رمضان وعطايا الرحمن سبحانه
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1436/08/29 - 2015/06/16 20:08PM
رمضان وعطايا الرحمن سبحانه
2/9/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْكَرِيمِ الْجَوَادِ، الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؛ يُفِيضُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَيَشْمَلُهُمْ بِعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ، وَيَسَعُهُمْ بِبِرِّهِ وَرَحَمَاتِهِ، لَا تَنْفَدُ خَزَائِنُهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ عَطَاؤُهُ. لَا تُعْجِزُهُ حَاجَةٌ، وَلَا تُثْقِلُهُ مَسْأَلَةٌ، فَمُنْذُ خَلَقَ خَلْقَهُ وَهُوَ يَغْذُوهُمْ وَيُعْطِيهِمْ، وَيُجِيبُ مَسَائِلَهُمْ، وَيَسْتَجِيبُ دَعَوَاتِهِمْ، فَمَا نَقَصَ مَا أَعْطَاهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا، نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ كُلِّهِ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ إِلَهُ الْخَلْقِ كُلِّهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى شَرِيعَةٍ أَتَمَّهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَنِعَمٍ تَابَعَهَا، وَنِقَمٍ دَفَعَهَا؛ فَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّنَا نَبْتَدِئُ شَهْرَ التَّقْوَى بِصِيَامِ نَهَارِهِ، وَقِيَامِ لَيْلِهِ، فَلْتَصُمْ جَوَارِحُنَا عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَلْتَصُمْ أَلْسِنَتُنَا وَأَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا عَمَّا يُغْضِبُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْنَشْغَلْهَا بِمَا يُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرٍ وَقُرْآنٍ وَطَاعَةٍ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
أَيُّهَا النَّاسُ: فَضْلُ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ لَا يَحُدُّهُ حَدٌّ، وَلَا يُحْصِيهِ عَدٌّ، وَلَا يَحْصُرُهُ أَحَدٌ؛ فَهُوَ يُغْدِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَوَفَّاهُمْ. وَأَعْظَمُ النِّعَمِ نِعَمُ الدِّينِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهَا يَبْقَى فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَهِيَ إِلَى زَوَالٍ بِكُلِّ مَا فِيهَا.
وَرَمَضَانُ نِعْمَةٌ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أُهْدِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِي ثَنَايَاهُ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَمَنْ نَظَرَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَعْلَمُهُ مِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ اسْتَبَانَ لَهُ قَدْرُ رَمَضَانَ، وَعَلِمَ فَضْلَ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى المُؤْمِنِينَ حِينَ جَعَلَ لَهُمْ رَمَضَانَ.
فَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: فَرْضُ الصِّيَامِ فِيهِ، وَالصِّيَامُ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنَ الْآثَامِ وَمِنَ النَّارِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ».
وَالصَّوْمُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «في الجنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانُ لَا يَدْخُلُهُ إِلاّ الصَّائِمُونَ» رَوَاهُ الشَّيخَان.
وَمِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِ الصَّوْمِ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَجْرِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى تَوَلَّى جَزَاءَ الصَّائِمِ عَلَى صِيَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «الصَّوْمُ لي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ...» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَهِيَ مَغْفِرَةٌ لَا تَخْطُرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا مَغْفِرَةُ ذُنُوبِ الْعَامِ كُلِّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمْعَةُ إِلَى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَيَبْدُو أَنَّ المَغْفِرَةَ تُصِيبُ أَكْثَرَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَ عَبْدٍ -أَوْ بَعُدَ- دَخَلَ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ» صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَتَتَحَقَّقُ مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ بِالصَّوْمِ إِذَا حَقَّقَ فِيهِ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ وَالِاحْتِسَابَ، بِأَنْ يَصُومَ مُؤْمِنًا بِفَرْضِهِ وَبِأَجْرِهِ، وَمُحْتَسِبًا الثَّوَابَ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَشْرُوعِيَّةُ الْقِيَامِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ مِمَّا لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالٍ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ؟ وَمَعَ المُسْلِمِينَ جَمَاعَةً فِي المَسَاجِدِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَيُحَقِّقُ الْعَبْدُ قِيَامَ رَمَضَانَ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي المَسَاجِدِ كَمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَمَنْ قَامَهَا فَهُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ قَامَ أَلْفَ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهَذَا عَطَاءٌ عَظِيمٌ، وَثَوَابٌ كَبِيرٌ مِنْ رَبٍّ جَوَادٍ رَحِيمٍ، وَقِيَامُهَا سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ ،كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَشُرِعَ فِيهَا طَلَبُ الْعَفْوِ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَالَ الْعَفْوَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ سَلِمَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ المَعْفُوَّ عَنْهُ لَا يُعَاقَبُ، قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضيَ اللهُ عَنْهَا-: «يَا رَسُولَ اللَّـهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» رَوَاهُ التِرمِذيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحيحٌ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا جَاءَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كَانَ أَوَّلُ ليْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّياطِينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ منْهَا بَابٌ، وفُتِحَتْ أَبوَابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، ويُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ»، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْعَطَايَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ تَدُلُّ عَلَى كَرَمِ اللَّـهِ تَعَالَى وَجُودِهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي رَمَضَانَ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَالْعِتْقُ مِنَ النَّارِ، فَهُوَ شَهْرٌ تُجَابُ فِيهِ الدَّعَوَاتُ، وَتُعْتَقُ فِيهِ الرِّقَابُ مِنَ النَّارِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَطَايَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّـهِ عُتَقَاءَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: أَكْلَةُ السَّحَرِ الَّتِي اخْتُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَمَا جَعَلَ اللهُ تَعَالَى فِي السُّحُورِ مِنَ الْبَرَكَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ، فَلَا تَدَعُوهُ وَلَو أَنْ يَجرَعَ أحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتسَحِّرِينَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي حَدِيثٍ ثَالِثٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ، وَبَذْلُ الْإِحْسَانِ، فَهُوَ شَهْرُ الْقُرْآنِ وَشَهْرُ الْإِحْسَانِ، وَالْبَذْلُ فِيهِ لَيْسَ كَالْبَذْلِ فِي غَيْرِهِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهِ لَيْسَتْ كَقِرَاءَتِهَا فِي غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ فَضِيلَةِ تَفْطِيرِ الصُّوَّامِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا يَحْصُلُ مِنَ الْخَيْرِيَّةِ بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ، كَمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا جَعَلَهُ لِلصَّائِمِ مِنَ الْفَرَحِ عِنْدَ فِطْرِهِ وَعِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّائِمُونَ يُحِسُّونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِالْفَرْحَةِ الْأُولَى، وَهُمْ يَرْجُونَ الثَّانِيَةَ وَيَنْتَظِرُونَهَا، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْأُولَى.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا خَفَّفَهُ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالمَرِيضِ وَالمُسَافِرِ مِنْ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَالْقَضَاءِ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَكَوْنِ الْإِطْعَامِ بَدَلًا عَنِ الصِّيَامِ لِلْعَاجِزِ عَنْهُ ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184].
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَشْرُوعِيَّةُ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِي هَذَا الِاعْتِكَافِ خَلْوَةٌ بِاللَّـهِ تَعَالَى، وَانْقِطَاعٌ عَنِ الدُّنْيَا، وَرِيَاضَةٌ لِلنَّفْسِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَتَفْرِيغُ الْقَلْبِ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا وَأَكْدَارِهَا، لِيَصْفُوَ لِلَّـهِ تَعَالَى فِي أَفْضَلِ لَيَالِي الْعَامِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: خِتَامُهُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ؛ تَطْهِيرًا لِلصَّائِمِينَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللُه عَنْهُما-: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ الَّلغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ...» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: خِتَامُهُ بِالْعِيدِ بَعْدَ إِتْمَامِ الصِّيَامِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الشَّعَائِرِ الْعِظَامِ، وَالْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَالْفَرَحِ وَالْحُبُورِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْأُلْفَةِ وَالمَوَدَّةِ وَرَاحَةِ الْبَالِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا شَرَعَ مِنْ صِيَامِ سِتِّ شَوَّالٍ مَعَ رَمَضَانَ لِيَكْمُلَ لِلصَّائِمِ أَجْرُ صِيَامِ الدَّهْرِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْعَطَايَا الْكَثِيرَةِ إِلَّا عَطِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ؛ لَكَانَ رَمَضَانُ جَدِيرًا بِأَنْ يَحْتَفِيَ النَّاسُ بِهِ، وَأَنْ يُرَاعُوا حُرْمَتَهُ، وَيُعَظِّمُوا شَعِيرَتَهُ، فَكَيْفَ وَعَطَايَا الرَّحْمَنِ فِيهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهَذِهِ عَطَايَاهُ سُبْحَانَهُ فِي الطَّاعَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا فِي رَمَضَانَ، فَكَيْفَ إِذَنْ بِعَطَايَاهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ثَوَابِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا وَهُوَ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ؟!
