زكاة الفطر وسنن العيد

محمد بن إبراهيم النعيم
1438/09/27 - 2017/06/22 02:49AM
الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الأخوة في الله

ها هو شهر رمضان قد تصرمت أيامه، وآن رحيله، ليكون شاهد علينا بما أودعناه من الأعمال، فمن أودعه خيرًا فليحمد الله وليزدد من الصالحات، ومن أودعه غير ذلك فليراجع نفسه، وليخف ذنبه وتقصيره.
كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني ونبارك لبعضنا بدخول شهر رمضان، وها نحن اليوم على مشارف وداعه وفراقه، فلنغتنم ما بقي من ساعات هذا الشهر المبارك، فما بقي منه إلا القليل، فلنصرف ساعات هذه الأيام بتلاوة القرآن ولنقم بقية لياليه، فلعلك تحظى بليلة القدر.
فهو ضيف كريم قارب الانتهاء والارتحال، وسيكون شاهدًا لنا أو علينا بما أودعناه من الأعمال، فابتدروا ما بقي منه بصالح الأعمال والتوبة والاستغفار؛ لعل ذلك يجبر ما حصل من تفريط وإهمال.
أيها الأخوة في الله، لقد شرع لنا ربنا عز وجل في ختام هذا الشهر عبادات جليلة، يزداد بها إيماننا وتكمل بها عباداتنا، هي زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد.

أما زكاة الفطر فقد أشار القرآن الكريم إليها بقوله قد افلح من تزكى، وكان أهل المدينة لا يرون صدقة خيرا منها ومن سقي الماء.
أما حكمها؛ فهي فرض على كل مسلم، صغير أو كبير، مواطن أو وافد، عاقل أو مجنون، أو ممن أصابه الخرف، حتى الفقير إذا كان عنده ما يزيد على قوت أسرته، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "فرض زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" رواه الترمذي.
ولا تُخرج عن الكافر سواء كان خادمة أو سائقا، ويفضل لمن استقل عن والده بسكن أو دخل أن يخرج زكاة الفطر من ماله الخاص، وإذا أراد غير ذلك فلا حرج أن يخرجها والده عنه.

ومن كان لديه عمالة مسلمة فليذكرهم بزكاة الفطر لأنهم قد يجهلونها، ومن كان لديه سائق مسلم وإعاشته على كفيله، فيلزم الكفيل بأن يخرج عنه زكاة الفطر.

وأما الحكمة من زكاة الفطر فهي طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله –صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود.

وأما جنسها فهي من طعام أهل البلد لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فرضها من جنس ما كانوا يأكلونه.

ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال: كنا نعطيها " يعني صدقة الفطر " في زمان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب.
وأما مقدارها فصاع عن كل فرد، والصاع يقدر بحوالي كيلوين ونصفًا تقريبًا، ويجوز الزيادة على الصاع تطوعا لمن أراد؛ لأنه لصالح الفقير.

وأفضل وقت لإخراجها بعد غروب شمس ليلة العيد، ويجوز إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وتدفع لمستحقيها من أصناف الزكاة الثمانية، وأولاهم الفقراء والمساكين.

فطيبوا بها نفسًا، وأخرجوها من جنس ما تأكلون من الأرز، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا ممّا تحبون، ومن لا يعرف الفقراء فليوكل غيره أو جمعية البر، ومن أراد أن يعطيها عمال النظافة فليتأكد إن كان مسلما، لأنه لا يجوز إعطائها لكافر.

ولا يلزم إخراجها من الأرز الموجود في البيت، وإنما يجوز شراءها من السوق، ولا يشرع قراءة الفاتحة عليها كما تفعل بعض النساء العوام.

ويجوز للمرء أن يوزع الفطرة الواحدة على عدة فقراء، وأن يعطي الفقير الواحد أكثر من فطرة ؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قدَّر الفطرة بصاع ولم يبين قدر من يُعطى، فدلّ على أن الأمر واسع، بينما كفارة اليمين يلزم فيها إطعام عشرة مساكين، ولذلك يجوز لأسرة مكونة من أربعة أفراد شراء كيس أرز وزنه عشر كيلو جرامات كزكاة فطر ويعطونه فقيرا واحدا.

ويستحب إخراج زكاة الفطر عن الحمل الذي في البطن، والواجب أن تصلَ إلى الفقير أو وكيله في وقتها، لا أن توضع عند الجيران ظنا أن ذلك تبرأ به الذمة، ويجوز للفقير أن يوكّل شخصًا في قبض ما يُدفع إليه من زكاة، فإذا وصلت الزكاة إلى يد الوكيل فكأنها وصلت إلى يد موكّله، فإذا كنت تُحبّ أن تدفع زكاة فطرك لشخص معين وأنت تخشى أن لا تراه وقت إخراجها؛ فمره أن يوكّل أحدًا يقبضها منك أو يوكّلك أنت في القبض له من نفسك، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخّرها أحد عن الصلاة بغير عذر لم تقبل منه؛ وكانت صدقة من الصدقات.

ويجوز للوافد أن يتصل بأقاربه كي يخرجوا عنه زكاة الفطر، وإن كان الأفضل أن يخرجها في البلد الذي هو فيه.

