زواج الأب بعد رحيل الأم...المشكلة والحل // د. عامر الهوشان

احمد ابوبكر
1435/04/24 - 2014/02/24 04:24AM
لا شك أن موت الأم حدث جلل ومصاب أليم وفاجع , يحدث ارتباكا كبيرا في البيت والأسرة , ويصيب الجميع بحالة من الذهول والحيرة في كيفية استيعاب الحدث أو قبوله , سواء بالنسبة للأب أو الأبناء على حد سواء .
أما الأب فقد افتقد بموت الأم زوجته وشريكة حياته ورفيقة دربه الطويل , إليها كان يفضي إذا اشتدت عليه الحوالك وادلهمت به الخطوب , وبها كان يستعين ويعول إذا انتابته مصيبة أو ألم به كرب أو حزن , فهي الأقرب إلى روحه ونفسه بعد أن اقترن بها بذلك العقد والميثاق الزوجي الإلهي المعجز , الذي قال الله تعالى عنه في محكم تنزيله : ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا )
وأما الأولاد فموت الأم بالنسبة لهم فقد للعطف والحنان الذي كان يغذي نفوسهم وقلوبهم , وانحسار للرعاية والعناية التي كانت تلاحقهم حتى في غرفة نومهم وعلى سررهم , وافتقار لليد الحانية التي كانت تلامس شغاف قلوبهم قبل أن تقع على رؤوسهم وأبدانهم , تلك اليد التي طالما مسحت دموعهم وخففت آلامهم , وطالما رفعت متضرعة داعية لهم آناء الليل وأطراف النهار , إنه باختصار فقدان لكل شيء يمت إلى الحب والعطف والحنان والرعاية بصلة , فكلمة الأم هي الكلمة التي تجمع في طيات حروفها القليلة جميع تلك المعاني العظيمة والجليلة .
ولكن إيمان الأسرة بالقضاء والقدر , ويقينهم أن الله تعالى لا يمكن أن يقضي بشيء إلا ويكون بين ثناياه الخير كل الخير , يخفف من وقع الحدث ويقلل من هول الفاجعة , ويجعل الأسرة تفيق من هول الصدمة وتصحو من أثر المصيبة , وتعلم أن الحياة لا بد أن تستمر , وأن ركب الأسرة لا بد أن يتابع المشوار , فهذا هو قانون الله تعالى الذي جعله ساريا على بني البشر في هذه الحياة الدنيا .
وبعد مدة من الزمان حيث يأخذ الحزن مداه ليصطدم أخيرا بواقع الحياة وصعوباتها التي لا تنتهي , يجد الأب نفسه قد أصبح مسؤولا عن تأمين المال اللازم للأولاد بالإضافة إلى رعاية شؤونهم وتدبير أمورهم داخل البيت , أضف إلى ذلك أعمال المنزل التي تحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل لا يملكه ولا يحسنه الأب عادة , ولا يمكن أن يقوم به على كل حال كما لو كانت الأم أوالمرأة هي من تقوم به , فهي الأقدر على ذلك لا حسب مهارتها واتقانها فحسب , بل حسب الطبيعة البشرية التي جعل الله تعالى فيها المرأة أقدر من الرجل على رعاية أمور البيت وتدبير شؤون الأطفال , والتي على أساسها كان التفريق بين الرجل والمرأة تفريق اختصاص لا انتقاص كما يقول العلماء .
عند هذه النقطة يبدأ الأب بالتفكير جديا بالزواج لمواصلة الحياة , وعندها فقط يمكن أن تظهر بعض المشكلات الاجتماعية والنفسية التي لا بد من مواجهتها وحلها بشكل سليم وصحيح , يتفق مع الأحكام الشرعية و ينسجم مع الحياة الاجتماعية ويراعي الحالة النفسية للأولاد .
بداية لا بد من القول : إن زواج الأب بعد وفاة الأم أمر شرعي دون أدنى شك , سواء كان الأولاد صغارا أم كبارا, بل ربما يكون واجبا إذا كان الأولاد صغارا ولا يمكن رعايتهم بشكل صحيح إلا بالزواج , وذلك طبعا بغض النظر عن السن الذي بلغه ذلك الأب الذي يريد الزواج , و دعك مما تبثه وسائل الإعلام على شاشات التلفاز , التي تظهر الأب الذي يريد الزواج بعد وفاة الأم – خاصة إن كان كبيرا في السن وأولاده قد بلغوا سن الشباب - كأنه يرتكب جريمة أو يقترف منكرا اجتماعيا كبيرا , بينما تظهر الرجل الذي يرتكب الفاحشة كل يوم دون أن يتزوج بمظهر المضطر الذي لم يرد جرح مشاعر أولاده بالزواج بعد أمهم , فالإعلام في معظم البلاد العربية والإسلامية علماني مسموم , لا يمت إلى الإسلام وقواعده وأحكامه بأي صلة .