لَا يُمْكِنُ عَدُّ ذَلِكَ وَلَا إِحْصَاؤُهُ، فَلَا يَعْلَمُ جَزَاءَهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَحَسْبُنَا أَنَّ الصِّيَامَ لِلَّـهِ تَعَالَى وَهُوَ يَجْزِي بِهِ. فَأَرُوا اللهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا.
أَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّـهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 96- 97].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ وَخُذُوا مِنْ صِحَّتِكُمْ لِمَرَضِكُمْ، وَمِنْ فَرَاغِكُمْ لِشُغْلِكُمْ، وَمِنْ قُوَّتِكُمْ لِضَعْفِكُمْ، وَمِنْ حَيَاتِكُمْ لِمَوْتِكُمْ، فَاعْمُرُوا مَوَاسِمَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَتَزَوَّدُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَوَ مَكَثَ النَّاسُ طِيلَةَ رَمَضَانَ فِي المَسَاجِدِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا لِنَيْلِ عَطَايَا الرَّحْمَنِ الْكَثِيرَةِ لَما كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا لِتَحْصِيلِهَا، فَكَيْفَ وَالْوَاحِدُ يَسْتَطِيعُ تَحْصِيلَهَا دُونَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ مِنَ الجِدِّ فِي الْعَمَلِ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَقْتِ.
وَقَدْ دَلَّتِ التَّجْرِبَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ، وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي بِدَايَتِهِ دَاوَمَ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ أَيَّامِهِ.
وَرَمَضَانُ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُؤْمِنِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهُ أَكْبَرَ قَدْرٍ مِنَ الْفَائِدَةِ، وَأَنْ يَجْنِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا اسْتَطَاعَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَتَنْظِيمِ الْأَوْقَاتِ، وَتَرْتِيبِ الْأَوَّلِيَّاتِ: فَيُلْزِمُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ بِإِدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ طِيلَةَ رَمَضَانَ وَفِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ، وَيَحْرِصُ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ. وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، وَيُلْزِمُ نَفْسَهُ بِوِرْدٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَمْضِي يَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا وَقَدْ أَتَمَّهُ، وَمِمَّا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ مُكْثُهُ فِي المَسْجِدِ كَثِيرًا، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَفِي المَسْجِدِ لَا يُلْهِيهِ شَيْءٌ عَنْ وِرْدِهِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَيَجْعَلُ لَهُ صَدَقَةً يَوْمِيَّةً طِيلَةَ الشَّهْرِ، وَيَجْتَهِدُ فِي إِخْفَائِهَا، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِتَفْطِيرِ عَدَدٍ مِنَ الصَّائِمِينَ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا عَلَى خَيْرٍ. وَيُحَافِظُ عَلَى الْأَوْرَادِ وَالْأَذْكَارِ المُؤَقَّتَةِ، وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ.
