زلزال المغرب وإعصار ليبيا، من التالي؟!

راكان المغربي
1445/02/29 - 2023/09/14 16:31PM

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

بينما الإنسانُ يسير في هذه الدنيا آمنا مطمئنا، يلهو بمتاعه، ويأنسُ بأهله وأولاده، ويتلذّذُ بطعامه وشرابه، ويسرحُ في أفكاره وأحلامه؛ إذ يأذن الله للأرض أن تضطربَ وتمورَ، وتتحركَ وتتزلزل. أو يأمرُ السماء أن تفتحَ أبوابَها بماءٍ منهمر، يغمرُ الأرض، ويُهدِّمُ السدود. فيصحو الناسُ على أرضٍ متصدعةٍ تلتهمُ البيوتَ وساكنيها، أو على سيلٍ جارفٍ متدفقٍ يُغرقُ ويدمّرُ كلَّ شيءٍ بأمر ربه.

وهكذا في لحظة واحدة انقلب الأمان والاطمئنان إلى موت عام بالهدم أو الغرق، والناجون بين ناج تحت الركام والأنقاض يئن ينادي المعين والمغيث، وبين من هو ناجٍ مسلّم، ولكن نجا بعد هولِ الصدمة وفاجعةِ المصيبة وفقدِ القريب والحبيب، فالدنيا في عينه قد أصبحت مظلمةً مسودةً.

هذا هو حال الدنيا!

بينما أنت متعلقٌ فيها بكلِّ أطرافِك، متشبثٌ فيها بطولِ آمالك ، إذا بها تغدرُ بك في طرفة عين، (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)

 

معاشر المؤمنين

سمعنا وشاهدنا جميعا في نشرات الأخبار ومواقع التواصل، ذلكم الزلزالَ المدمرَ الذي وقع في بلادِ المغرب، وسمعنا وشاهدنا أيضا ذلكم الإعصارَ الشديدَ الذي ضرب بلادَ ليبيا.

زلالٌ وإعصارٌ حدثت بسببهما الكثيرُ من المآسي والآلام والمعاناة لأهل تلك البلاد، بل ولنا جميعا.

ومع تلك الكوارثِ العظيمةِ لنا عدةُ وقفات:

الوقفة الأولى: أن هذه الدنيا هي دارُ امتحانٍ وابتلاءٍ، فهي لا تصفو لأحد، فكل من فيها مبتلىً وممتحن، فتارةً تبتلى بالخير، وتارةً أخرى تبتلى بالشر (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

هذا أمرٌ قد حكم اللهُ فيه وقضاه، إذا جاءك فلا تملكُ ردَّه ولا منعَه، لا أنتَ ولا كلُّ أهلِ الأرض مجتمعين معك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتَمَعَت على أنْ يَنفَعوك بشَيءٍ، لم يَنفَعوك إلَّا بشَيءٍ قدْ كَتَبَه اللهُ لك، ولو اجتَمَعوا على أنْ يَضُرُّوكَ بشَيءٍ، لم يَضُرُّوك إلَّا بشَيءٍ قدْ كَتَبَه اللهُ عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

الناسُ في الابتلاء بين خيارين، إما أن يعترضَ الإنسان ويتسخط، فلن يمنع ذلك السخطُ أمراً قدره الله عليه، وسيكونُ حينها راسبا في الامتحان، وسيرى عاقبةَ رسوبه ذاك عاجلا وآجلا إن لم يتداركْه اللهُ برحمته.

وإما أن يصبرَ على البلاء فينجحَ في الامتحان، ويكونُ لك ذلك البلاءُ طهرا من الذنوب، ورفعة في الدرجات، وانشراحا في الصدر وطمأنينة، قال الله سبحانه مبشرا هذا الصنف من الناس: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

ولذلك فيجب على الإنسان أن يوطنَ نفسه على الإيمان والصبر، وأن يتعرفَ على الله في الرخاء، حتى يعرفَه الله في الشدَّة، فيثبتَه ويعينَه على تحمّل البلاء.

العواصفُ والأعاصيرُ والزلازلُ يمكن أن تدمرَ كل ممتلكاتِ البشر، إلا جبالَ الإيمانِ فإن كلَّ مصائبَ الدنيا لا تقوى على هزها، بل تزيدها قوةً ورسوخا، قال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).

إيمانُك هو رأسُ مالك، وأغلى ممتلكاتك، فليكنْ له النصيبُ الأكبرُ من الحرص، والحظُّ الأعلى من الاستثمار، فهو الباقي وغيره الفاني، وهو الأملُ وغيره سيصبح هشيماً تذروه الرياح عاجلا أو آجلا.

 

الوقفة الثانية: لا بد أن نعلمَ أن كلَّ فسادٍ يحصل في البر والبحر، إنما هو بسبب ذنوب بني آدم، كما قال سبحانه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، وقال سبحانه: (وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم مِّن مُّصِیبَةࣲ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲ)، وهذه المصائب هي في حقّ أهل الإيمان طهرةٌ من الذنوب ورفعةٌ في الدرجات، وفي حق أهل الكفر والفجور عقوبةٌ وسخطٌ. والمؤمن الحق لا يزكّي نفسه، بل يعترف بذنوبه، ويتضرع إلى ربه، ويرجع إليه، ويعلم أن الله سبحانه إنما أرسل هذه الآياتِ ليخوّف بها عبادَه. قال سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).