ولا ينبغي إخراج القيمة، لأن ذلك لم يرد عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه، وقد كان في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- الدراهم والدنانير، ومع ذلك أمر بإخراجها صاعا من طعام، وقد يقول قائل أن الفقراء عندنا يحتاجون إلى النقود أكثر من حاجتهم إلى الطعام لشراء حاجات العيد، فنقول لهم: من رأيته محتاجا إلى المال، فقدم له من زكاة مالك، وأما زكاة الفطر فينبغي أن تبقى طعاما، فإن لله في ذلك حكم قد لا ندركها، ومن جانب آخر فإن المحافظة على إخراج زكاة الفطر طعاما؛ فيه إحياء لأحد المكاييل الشرعية وهو الصاع النبوي الذي بات يجهله كثير من الناس، علما بأن هذا المكيال قد دعا له النبي –صلى الله عليه وسلم- بالبركة، ودعاءُ النبي –صلى الله عليه وسلم- مستجاب لا محالة، فقد روى أبو سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا واجعل مع البركة بركتين) رواه مسلم.

لقد نشر الاستعمار حضارته وتقاليده وموازينه في البلاد التي استعمرها، ولكن المسلمين تقاعسوا عن نشر حضارتهم وتعاليم دينهم، إنك تجد كل دولة من الدول الصناعية لها مقاييسها وموازينها الخاصة التي تعتز بها؛ وتسعى إلى نشرها وتأبى أن تستخدم موازين غيرها، فالولايات المتحدة الأمريكية لها مقياس الرطل أو (الباوند) والجالون الأمريكي، وفرنسا لها مثل ذلك كالمتر والكيلو، وبريطانيا لها مثل ذلك كالقدم واليارد، والغريب أن هذه الدول تأبى أن تتنصل عن موازينها، بينما المسلمون يتغربون عن دينهم وموازينهم، ويرون الكفاية في غيره، وإنما وفر لنا ديننا ما يغنينا ويميز شخصيتنا أمام الحضارات الأخرى حتى في الموازين والمكاييل، لا سيما أن هذه الموازين فيها بركة محققة بفضل دعاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فنحن نتمنى أن لو ينتشر استخدام الصاع في أوساطنا المحلية ولو على نية المحافظة على التراث، فإن شيوع الصاع النبوي في أسواق المسلمين وفي بلاد المسلمين، سيتيح أن يعرفه الناس؛ صغيرهم وكبيرهم، ويرونه بأعينهم، ويتداولونه فيما بينهم، بل ويستخدموه بأنفسهم في كيل زكوات فطرهم وكفارات أيمانهم وغير ذلك، فإننا لا نزال نرى الناس، يسألون العلماء بين فترة وأخرى، عن مقدار الصاع بالكيلوجرام من الأرز وغيره، إذا أرادوا أداء كفارة يمين أو إخراج زكاة فطر، فلماذا نبقى على هذا الجهل، ولا نستخدم مكاييل هي من تراثنا، بل ودعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لها بالبركة؟ وأين المحافظون على التراث، فلماذا لا ينادون بإحياء مثل هذا التراث؟ لذلك أرى أننا إذا أخرجنا زكاة الفطر نقودا نكون قد شاركنا وسعينا في طمس الصاع النبوي.

فلنحافظ على هذه السنة، ولنخرجها طعاما، ليبقى الصاع النبوي متداولا في أوساط المسلمين.

اسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح القول والعمل، وأن يعصمنا من الزلل، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البيان والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر الأمة من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي بَيَّنَ لنا طرق النجاة وحذرنا من طرق الغيّ والهلكات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا .
أمّا بعد ، فاتّقوا الله حقَّ التّقوى؛ واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، فلنجتهِد في ختامِ شهرنا بالإكثار من الاستغفار يُغفَر لنا ما اقترفنا من خللٍ وتقصير، ومَن أَحْسَنَ وأصلح فيما بقي، غُفر له ما قد سلف، ومن داوم على التقصير أُخِذ بما مضى وبما بقي.

أيها الأخوة ومن العبادات التي ستكون في آخر هذا الشهر: التكبير ليلة العيد إلى صلاة العيد، وصفته: (الله أكبر، الله أكبر)، لا إله إلا الله، (الله أكبر، الله أكبر)، ولله الحمد، وذلك في المساجد والأسواق والبيوت وغيرها، يجهر بها الرجال ويسرّ بها النساء، وهذه السنة قد أميتت عند كثير من الناس.
فإذا ذهبتم إلى المصلى فلا تبقوا صامتين، ولا تنشغلوا بالاستغفار ولا بقراءة القرآن، وإنما المشروع هو الإكثار من التكبير؛ لأنه سنة مرتبطة بهذا الوقت بالذات، فإذا دخل الإمام تنتهي هذه السُنّة، فزينوا يا عباد الله أعيادكم بالتكبير.
ولقد أمر الله تعالى بهذا التكبير في كتابه الكريم فقال: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: على ما وفّقكم له من الصيام والقيام، وغيرهما من الطاعات في هذا الشهر.

فكبروا من غروب شمس ليلة العيد إلى وقت صلاة العيد، فأحيوا هذه السنة، فقد قال –صلى الله عليه وسلم- (مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيْئًا) رواه ابن ماجه.

وأما صلاة العيد فقد أمر بها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الرجال والنساء والكبار والصغار حتى النساء الحيض، أمرهن بالحضور وأن يعتزلن المصلى ليسمعن الخطبة والتأمين على الدعاء، وأمر –صلى الله عليه وسلم- أن تخرج النساء غير متجملات ولا متطيبات، فقد روت أمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالأَضْحَى، الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَانَا لا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: (لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا) متفق عليه. والعواتق هن البنات البالغات.

والسنة أن يخرج المرء إلى صلاة العيد مفطرا غير صائم، ويستحب أن يأكل قبل خروجه إلى الصلاة تمرات وترًا، وأن يذهب من طريق ويعود من طريق آخر.

اللهم اجعلنا عندك من المقبولين، ولا تردنا خائبين، واختم بالصالحات أعمالنا. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، ا
المشاهدات 722 | التعليقات 0