وَاللَّيْلُ.. وَمَا أَدْرَاكَ مَا اللَّيْلُ! فَمَا يُعْمَلُ فِي اللَّيْلِ فِي هَذَا الزَّمَنِ هُوَ أَكْثَرُ مَا يُذْهِبُ أَجْرَ الصِّيَامِ فِي النَّهَارِ، وَلَا مَخْلَصَ لِلْعَبْدِ مِنْ آفَةِ الْعِصْيَانِ بِاللَّيْلِ، وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ وَمَجَالِسِ الزُّورِ إِلَّا بِأَنْ يُرَافِقَ فِيهِ رُفْقَةً صَالِحَةً فِي مُذَاكَرَةِ قُرْآنٍ أَوْ حِفْظِهِ أَوْ قِرَاءَةِ تَفْسِيرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ عَجَزَ جَعَلَ اللَّيْلَ لِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَزِيَارَةِ المَرْضَى، وَتَلَمُّسِ حَاجَةِ المُحْتَاجِينَ؛ لِئَلَّا تَجْنَحَ بِهِ نَفْسُهُ إِلَى مَجَالِسِ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَإِنْ عَجَزَ شَغَلَ نَفْسَهُ فِيهِ بِشُغْلٍ مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا المُبَاحَةِ كَتِجَارَةٍ أَوْ دَوْرَةٍ أَوِ الْوَظِيفَةِ أَوْ نَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَقِيَ فِي اللَّيْلِ فَارِغًا وَهُوَ ثَقِيلٌ عَنِ الطَّاعَةِ فِيهِ مَالَتْ بِهِ نَفْسُهُ إِلَى مَجَالِسِ اللَّهْوِ، وَمُشَاهَدَةِ المُحَرَّمَاتِ الَّتِي تَنْضَحُ بِهَا الشَّاشَاتُ. فَيُضَيِّعُ مَا جَمَعَ فِي النَّهَارِ مِنْ حَسَنَاتٍ.
أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَتَزَوَّدُوا مِنْ شَهْرِكُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا تَجِدُونَهُ ذُخْرًا أَمَامَكُمْ ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
2/9/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْكَرِيمِ الْجَوَادِ، الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؛ يُفِيضُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَيَشْمَلُهُمْ بِعَفْوِهِ وَغُفْرَانِهِ، وَيَسَعُهُمْ بِبِرِّهِ وَرَحَمَاتِهِ، لَا تَنْفَدُ خَزَائِنُهُ، وَلَا يَنْقَطِعُ عَطَاؤُهُ. لَا تُعْجِزُهُ حَاجَةٌ، وَلَا تُثْقِلُهُ مَسْأَلَةٌ، فَمُنْذُ خَلَقَ خَلْقَهُ وَهُوَ يَغْذُوهُمْ وَيُعْطِيهِمْ، وَيُجِيبُ مَسَائِلَهُمْ، وَيَسْتَجِيبُ دَعَوَاتِهِمْ، فَمَا نَقَصَ مَا أَعْطَاهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا، نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ كُلِّهِ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ إِلَهُ الْخَلْقِ كُلِّهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى شَرِيعَةٍ أَتَمَّهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَنِعَمٍ تَابَعَهَا، وَنِقَمٍ دَفَعَهَا؛ فَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّنَا نَبْتَدِئُ شَهْرَ التَّقْوَى بِصِيَامِ نَهَارِهِ، وَقِيَامِ لَيْلِهِ، فَلْتَصُمْ جَوَارِحُنَا عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَلْتَصُمْ أَلْسِنَتُنَا وَأَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا عَمَّا يُغْضِبُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْنَشْغَلْهَا بِمَا يُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرٍ وَقُرْآنٍ وَطَاعَةٍ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
أَيُّهَا النَّاسُ: فَضْلُ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ لَا يَحُدُّهُ حَدٌّ، وَلَا يُحْصِيهِ عَدٌّ، وَلَا يَحْصُرُهُ أَحَدٌ؛ فَهُوَ يُغْدِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَهُمْ إِلَى أَنْ يَتَوَفَّاهُمْ. وَأَعْظَمُ النِّعَمِ نِعَمُ الدِّينِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهَا يَبْقَى فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَهِيَ إِلَى زَوَالٍ بِكُلِّ مَا فِيهَا.
وَرَمَضَانُ نِعْمَةٌ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أُهْدِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَفِي ثَنَايَاهُ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَمَنْ نَظَرَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَعْلَمُهُ مِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ اسْتَبَانَ لَهُ قَدْرُ رَمَضَانَ، وَعَلِمَ فَضْلَ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى المُؤْمِنِينَ حِينَ جَعَلَ لَهُمْ رَمَضَانَ.
فَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: فَرْضُ الصِّيَامِ فِيهِ، وَالصِّيَامُ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنَ الْآثَامِ وَمِنَ النَّارِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ»، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ».
وَالصَّوْمُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «في الجنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانُ لَا يَدْخُلُهُ إِلاّ الصَّائِمُونَ» رَوَاهُ الشَّيخَان.
وَمِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِ الصَّوْمِ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَجْرِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى تَوَلَّى جَزَاءَ الصَّائِمِ عَلَى صِيَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «الصَّوْمُ لي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ...» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَهِيَ مَغْفِرَةٌ لَا تَخْطُرُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا مَغْفِرَةُ ذُنُوبِ الْعَامِ كُلِّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمْعَةُ إِلَى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَيَبْدُو أَنَّ المَغْفِرَةَ تُصِيبُ أَكْثَرَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَ عَبْدٍ -أَوْ بَعُدَ- دَخَلَ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ» صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَتَتَحَقَّقُ مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ بِالصَّوْمِ إِذَا حَقَّقَ فِيهِ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ وَالِاحْتِسَابَ، بِأَنْ يَصُومَ مُؤْمِنًا بِفَرْضِهِ وَبِأَجْرِهِ، وَمُحْتَسِبًا الثَّوَابَ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَشْرُوعِيَّةُ الْقِيَامِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ مِمَّا لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالٍ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ؟ وَمَعَ المُسْلِمِينَ جَمَاعَةً فِي المَسَاجِدِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَيُحَقِّقُ الْعَبْدُ قِيَامَ رَمَضَانَ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي المَسَاجِدِ كَمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَمَنْ قَامَهَا فَهُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ قَامَ أَلْفَ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهَذَا عَطَاءٌ عَظِيمٌ، وَثَوَابٌ كَبِيرٌ مِنْ رَبٍّ جَوَادٍ رَحِيمٍ، وَقِيَامُهَا سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ ،كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَشُرِعَ فِيهَا طَلَبُ الْعَفْوِ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَالَ الْعَفْوَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ سَلِمَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ المَعْفُوَّ عَنْهُ لَا يُعَاقَبُ، قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضيَ اللهُ عَنْهَا-: «يَا رَسُولَ اللَّـهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» رَوَاهُ التِرمِذيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحيحٌ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا جَاءَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كَانَ أَوَّلُ ليْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّياطِينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ منْهَا بَابٌ، وفُتِحَتْ أَبوَابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، ويُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ»، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْعَطَايَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ تَدُلُّ عَلَى كَرَمِ اللَّـهِ تَعَالَى وَجُودِهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي رَمَضَانَ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَالْعِتْقُ مِنَ النَّارِ، فَهُوَ شَهْرٌ تُجَابُ فِيهِ الدَّعَوَاتُ، وَتُعْتَقُ فِيهِ الرِّقَابُ مِنَ النَّارِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَطَايَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّـهِ عُتَقَاءَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: أَكْلَةُ السَّحَرِ الَّتِي اخْتُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَمَا جَعَلَ اللهُ تَعَالَى فِي السُّحُورِ مِنَ الْبَرَكَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ، فَلَا تَدَعُوهُ وَلَو أَنْ يَجرَعَ أحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتسَحِّرِينَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي حَدِيثٍ ثَالِثٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ، وَبَذْلُ الْإِحْسَانِ، فَهُوَ شَهْرُ الْقُرْآنِ وَشَهْرُ الْإِحْسَانِ، وَالْبَذْلُ فِيهِ لَيْسَ كَالْبَذْلِ فِي غَيْرِهِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهِ لَيْسَتْ كَقِرَاءَتِهَا فِي غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ فَضِيلَةِ تَفْطِيرِ الصُّوَّامِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا يَحْصُلُ مِنَ الْخَيْرِيَّةِ بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ، كَمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا جَعَلَهُ لِلصَّائِمِ مِنَ الْفَرَحِ عِنْدَ فِطْرِهِ وَعِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّائِمُونَ يُحِسُّونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِالْفَرْحَةِ الْأُولَى، وَهُمْ يَرْجُونَ الثَّانِيَةَ وَيَنْتَظِرُونَهَا، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْأُولَى.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا خَفَّفَهُ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالمَرِيضِ وَالمُسَافِرِ مِنْ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَالْقَضَاءِ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَكَوْنِ الْإِطْعَامِ بَدَلًا عَنِ الصِّيَامِ لِلْعَاجِزِ عَنْهُ ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184].
