زكاة المال وفريضة المتعال
عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المسلمين: لقد جعل الله -تعالى- لدين الإسلام أعمدة وأركانا يقوم عليها ولا يصح إلا بها؛ وقد جاءت نصوص الشريعة ببيان ذلك والتأكيد عليه؛ ومن ذلك حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بُني الإسلامُ على خمسٍ، شهادةِ أن لا إله إلا اللهُ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والحجِّ، وصيامِ رمضانَ"؛ فهذه هي أركان الإسلام ومبانيه العظام؛ وسيكون حديثنا في هذا المقام عن الركن الثالث من أركان الإسلام؛ ألا وهو ركن الزكاة.
والزكاة -أيها الكرام- تعني؛ النماء والزيادة، وسميت بذلك؛ لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه، وتقيه الآفات.
وقد عرَّف الشرع الحكيم الزكاة بأنها؛ إخراج مال مخصوص بقدر مخصوص لأناس مخصوصين، أي إخراج الزكاة للمال الذي استوفى شروط الوجوب، بقدر معين.
وسماها الشرع في بعض المواضع في القرآن والسنة بالصدقة؛ كما في قوله -تعالى-: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)[التوبة: 103]، وفي الحديث الصحيح قول النبي -صلى اللّه عليه وسلم- لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: "أعْلِمْهُم أن اللّه افترض عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم"(رواه البخاري ومسلم).
وللزكاة مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة في دين الإسلام؛ فهي أحد أركان الإسلام التي بني عليها؛ وكان النبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم- يبايع أصحابه على أدائها؛ كما روى جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- فقال: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"(رواه البخاري ومسلم)؛ بل إن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر أن يقاتل ما نعيها؛ جاء من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله،وأنّ محمدًا رسول الله, ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" (رواه البخاري ومسلم).
أيها المسلمون: وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة تؤكد على وجوب الزكاة؛ كما في قوله -سبحانه-: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)[البقرة: 43]، وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "بعث معاذا -رضي الله عنه- إلى اليمن فقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم"، ونصوص الكتاب والسنة كثيرة في وجوب الزكاة والأمر بها، ولقد أجمع سلف الأمة على وجوب الزكاة.
ولم تفرض الزكاة إلا لحِكم جليلة ومقاصد عظيمة؛ فمن ذلك: امتثال أمر الله وتحقيق العبودية له -عز وجل-، وإغناء الفقراء عن ذل الحاجة والسؤال، وتحقيق التكافل الاجتماعي؛ فالزكاة يسد بها حاجات الفقراء وتخفف من معاناتهم وتذهب الكراهية والحسد والبغضاء بين المسلمين، وتورث المحبة والرحمة والمودة في قلوبهم؛ كما أخبر نبينا الكريم -عليه أطيب الصلاة وأزكى التسليم-؛ فقال: "مَثلُ المؤمنينَ في تَوادِّهم، وتَعاطُفِهم، وتَراحُمِهم، مَثلُ الجَسدِ، إذا اشتَكى منه عُضوٌ تَداعى سائرُ الجَسدِ بالسَّهرِ والحُمّى"(رواه البخاري ومسلم)؛ ولو أخرج الأغنياء زكاة أموالهم ما بقي على الأرض فقير.
إخوة الإيمان: تلك حقيقة الزكاة وحكمها ومقاصدها؛ أما ثمارها الباسقة وآثارها النافعة فكثيرة؛ فمن ذلك:
أن من أدى الزكاة طيبة بها نفسه؛ ذاق طعم الإيمان؛ كما جاء في حديث عبد الله بن معاوية الغاضري -رضي الله عنه-: "ثلاثٌ مَن فعلَهنَّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمانِ: مَن عبدَ اللهَ وحدَه وشَهِدَ أن لا إلَه إلّا هوَ، وأعطى زَكاةَ مالِه طَيِّبةً بِها نفسُه كلَّ عامٍ، ولم يُعطِ المريضةَ ولا الهَرِمَةَ ولا الشُّرَطَ اللَّئيمَةَ"(ابن حجر والطبراني).