"زُلْزِلَتِ الْمَدِينَةُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَا هَذَا؟ مَا أَسْرَعَ مَا أَحْدَثْتُمْ، لَئِنْ عَادَتْ لَا أُسَاكِنُكُمْ فِيهَا"

وأما قساةُ القلوب فلا تزيدُهم تلك الآياتُ والكوارثُ إلا عنادا وتمردا. قال سبحانه عن مثل هؤلاء: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وبذلك يكون في تلك المصائبِ والبلايا خيرٌ عظيم للمؤمن، وشرٌ مستطيرٌ للكافر والفاجر. قال صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له).

 

الوقفة الثالثة:

قبل عدّةِ أشهرٍ كان هناك زلزالُ تركيا وسوريا، وفي الأيام القليلة الماضية حصل زلزالُ المغرب، ثم بعده بأيامٍ وقعت فاجعةُ إعصار ليبيا. والسؤال الذي ينبغي أن نسأله لأنفسنا: من سيكون التالي؟

يا ترى هل سيكون الدور علينا؟

ولم لا يكون ذلك؟ هل لدينا ضمانٌ من الله بأننا في عفوٍ من عقوبته؟ ألسنا واقعون في كثيرٍ من المجاهرة بالذنوب والمبارزةِ بالعصيان؟

إذا فلماذا نأمنُ مكر الله؟! (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ).

فإذا أردنا أن ندفعَ عنا سخطَ الله وغضبَه، وأن نجتنبَ عاجل عقوبته، فلنسترضه ولنرجع إليه، وذلك يكونُ بعدة أمور:

منها الاستغفار والتوبة من كافة الذنوب صغيرها وكبيرها، قال سبحانه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). وقال عليٌّ رضي الله عنه: "ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفعَ إلا بالتوبة". فتوبوا إلى الله واستغفروه حتى لا يحل عليكم البلاء.

ومما يجنبنا العقوباتِ أن نتضرعَ إلى الله ونتذللَ له، ونخضعَ لطاعته، ونصدق في اللجوء إليه أن يجنبَنا سخطه، ويحل علينا رضوانَه، قال سبحانه: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)

ومما يجنبنا العقوبات، أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فانتشار المنكرات من أعظم أسباب العقوبات، قال أبوبكر الصديق رضي الله عنه: "إنَّا سمِعنا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: (إنَّ النَّاسَ إذا رأَوُا الظَّالمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقابٍ) وإنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: (ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا، ثمَّ لا يُغيِّروا إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ). فانشروا الخير وانهوا عن الشر وأصلحوا ما استطعتم (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

الوقفة الرابعة:

المؤمنون على اختلافِ أجناسهم، وتفرقِ بلدانهم، هم أصحابُ كتلةٍ واحدة، ومصيرٍ مشترك، إذا صاح المؤمنُ في الغرب سمع صداه أخوه في الشرق، وإذا استغاث المؤمن في الشمال، لبى نداءَه أخوه في الجنوب.

وصفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجسد الواحد فقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، ووصفهم بالبنيان الذي لا يشتدُّ ولا يقومُ إلا إذا التأَمت لبناتُه بعضها ببعض، قال صلى الله عليه وسلم: (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ بيْنَ أَصَابِعِهِ.

وإن من واجب إخواننا تجاهَهم أن نمدَّهم بما نستطيع، فهم والله في أشد الحاجة لضروريات الحياة، فقد أصبح أهلُ مدنٍ كثيرةٍ في مساحات واسعة من الأرض، بلا سكنٍ ولا مأوى، ولا طعامٍ ولا شراب، ولا كسوةٍ ولا مال، فمن لهم بعد الله إلا نحن إخوتَهم في الدين؟!

ولئن ابتلاهم الله وامتحنهم بالزلزال والإعصار، فقد ابتلانا الله في امتحان إغاثتهم وإعانتهم بما نستطيع، فمدوا إخوانكم ما استطعتم بالمساهمة في الحملات الرسمية، والجهات الموثوقة.

اللهَ اللهَ في إعانة الضعيف، اللهَ اللهَ في إغاثة المنكوبين (من نفَّسَ عن مسلِمٍ كُربةً من كُرَبِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كُربةً من كُرَبِ الآخرةِ ، ومن سترَ علَى مسلمٍ سترَهُ اللَّهُ في الدُّنيا والآخرةِ واللَّهُ في عونِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أخيهِ)

 

اللهم كن لإخواننا المنكوبين المكلومين، اللهم اقبلْ مَن ماتَ منهم شهيدًا، واشفِ مريضَهم، وأعد طريدَهم، وسكنْ رعبَ خائفِهم.

اللهم أيقظْ قلوبَنا من غفلتِها، وارزُقْنا خوفًا عن المعاصيْ يردَعُنا، وإقبالاً للتوبة يدفَعُنا ويرفَعُنا.

اللَّهُمَّ لاَ تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ.

 

 

المرفقات

1694698272_زلزال المغرب وإعصار ليبيا، من التالي؟!.docx

1694698273_زلزال المغرب وإعصار ليبيا، من التالي؟!.pdf

المشاهدات 3020 | التعليقات 0