ومن المؤكد أن المشكلات التي يمكن أن تظهر في زواج الأب بعد وفاة الأم تختلف بين حالة كون الأولاد ما زالوا صغارا لم يتجاوزوا السادسة أو السابعة من العمر , وبين كون الأولاد في سن المراهقة أو تجاوزوها .
أما في الحالة الأولى فلا بد للأب أن يحتضن الأولاد في المرحلة الأولى بعد وفاة الأم , وأن يقوم بدور الأب والأم معا , فيغمرهم بحنانه وعطفه ولو كان ذلك ليس بالأمر اليسير , لأن الأطفال في هذا السن كما يقول علماء النفس يتأثرون كثيرا بموت الأم خاصة في الأشهر الأولى , فإذا ما استطاع الأب تعويضهم عن ذلك الحنان في تلك المرحلة فإنها خطوة في غاية الأهمية للتمهيد للزواج بعد ذلك .
وبعد اجتياز هذه المرحلة لا بد للأب أن يختار الزوجة المقربة إلى نفوس الأولاد وقلوبهم , وذلك إما باختيار إحدى النساء القريبات اللواتي لهن محبة ومودة في نفوس أولاده , مما يعوضهم عن أمهم , أو بتقريب الزوجة المختارة إلى نفوس الأولاد بالتدريج ليكون الزواج بعد ذلك مقبولا ومباركا من الأولاد .
ولا شك أن الأب لا بد أن يتمتع بعد كل ذلك بقدر كبير من الحكمة والعقل للفصل في المنازعات التي يمكن أن تحدث بين زوجة الأب والأولاد , خاصة في بداية الزواج , فالطفل لا يقبل بسهولة أن تحتل امرأة مكان أمه , وكلما كان الطفل صغيرا كلما تسارعت عملية الانسجام مع الحالة الجديدة وزوجة الأب شيئا فشيئا , وفي كل الأحوال فما لا يدرك كله لا يترك جله , فإن لم تكن زوجة الأب مكان الأم , فلا أقل من المودة والمحبة والانجذاب إليها بما يحقق استقرار البيت وسكينته .
أما المشكلة الأكبر فتكمن فيما إذا كان الأولاد قد بلغوا سن المراهقة أو تجاوزوها , ففي هذه المرحلة الخطيرة من العمر , يصعب على الأب اقناع الأولاد بمسألة الزواج لعدة أسباب وعوامل أهمها :
1- العامل النفسي الذي يلعب دورا كبيرا في رفض الأولاد لوجود امرأة أخرى تحل مكان أمهم في البيت , على اعتبار أنهم المدافعين عن حقوق أمهم بعد موتها , بحكم أنهم لم يعودوا صغارا ولا يمكن الضحك عليهم ببعض الكلمات كالأولاد الصغار , فقد بلغوا من السن ما يكفي للتصدي لأي محاولة من هذا النوع من قبل الأب .
2- العامل الفكري المتمثل في الصورة النفسية والاجتماعية القاتمة والقبيحة لزوجة الأب التي رسمت في أذهان الأولاد بشكل عام , وذلك من خلال وصفها دائما بالقسوة و الأنانية والاستحواذ على الأب وحرمان الأبناء منه وقد قامت جميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بطبع هذه الصورة في أذهان الناس , حتى غدت كأنها كتاب منزل أو عقيدة مقدسة لا يمكن أن تتغير او تتبدل .
وأمام هذه العوائق لا بد من اتباع خطوات فعالة ومتسلسلة للوصول بالزواج والبيت إلى بر الأمان , ولعل جميع هذه الخطوات تقع على الأب الذي ينبغي أن لا يتخذ قرار الزواج دون مراعاتها وتطبيقها , تجنبا من الوقوع في متاهات العراك مع الأولاد التي لا يمكن أن تأتي بنتيجة , حتى ولو تم الزواج , لأن الأولاد ببساطة شديدة يمكن أن يحولوا هذا الزواج إلى جحيم لا يطاق عبر اختلاق المشكلات مع زوجة الأب , والتي تجعل الأب في النهاية يقع في حيرة بين أولاده من جهة وزوجته من جهة أخرى , وبالتالي يعيش في دوامة المشاكل التي لا تنتهي , ويكون الجو الأسري سيئا وغير صحي , ولعل من أهم الخطوات التي تقي من ذلك :
1- مد جسور المودة والمحبة بل والصداقة بين الأب وأولاده , من خلال التقرب منهم أكثر , ومناقشتهم ومحاورتهم في كثير من القضايا الاجتماعية والحياتية , والتمهيد الممنهج والمتدرج لصعوبة الحياة دون امرأة ترعى شؤون البيت والمنزل , لتكوين أرضية سليمة لتقبل الزواج فيما بعد .