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَشْرُوعِيَّةُ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِي هَذَا الِاعْتِكَافِ خَلْوَةٌ بِاللَّـهِ تَعَالَى، وَانْقِطَاعٌ عَنِ الدُّنْيَا، وَرِيَاضَةٌ لِلنَّفْسِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَتَفْرِيغُ الْقَلْبِ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا وَأَكْدَارِهَا، لِيَصْفُوَ لِلَّـهِ تَعَالَى فِي أَفْضَلِ لَيَالِي الْعَامِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: خِتَامُهُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ؛ تَطْهِيرًا لِلصَّائِمِينَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللُه عَنْهُما-: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ الَّلغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ...» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: خِتَامُهُ بِالْعِيدِ بَعْدَ إِتْمَامِ الصِّيَامِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الشَّعَائِرِ الْعِظَامِ، وَالْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَالْفَرَحِ وَالْحُبُورِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْأُلْفَةِ وَالمَوَدَّةِ وَرَاحَةِ الْبَالِ.
وَمِنْ عَطَايَا الرَّحْمَنِ فِي رَمَضَانَ: مَا شَرَعَ مِنْ صِيَامِ سِتِّ شَوَّالٍ مَعَ رَمَضَانَ لِيَكْمُلَ لِلصَّائِمِ أَجْرُ صِيَامِ الدَّهْرِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْعَطَايَا الْكَثِيرَةِ إِلَّا عَطِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ؛ لَكَانَ رَمَضَانُ جَدِيرًا بِأَنْ يَحْتَفِيَ النَّاسُ بِهِ، وَأَنْ يُرَاعُوا حُرْمَتَهُ، وَيُعَظِّمُوا شَعِيرَتَهُ، فَكَيْفَ وَعَطَايَا الرَّحْمَنِ فِيهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهَذِهِ عَطَايَاهُ سُبْحَانَهُ فِي الطَّاعَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا فِي رَمَضَانَ، فَكَيْفَ إِذَنْ بِعَطَايَاهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ثَوَابِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا وَهُوَ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ؟!
لَا يُمْكِنُ عَدُّ ذَلِكَ وَلَا إِحْصَاؤُهُ، فَلَا يَعْلَمُ جَزَاءَهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَحَسْبُنَا أَنَّ الصِّيَامَ لِلَّـهِ تَعَالَى وَهُوَ يَجْزِي بِهِ. فَأَرُوا اللهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا.
أَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّـهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 96- 97].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ وَخُذُوا مِنْ صِحَّتِكُمْ لِمَرَضِكُمْ، وَمِنْ فَرَاغِكُمْ لِشُغْلِكُمْ، وَمِنْ قُوَّتِكُمْ لِضَعْفِكُمْ، وَمِنْ حَيَاتِكُمْ لِمَوْتِكُمْ، فَاعْمُرُوا مَوَاسِمَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَتَزَوَّدُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَوَ مَكَثَ النَّاسُ طِيلَةَ رَمَضَانَ فِي المَسَاجِدِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا لِنَيْلِ عَطَايَا الرَّحْمَنِ الْكَثِيرَةِ لَما كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا لِتَحْصِيلِهَا، فَكَيْفَ وَالْوَاحِدُ يَسْتَطِيعُ تَحْصِيلَهَا دُونَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ بِشَيْءٍ مِنَ الجِدِّ فِي الْعَمَلِ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَقْتِ.
وَقَدْ دَلَّتِ التَّجْرِبَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ، وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي بِدَايَتِهِ دَاوَمَ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ أَيَّامِهِ.