ومن ثمار الزكاة وآثارها: أن فيها تزكية لنفس المزكي وتطهير لماله؛ كما في قول الحق -تبارك و-تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)[التوبة: 103]، كما أن فيها تزكية لنفس الفقير وتطهرها من الحسد والكراهية وإعفافه عن التطلع إلى ما في أيدي الناس.
ومن ثمارها: أنها سبب لنيل رحمة الله القائل: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف:156]، والقائل: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[النور:56].
ومن ثمار الزكاة وآثارها: أنها تكون سببا في دخول صاحبها الجنة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم-: "خمسٌ مَن جاءَ بهنَّ مع إيمانٍ؛ دخل الجنَّةَ: من حافظَ على الصَّلواتِ الخمْسِ: على وضوئِهنَّ وركوعهنَّ وسجودِهنَّ ومواقيتِهنَّ، وصامَ رمضان، وحجَّ البيتَ إنِ استطاعَ إليه سبيلًا، وأعطى الزَّكاةَ طيِّبةً بها نفسُه"(صححه الألباني).
ومن ثمار الزكاة وآثارها على صاحبها: بلوغ درجة الصديقين والشهداء؛ جاء رجلٌ من قُضاعةَ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنِّي شهِدْتُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ وأنّك رسولُ اللهِ وصلَّيْتُ الصَّلواتِ الخمسَ وصُمْتُ رمضانَ وقته وآتَيْتُ الزَّكاةَ فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَن مات على هذا كان من الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ"(أخرجه أحمد).
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول قولي هذا؛ فاستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: لسائل أن يسأل عن الأصناف اللذين أوجب الله لهم زكاة المال؟ والأصناف اللذين حرمها عليهم؟
فأما الأصناف اللذين أوجبها الله لهم فقد ذكرهم -جل في عليائه- في قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)[التوبة:60].
وأما الأصناف اللذين لا يجوز دفع الزكاة إليهم؛ بإجماع أهل العلم والدراية فهم الأصناف الآتية:
الكفار والملاحدة الذين لا يحرمون ما حرم الله ولا يحلون ما أحل الله، ويدل على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ"، والمراد هنا بالمسلمين دون غيرهم، ولو قال وترد على الفقراء لكانت مطلقة.
ومن الأصناف اللذين تحرم عليهم الزكاة: الأغنياء ومن تجب على المزكي نفقته؛ كالزوجة والأبناء والأبوين المعسرين والعبد وغيرهم.
وتحرم الزكاة على بني هاشم: فقد أخبر النبي الكريم بأن الزكاة لا تحل لهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس"(رواه مسلم)، وظاهر الحديث أنه لا يجوز لأحد من بني هاشم أن يأخذ من الصدقة الواجبة، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما علمت أن آل محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يأكلون الصدقة" (رواه البخاري ومسلم).
وأما صدقات التطوع؛ فلا حرج عليهم من أخذها، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إنهم لا يعطون من الصدقة المفروضة؛ فأما التطوع فلا"، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أنه يجوز لبني هاشم إذا كانوا مضطرين ولم يأخذوا نصيبهم من الغنائم أن يأخذوا من الزكاة المفروضة لدفع ضرورتهم".
أيها المؤمنون: تلكم -بعضا- مما ينبغي على المسلم معرفته من أحكام ركن الزكاة المتين الذي يقوم عليه الدين؛ فعلى المسلم أن يؤدي زكاة ماله الذي بلغ النصاب، وأن يحذر من البخل بأدائها والامتناع عن إيصالها إلى من أوجبها الله -تعالى- لهم؛ فإن من امتنع عن ذلك فقد تُوعِدَ بنار الجحيم والعذاب الأليم؛ كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحَت له صفائح من نار، فأُحْميَ عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره؛ كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقْضَى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"؛ ولو امتنع قوم عن أدائها مع اعتقادهم وجوبها وكانت لهم قوة ومنعة فإنهم يقاتلون عليها حتى يعطوها.
أيها المسلمون: أدوا زكاة أموالكم تغنموا وأطيعوا أمر ربكم تسعدوا، واتبعوا سنة نبيكم تسلموا واحيوا على ما كان عليه تنعموا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
وصلوا وسلموا على أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكَّرون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.