2- حسن الاختيار لزوجة الأب لا على مستوى الدين والأخلاق فحسب , بل على المستوى الاجتماعي المناسب للبيت والأولاد , فالمرأة القريبة المحببة للأولاد أفضل من البعيدة , والمرأة التي تستطيع استيعاب الأولاد وتربيتهم كأن تكون ثيبا مثلا , أفضل من البكر الصغيرة التي ربما لا تحسن التعامل مع زوجها فضلا من أن تستطيع التعامل مع أولاده .
ولنا في قصة زواج الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه خير مثال على ذلك , فقد كان شابا في مقتبل العمر , ورث عن والده الشهيد سبعة من البنات , فاختار لهن امرأة ثيبا ترعاهن كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده ( ثم قال لي يا جابر : هل تزوجت بعد؟ قلت : نعم يا رسول الله , قال : أثيبا أم بكرا ؟ قلت : بل ثيبا , قال : أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك , قلت يا رسول الله : إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن وتقوم عليهن , قال : أصبت إن شاء الله )
فإذا كان الشاب الأعزب حديث السن اختار لنفسه زوجة ثيبا تستطيع جمع أخواته السبع وتربيتهن , وقد صوب الرسول صلى الله عليه وسلم فعله , فمن باب أولى أن يقوم الرجل الذي ماتت زوجته وله أولاد باختيار الزوجة المناسبة التي ترعى أولاده وتحسن إليهم .
3- أن يتمتع الأب بكثير من الحكمة والصبر , ليكون بذلك حلقة الوصل بين زوجته وأولاده , فلا هو يهدر حقوق أولاده , ولا هو يهضم حقوق زوجته , ولا بد أن يدرك أن مهمة زوجة الأب في نسج علاقة طيبة حسنة مع أولاده الذين بلغوا قدرا من البلوغ والنضج ليس بالأمر السهل , فعادة ما تتقدم الزوجة ويتأخرالأولاد , وعادة ما يكون الوصول إلى مودتهم ومحبتهم ليس بالأمر اليسير كما لو كان الأولاد أصغر سنا , فإذا أضفنا لذلك واجبات الزوجة تجاه الزوج والبيت فإن الأمر يزداد صعوبة وتعقيدا , مما يحتم على الأب أن يدعم الجانب النفسي لدى الزوجة من خلال حثها على الصبر والمصابرة للوصول إلى الهدف المنشود .
أخيرا لا بد من التنويه إلى أمر في غاية الخطورة , ولعله السبب الذي اضطرنا إلى كتابة هذه الكلمات وخوض هذا الموضوع , ألا وهو موضوع البيئة الثقافة الدينية الصحيحة لدى الأولاد بشكل خاص ولدى المجتمع بشكل عام , وإبعادهم عن مصادر التشويش والتخريب التي يمكن أن تعبث بها , خاصة المسلسلات والأفلام على وسائل الإعلام كافة .
لقد كان الرجل في عصور خلت ليست بعيدة - حيث البيئة الإسلامية والتربية الصحيحة - إذا ماتت زوجته تزوج من غيرها دون كل هذا العناء مع الأولاد , ودون كل هذه المقدمات والتمهيدات , وما مرد ذلك إلا لتلك البيئة والثقافة الإسلامية التي كانت سائدة , والتي ترى في الزواج أمرا طبيعيا يحتاجه كل رجل يفققد زوجته بغض النظر عن سنه وعمره , فالزواج ليس للرغبة الجنسية فحسب , كما أراد الغرب أن يصوره في أذهان شباب الأمة اليوم , بل حاجة نفسية اجتماعية فطرية كما أرادها الله تعالى , ما دام هذا الزواج في حدود الشريعة والدين .
أما في عصرنا الحاضرفقد شوهت صورة الزواج وحصرت غايته بالمتعة والشهوة , وشوهت صورة زوجة الأب لتصبح المرأة صاحبة القلب القاسي التي تريد أن تظلم الأولاد , وتأخذ الأب منهم , ولقد لعبت وسائل الإعلام دورا كبيرا وخطيرا في هذا الامر, مما جعل من أمر الزواج بعد موت الأم أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد , فهل يعي الأباء حجم التأثير الخطير والكبير لوسائل الإعلام على أبنائنا وبناتنا ؟!!!
المشاهدات 1068 | التعليقات 0