميع : الحياء من الله أن يتلفظ العبد بالفحش والعصيان .
  • ومن آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم : الصدق عند الحديث واجتناب الكذب !
  • ومن آثار الإيمان باسم الله السميع واستحضاره : خفض الصوت عند الدعاء وزيادة اليقين ، فهذا زكريا نادى ربه نداء خفيا بعد أن شاخ وكبرت سنه فبُشّر بيحيى ، وهذا الخليل إبراهيم لم يرزق الذرية إلا على كِبَر،ونجى الله يوسف من كيد النسوة حين دعاه {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 
  • أكثر من الشكوى لربِّك السميع سبحـــانه ؛كما كان نبي الله يعقوب يقول {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ..} [يوسف: 86] ..
  • وكما كان حال إبراهيم عليه السلام {..إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة:114] .. أي: كثير التأوه، كهيئة المريض المتأوه من مرضه .. فكان كثير الشكاية والدعـــاء لربِّه، حَلِيمٌ بين الناس أي: ذو رحمة بالخلق، وصفح عما يصدر منهم إليه، من الزلات، لا يستفزه جهل الجاهلين، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه ..
  • فاشكُ حــالك إلى ربِّك السميـــع البصيـــر، الذي يسمع كلامك ويرى مكانك ويعلم سرك ونجـــواك.
  • أخي المسلم أختي المسلمة: إني أهمس لكما همسة ناصح، وأهديكما هدية مشفق أرجوا ذخرها يوم لقائه:
  • اسجدا سجدة من يستشعر بنظر الملك القريب، ممتلئاً قلبه بثقة كرمه وجوده، ومتيقناً بسماع مناجاته له، وتذكر أنه سبحانه ما أذن لك بالسجود إلا ليسمعك، ولا أدناك منه إلا لينفعك، فقد أذن لك ومنع غيرك، فلا ترفع رأسك من سجدتك إلا وقد بثثته ما يُحزنك، وشكوت له ما يقلقك، ونثرت له ما يُهمك، وتخشع وتذلل، واعلم أن أحب خلقه إليه، من أكثر له الشكوى، وألح في الدعوى، وصدق في النجوى، فكان جزاؤهم، أن أعطاهم أكثر مما سألوا، ومنحهم فوق ما أملوا ، وحماهم مما لم يعلموا، وأظلهم في كنفه، وأفاض عليهم من لطفه، وكساهم من نوره، وأسدل عليهم من ستره، فوهبهم ما رفعهم في العالمين، ونشر ذكرهم في الآخِرين.
  • اللهم أدركنا برحمتك، وثبتنا بقدرتك، وتفضل علينا بجودك، فإن جهلنا أردانا، وحلمك علينا أغرانا.
  • وصلوا وسلموا على الهادي البشير ...الخ

 

المشاهدات 1601 | التعليقات 0