وَرَمَضَانُ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُؤْمِنِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهُ أَكْبَرَ قَدْرٍ مِنَ الْفَائِدَةِ، وَأَنْ يَجْنِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا اسْتَطَاعَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَتَنْظِيمِ الْأَوْقَاتِ، وَتَرْتِيبِ الْأَوَّلِيَّاتِ: فَيُلْزِمُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ بِإِدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ طِيلَةَ رَمَضَانَ وَفِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ، وَيَحْرِصُ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ. وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، وَيُلْزِمُ نَفْسَهُ بِوِرْدٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَمْضِي يَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا وَقَدْ أَتَمَّهُ، وَمِمَّا يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ مُكْثُهُ فِي المَسْجِدِ كَثِيرًا، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَفِي المَسْجِدِ لَا يُلْهِيهِ شَيْءٌ عَنْ وِرْدِهِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَيَجْعَلُ لَهُ صَدَقَةً يَوْمِيَّةً طِيلَةَ الشَّهْرِ، وَيَجْتَهِدُ فِي إِخْفَائِهَا، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِتَفْطِيرِ عَدَدٍ مِنَ الصَّائِمِينَ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا عَلَى خَيْرٍ. وَيُحَافِظُ عَلَى الْأَوْرَادِ وَالْأَذْكَارِ المُؤَقَّتَةِ، وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ.
وَاللَّيْلُ.. وَمَا أَدْرَاكَ مَا اللَّيْلُ! فَمَا يُعْمَلُ فِي اللَّيْلِ فِي هَذَا الزَّمَنِ هُوَ أَكْثَرُ مَا يُذْهِبُ أَجْرَ الصِّيَامِ فِي النَّهَارِ، وَلَا مَخْلَصَ لِلْعَبْدِ مِنْ آفَةِ الْعِصْيَانِ بِاللَّيْلِ، وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ وَمَجَالِسِ الزُّورِ إِلَّا بِأَنْ يُرَافِقَ فِيهِ رُفْقَةً صَالِحَةً فِي مُذَاكَرَةِ قُرْآنٍ أَوْ حِفْظِهِ أَوْ قِرَاءَةِ تَفْسِيرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ عَجَزَ جَعَلَ اللَّيْلَ لِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَزِيَارَةِ المَرْضَى، وَتَلَمُّسِ حَاجَةِ المُحْتَاجِينَ؛ لِئَلَّا تَجْنَحَ بِهِ نَفْسُهُ إِلَى مَجَالِسِ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَإِنْ عَجَزَ شَغَلَ نَفْسَهُ فِيهِ بِشُغْلٍ مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا المُبَاحَةِ كَتِجَارَةٍ أَوْ دَوْرَةٍ أَوِ الْوَظِيفَةِ أَوْ نَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَقِيَ فِي اللَّيْلِ فَارِغًا وَهُوَ ثَقِيلٌ عَنِ الطَّاعَةِ فِيهِ مَالَتْ بِهِ نَفْسُهُ إِلَى مَجَالِسِ اللَّهْوِ، وَمُشَاهَدَةِ المُحَرَّمَاتِ الَّتِي تَنْضَحُ بِهَا الشَّاشَاتُ. فَيُضَيِّعُ مَا جَمَعَ فِي النَّهَارِ مِنْ حَسَنَاتٍ.
أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَتَزَوَّدُوا مِنْ شَهْرِكُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا تَجِدُونَهُ ذُخْرًا أَمَامَكُمْ ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
رمضان وعطايا الرحمن سبحانه مشكولة.doc
رمضان وعطايا الرحمن سبحانه مشكولة.doc
رمضان وعطايا الرحمن.doc
رمضان وعطايا الرحمن.doc
المشاهدات 4978 | التعليقات 4
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أهنئك بمقدم شهر رمضان المبارك وأسأل الله أن يجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانا واحتسابا فيُغفر له ماتقدم من ذنبه وأن يتقبل من ومنكم
جزاك الله خير الجزاء فيما تقدم ونفع بك الإسلام والمسلمين
جزيت خير الجزاء
شكر الله تعالى لكم أجمعين مروركم وتعليقكم
وجزاك الله تعالى خيرا أخانا الدهيسي على تهنئتك وتقبل الله تعالى دعواتك المباركة وأعطاك ما تؤمل وما تسأل فيما يرضيه إنه سميع مجيب[/b]
وجزاك الله تعالى خيرا أخانا الدهيسي على تهنئتك وتقبل الله تعالى دعواتك المباركة وأعطاك ما تؤمل وما تسأل فيما يرضيه إنه سميع مجيب[/b]
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق