رمْيُ الأطعمةِ؛ إسرافٌ وإيذاءٌ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1442/04/24 - 2020/12/09 10:57AM

الحمد للهِ مُسْبِغِ النعمِ، ودافعِ النِّقَمِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحليمُ ذو الجودِ والكرمِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله المبعوثُ للعربِ والعجمِ، صلى الله وسلم عليه وعلى آلهِ أهلِ الفضلِ والشيَمِ، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ بعثِ الرِّمَم. أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فقد قال جلّ شأنه: (ولقد وصّينا الذين أوتوا الكتابَ من قبلِكم وإياكم أنْ اتقوا الله)
معاشر المؤمنين: الإسرافُ صفةٌ من الصفاتِ الإنسانيةِ المذمومةِ التي نهى عنها الشرع، وما ذُكِرَ الإسرافُ إلا مذموماً منهيَّاً عنه، وله صورٌ متعددةٌ ومجالاتٌ متنوعةٌ، وأشكالٌ وأحوالٌ، ومِنْ أهمِّ وأخصِّ صورِ الإسرافِ التي نصَّ اللهُ على النهيِ عنها بصريحِ القرآنِ، صُورةُ الإسرافِ في إعدادِ الطعامِ والإكثارِ منه، وفي الاستعراضِ في السُّفَرِ والموائدِ، وكانت هذه المشكلةُ محصورةً نسبياً في الولائمِ الكبيرةِ، والمناسباتِ العامَّةِ ونحوِها، ولمْ تكُنْ ظاهرةً في كلِّ البيوتِ وفي الأحوالِ العاديةِ، واليومَ أصبحنا نرى مظاهرَ مؤلمةً وصوراً مزعجةً، من إلقاءٍ للطعامِ في الشوارعِ وأمامَ البيوتِ وعلى الأرصفةِ، وفي الأراضي الفضاءِ القريبةِ من البنيانِ والبعيدةِ عنه، وهذا الأمرُ لم يكنْ معروفاً قبلَ سنواتٍ قريبةٍ، بل استجدَّ مع إصرارِ الناسِ على الإسرافِ، والمبالغةِ في شراءِ الأطعمةِ وإعدادِها والزيادةِ في القدرِ المطلوبِ منها..
ويظنُّ مُلْقِيها أنّه بفعْلِه هذا تخلَّص منها بطريقةٍ سليمةٍ؛ حيث لم يُلقِها في حاوياتِ النفاياتِ ومع القمامةِ والزُبَالاتِ، ويعتقدُ أنه خرجَ من تبعةِ الإسرافِ والتبذيرِ، ويلبّسُ عليه إبليسُ بإراحةِ ضميرِه وطمأنينةِ نفسِه بهذا التصرف.
والحقيقةُ أنّ هذا الفعل يتضمّنُ مخالفاتٍ شرعيةً واجتماعيةً وبيئيةً وصحيةً.

أما المخالفةُ الشرعيةُ: فهي الإسرافُ والتبذيرُ المحرَّمُ بصريحِ نصوصِ الكتابِ والسنةِ التي منها قولُه تعالى (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وقولُه تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) ومن السنَّةِ قولُه صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ كَرِهَ لكم ثلاثاً: قيلَ وقالَ، وكثرةَ السؤالِ، وإضاعةَ المالِ) رواه البخاري عن المغيرةَ بنِ شعبةَ رضي الله عنه، بل أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ دقيقٍ في شأنِ المحافظةِ على الطعامِ وعدمِ رميهِ؛ فعن أنسِ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أكلَ طعاماً لَعَقَ أصابِعَهُ الثلاثَ، وقال: (إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ)، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ [أي نَمْسَحَها ونتتبعُ ما بقي فيها من الطعام]، قَالَ: (فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ) رواه مسلم.
ومن المخالفةِ الشرعيةِ في هذا الفعلِ: تعريضُ النعمةِ للدهسِ والإهانةِ بالأقدامِ وإطاراتِ السياراتِ، فالنعمةُ محترمةٌ وإنْ أُلْقِيَتْ في الأرضِ؛ هكذا علَّمنَا رسولُنا الكريمُ صلواتُ ربي وسلامُه عليه، فعن أَنسٍ رضيَ اللَّهُ عنه أَنَّ النَبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فقالَ: "لَوْلاَ أَنِّي أَخافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُها" متفقٌ عَلَيْهِ، وفي الأثرِ عن مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا رَأَتْ حَبَّةً فَأَخَذَتْهَا وقَالَتْ : (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْفَسَادَ)
فالواجبُ علينا شرعاً أنْ نقتصِدَ في كميَّةِ الطعامِ عِنْدَ إعدادِه، وإذا زادَ منه شيءٌ فالطريقةُ الشرعيةُ في التصرّفِ فيه هي: ما أرشدَنا إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقولِه (وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له، قالَ الراوي: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ ما ذَكَرَ حتَّى رَأَيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: (يا نِساءَ المُسْلِماتِ، لا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لِجارَتِها، ولو فِرْسِنَ شاةٍ) رواه البخاري ومسلم، وفِرْسِنُ الشاةِ: ظِلْفُ الشَّاةِ كالحافرِ مِن الفرَسِ، وقيل: هو عَظْمٌ قَليلُ اللَّحْمِ.
والطريقة الأخرى حفظه والاستفادة منه في وجبة أخرى، لا أنْ نرميَه للقططِ والطيورِ وغيرِها.
ومما ساهمَ في تطورِ هذه الظاهرةِ أنَّ بعضَ الناسِ صارَ لا يفرِّقُ بين بقايا الطعامِ التي لا تصلحُ للآدميين، وبينَ الطعامِ الزائدِ النَّظيفِ الذي يأكلُه الآدميون، حتى صرنا نرى التمورَ والمخبوزاتِ وأصنافَ الطعامِ؛ ملقاةً على الأرصفةِ وفي الأراضي الفضاءِ، وهذه إما بقايا أطعمةٍ، شأنها معروفٌ، وهو جمعُها وإعطاؤها للمواشي والدواجن ونحوها؛ لا أنْ تُلقى هكذا، وإمّا أطعمةٌ زائدةٌ ينبغي التصرُّف فيها كما ذكرنا آنفاً.
وأما المخالفةُ الاجتماعيةُ: فتتمثلُ في كسرِ خواطرِ الفقراءِ والمعوزين، ونشرِ ثقافةِ الإسرافِ والتبذيرِ، وظهورِ المباهاةِ والمفاخرةِ بينَ الناسِ في هذا العملِ،  وإلقاؤها بهذه الطريقةِ مظهرٌ غيرُ حضاريٍّ، وسلوكٌ مخالفٌ للذوقِ العامِ الذي جاءَ الإسلامُ بمراعاتِه والارتقاءِ به.
وأما المخالفةُ البيئيةُ: فمتنوعةُ الضررِ والأثرِ، فرميُ الأطعمةِ على الأرضِ يفسدُها ويفسدُ ما حولَها، وخاصةً الشجيراتِ الصغيرةَ؛ فالدهونُ التي في الأطعمةِ تقضي عليها تماماً، إضافةً إلى ما ينتجُ عن هذه الأطعمةِ المرميةِ من روائحَ كريهةٍ مزعجةٍ، ومن جانبٍ آخرَ فإنَّ هذه الأطعمةَ المرميةَ تساهمُ بدرجةٍ كبيرةٍ في تجميعِ القططِ والطيورِ بأعدادٍ كبيرةٍ تسبِّبُ أذىً ظاهراً وملموساً على الناسِ، وكذلك تجلبُ روائحُها الكلابَ الخطيرةَ الضارةَ المزعجةَ المؤذيةَ، وتتغذى عليها القوارضُ من الفئرانِ والجرذانِ وغيرِها وتتكاثرُ حولها، ومِنْ جانب آخر؛ فإنَّ إلقاءَها في البريَّةِ يؤذي بهيمةَ الأنعامِ التي تأكلُها بشراهةٍ حينَ تجدُها، وربَّما يسبِّبُ لها ذَلك الأذى والموتَ؛ سواءً كانت تموراً أو مخبوزاتٍ تضرُّها، أو أطعمةً تحوي زيوتاً وغيرَها مما لا يناسبُ بهيمةَ الأنعامِ، كالأُرْزِ ونحوِه، ويزدادُ الضررُ حين تُلقى بأكياسٍ بلاستيكيةٍ فتأكلُها البهائم بأكياسِها، وكمْ سمعْنَا مِنْ أهلِ المواشي مَنْ تضرَّرَ مِنْ هذه الأفعالِ، ودَعَا على مَنْ فعلَ ذلك، وهذا كلُّه من الأذَى الذي نهى اللهُ جلَّ جلالُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم عنه.
وأما الضرر الصحي: فأمَاكِنُ رميِ الطعامِ بيئةٌ خصبةٌ لتكوُّن الأمراضِ ونقلِها، وفيها يتكاثرُ الذبابُ والبعوضُ والحشراتُ الزاحفةُ والقارصةُ وغيرها.
بارك الله لي ولكم بالكتاب والسنة ونفعنا بما صرّف فيهما من الآيات والحكمة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله كما أمرَ، والشكر له على ما أعطى وأكثرَ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها النجاةَ يومَ المَحْشَرِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله المبعوثُ لأهلِ المَدَرِ والوَبَرِ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابَتِه خيرِ آلٍ ومعشَرٍ، وعلى مَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومٍ فيه القبُورُ تُبَعْثَر.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله (يا أيها الناسُ اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حقٌّ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)
معاشر المؤمنين: بعضُ الناسِ يستشهدُ على هذا الفعلِ بحديثِ ( في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجر ٌ) وهو حديثٌ صحيحٌ متفقٌ عليه، والحقيقةُ أنه استشهادٌ في غيرِ مَحَلِّه، فليس معنى الحديثِ أنْ يُزادَ بالأطعمةِ عن قَدْرِ الحاجةِ ويُسرفَ في إعدادِها ويُتّخذَ مكانٌ لرمْيِها وتجميعِها، بلْ معناهُ إسقاءُ الماءِ وإطعامُ الطعامِ للمحتاجِ من ذواتِ الكبودِ من غيرِ الطعامِ المخصصِ للآدميين، أو بقدرٍ معتدلٍ محدودٍ من طعامِ الآدميين، فالقططُ والكلابُ والطيورُ ونحوها، لها مهمَّةٌ في هذا الكونِ فطرَها اللهُ عليها؛ من أكلٍ لخشاشِ الأرضِ وهوامِّها، التي في أكلها لها حصولٌ للتوازن البيئي الذي جعله الله ميزاناً في هذه الأرض، وعندما نُغْنِيْهَا بطعامِ الآدميين فإننا نُفْسِدُ فطرتَها، ونبذّرُ في رزقنا الذي وهبنا اللهُ إياه، ونساهمُ في تكاثرِ الحشراتِ والهوامِّ التي تؤذينا.
مشكلةُ بعضِ الناسِ؛ أنَّهم لا يثمِّنونَ قيمةَ الطعامِ الماديةَ والمعنويةَ ولا يحسبونَ حساباً لنفادِه وانقطاعِه، ولا يدركونَ قَدْرَ الجُهْدِ الذي بذلَ فيه حتى وصلَ إلينا صالحاً للأكل؛ فرغيفُ الخبزِ الذي نَحْصُلُ عليه مرَّ بمراحلَ طويلة؛ فقدْ حُرِثتْ أرضُه وأُلْقيتْ بِذْرَتُه وسُقيَ أشهراً طويلةً ثمَّ حُصِدَ حبُّه ثمَّ طُحِنَ ثمَّ عُجِنَ ثمَّ خُبزَ، ومع هذا الجهدِ همٌّ يلازمُ الفلَّاحَ وخوفٌ من الكوارثِ والحوادِث التي تنتابُ الزروعَ وتداهمُها بين موسمٍ وآخر.
وبعضُ الناسِ يُكْثِرُ من إعْدَادِ الطعامِ خوفاً من قلّتِه على السُّفْرةِ، ويخشى مِنْ عَدَمِ الشِّبَعِ، ويظنُّ أنَّ السَّعادةَ و النَّعيمَ بكثرةِ الأكلِ وملءِ البطنِ، والحقيقةُ خلاف ذلك ففي الحديث (ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شرًّا من بطنِه حسْبُ ابنِ آدمَ أُكلاتٌ يُقمْنَ صلبَه فإن كان لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِه وثلثٌ لنفسِه) رواه الترمذي وغيرُه عن المقدامِ بن معدي كرب رضي الله عنه، وحسَنه الألباني
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله: (فالذين يقتصدونَ في المآكلِ نعيمُهمْ بها أكثرُ من نعيمِ المسرفين فيها؛ فإنَّ أولئكَ إذا أدمنوها وألِفُوْها لا يبقى لهذا عندَهم كبيرُ لذَّةٍ؛ مع أنَّهم قَدْ لا يصبِرونَ عنْها، وتكثرُ أمراضُهم بسببِها)
وبعدُ عبادَ الله: كلُّ نعمةٍ نتنعّمُ بها؛ نحن مسؤولون عنها كما قال تعالى (ثمُّ لتُسألنَّ يومئذٍ عن النَّعيْم) وقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عن هذا النَّعِيمِ يَومَ القِيَامَةِ) رواه مسلم.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم بالصلاة والسلام عليه الله حيث قال: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) ....

المشاهدات 758 | التعليقات 0