رمضان ودخول الجنة

هلال الهاجري
1445/09/24 - 2024/04/03 22:02PM

الحمدُ للهِ الذي أكرمَ الأمَّةَ بشهرِ رمضانَ، الذي أُنزلَ فيه القرآنَ، هُدىً للنَّاسِ وبَيِّناتٍ من الهُدى والفُرقانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، فتَّحَ في رمضانَ أبوابَ الجِنانِ، وغلَّقَ أبوابَ النِّيرانِ، وصَفَّدَ الشَّياطينَ ومَردةَ الجَانِ، سبحانَه وتَعالى وَعدَ الصَّائمينَ بالرَّحمةِ والغُفرانِ، وبَشَّرَ المتقينَ بالجَنةِ والرِّضوانِ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه وصَفوتُه من خلقِه وخليلِه، مُعلمَ الصَّائمينَ، وإمامَ المتقينَ، وسيِّدَ الأنبياءِ والمرسلينَ، صلواتُ ربي وسلامُه عليه وعلى آلِه الطَّاهرينَ وصَحبِه الطَّيبينَ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ .. أمَّا بعدُ:

فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)، يومًا الوقوفُ فيه طويلٌ، والحسابُ فيه ثَقيلٌ.

أيُّها الأحبَّةُ ..تأملوا معي هذا الحديثَ .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ: (تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ)، ومِن فَوائدِ هذا الحديثُ: أَنَّ أكثرَ ما يُدخلُ النَّاسَ الجنةَ هو صيامُ شهرِ رمضانَ المُباركِ، سُبحانَ اللهِ .. أينَ هذا المعنى في الحديثِ، ولا يوجدُ ذِكرٌ للصَّومِ ولا لرمضانَ فيه؟.

فأقولُ: بل المعنى واضحٌ فيه وضوحُ الشَّمسِ في رابعةِ النَّهارِ، فإذا كانَ أكثرُ ما يُدخلُ النَّاسَ الجنةَ هو تقوى اللهِ وحُسنُ الخُلقِ، فرمضانُ هو مدرسةُ التَّقوى والأخلاقِ، بل هو دورةٌ تدريبيةٌ سنويَّةٌ لأهلِ الإيمانِ، لأجلِ أن يتمكَّنوا من مَهارتي التَّقوى والأخلاقِ الحِسانِ، ولذلكَ تعالوا لنغوصَ في هذا المعنى قليلاً، وستعلمونَ حينَها صِدْقَ القائلِ:

شهرُ العَزيمةِ والتَصبُّرِ والإباءِ *** وصفاءِ روحٍ واحتمالِ صِعابِ

ما صَامَ مَنْ أدَّى شَهادةَ كاذِبٍ *** وَأَخَلَّ بالأَخْلاقِ والآدابِ

الصَومُ مدرسةُ التعفُّفِ والتُّقى *** وَتَقارُبِ البُعَداءِ والأغرابِ

والآن .. اسمعوا معي لهذه الآيةِ: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، إذاً تقوى اللهِ تعالى هو الحكمةُ العُظمى من فرضِ الصِّيامِ على جميعِ الأمَّمِ، وهو أن تَجعلَ وقايةً بينكَ وبينَ ما تَخشاهُ مِن غَضبِ اللهِ وعِقابِه، مِن فِعلِ طاعتِه، واجتنابِ مَعاصيه.

وتأمَّلوا هذا المعنى فيمن تركَ الحلالَ من طَعامٍ وشرابٍ وشهوةٍ ساعاتٍ طويلةٍ، ثلاثينَ يوماً، مع رغبتِه فيها، وشوقِه إليها، ولهفتِه عليها، لا لشيءٍ إلا لأنَّ اللهَ تعالى هو الذي أمرَه بذلكَ، فأخبروني: أليسَ هذا درساً عمليَّاً في تقوى اللهِ تعالى لفعلِ أوامرِه وتركِ نواهيهِ؟، وهذا عندَ اللهِ عملٌ عظيمٌ جِداً، يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: (كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له، إلا الصيامَ فَإِنَّهُ لِي وأنا أجزِي بِهِ، إنَّمَا يتْرُكُ طعامَهَ وشَرَابَهُ مِن أجْلِي).

وأما الأخلاقُ في الصِّيامِ، فاسمع بقلبِكَ لهذا التَّوجيهِ الحكيمِ من النَّبيِّ الكريمِ، عليه أفضلُ صلاةٍ وتسليمٍ: (إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ)، فكأنَّه يقولُ: أيُّها الصَّائمُ أنتَ لستَ كغيرِكَ من البَشرِ، فأنتَ في عبادةِ الأخلاقِ والصَّبرِ، فإيَّاكَ والكلامَ الفاحشَ في يومِ صومِكَ، واحذرْ من الصُّراخِ ورفعِ صوتِكَ، وذكِّرْ نفسَك ومن أساءَ إليكَ أنَّكَ صائمٌ، وأنَّه لا يَليقُ بالصَّائمِ مُقابلةُ الإساءةِ بالإساءةِ، وإنما هو العفو والإحسانُ، وهكذا يتدرَّبُ المُسلمُ تدريباً عمليَّاً في رمضانَ على الصَّبرِ ومكارمِ الأخلاقِ، وقد جاءَ في الحديثِ: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ)، فيبدأُ بتكلُّفِ الصَّبرِ على جميلِ الأخلاقِ وتحمُّلِ مشَّاقِه، ثُمَّ يجعلُ اللهُ تعالى له الصَّبرَ طبيعةً وسجيَّةً، كما قالَ سُبحانَه وتعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، وهكَذا يَخرُجُ المُسلمُ مِن رَمضانَ بالتَّقوى والأخلاق، وهي من أعظمِ أسبابِ دُخولِ الجَنَّةِ.

إِذَا لَم يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَاوُنٌ *** وَفِي بَصَرِي غَضٌّ وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ

فَحَظِّي إِذَنْ مِنْ صَومِيَ الجُوعُ وَالظَّما *** فَإِنْ قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَومِي فَمَا صُمْتُ

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ العليمِ الحكيمِ، العليِّ العظيمِ، خلقَ كلَّ شَيْءٍ فقَدَّره تقديراً، أحمدُه على صفاتِه الكامِلة، وأشكرُه على آلائِه السابغةِ، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاّ الله وحده لا شريكَ له لَهُ الملكُ وله الحمدُ وهوَ على كلِّ شَيْء قدير، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه البشيرُ النَّذيرُ، صلَّى الله عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِه والتابعينَ لهم إلى يومِ المصِير وسلَّم تسليماً، أما بعد:

عبادَ اللهِ .. إن اللهَ شرعَ لكم في ختامِ شهرِكم هذا أنْ تؤَدُّوا زكاةَ الفطرِ، وهيَ فريضةٌ على الكبيرِ والصغيرِ والذَّكرِ والأُنثى والحرِّ والعَبْدِ من المسلمينَ، قالَ عبدُالله ابنُ عَمرَ رضيَ اللهُ عنهما: فرضَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ زكاةَ الفطرِ من رمضانَ صاعاً من تَمْرٍ أو صاعاً من شعيرٍ على العبدِ والحرِّ والذَّكرِ والأنثى والصغيرِ والكبيرِ من المسلمينَ.

ويجبُ إخراجُها عن نفسِه وعمن تَلْزَمُه مَؤُونَتُه من زوجةٍ أو قريبٍ إذا لم يستطيعوا إخراجَها عن أنفسِهم، ولا تَجِبُ إلاَّ على مَنْ وَجَدَها زائدةً عما يحتاجُه من نفقةِ يومِ العيدِ وليلتِه، وَهيَ طُهرةً للصائمِ من اللَّغوِ والرَّفثِ وطعمةً للمساكينِ.

وجنسُ الواجبِ في الفطرةِ هو طعامُ الآدميينَ من تمرٍ أوْ بُرِّ أوْ رُزٍّ أو زبيبٍ أوْ أقِطٍ أو غيرِها، كما قالَ أبو سعيدٍ الخدريُّ رضيَ اللهُ عنه: (كنا نُخْرِجُ يومَ الفطرِ في عهدِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ صاعاً من طعامٍ وكان طعامُنَا الشعيرَ والزَّبيبَ والأقِطَ والتَّمرَ)، ولا يُجزِئُ إخراجُ قيمةِ الطَّعامِ لأنَّ ذلك خلافُ ما أَمَرَ به رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ.

وهيَ صاعٌ بصاعِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ وهو ما يُساوي ثلاثةُ كيلو من الأرزِ أو غيرِه من قُوتِ البلدِ، وزمنُ دفعِها له وقتانِ: وقتُ فضيلةٍ ووقتُ جوازٍ، فأمَّا وقتُ الفضيلةِ: فهو صباحُ العيدِ قبلَ الصلاةِ، وأمَّا وقتُ الجوازِ فهو قبْلَ العيدِ بيومٍ أو يومينِ، ولا يجوزُ تأخيرُها عن صلاةِ العيدِ، وتُدفعُ إلى فقراءِ المكانِ الَّذِي هو فيه وقت الإِخراجِ سواءٌ كانَ محلَ إقامتِهِ أو غَيرَه من بلادِ المسلمينَ، فإن كان في بلدٍ ليس فيه فُقراءٌ أو كانَ لا يعرفُ المستحِقينَ فيه وكَّلَ من يدفعها عنه في مكانٍ فيه مستَحِقٌ، وكَذَلكَ شُرعَ لكم في خِتامِ الشَّهرِ التَّكبيرُ من غروبِ الشمسِ ليلةَ العيدِ إلى صَلاةِ العيدِ.

اللهم اجعَل عيدَنا سعيدًا، وعملَنا صالحًا رشيدًا، اللهم أعِده على الأمة الإسلامية بالعِزِّ والنَّصرِ والتَّمكينِ، وكُن لهم خيرَ حافظٍ ومُعينٍ، اللهم انصر إخوانَنا المجاهدينَ في سبيلِك في كلِّ مكانٍ، الذين يُجاهِدون لإعلاءِ كلمتِك وإعزازِ دينِك، اللهم انصر إخواننا المُضطهَدين في دينِهم في كلِّ مكانٍ، اللهم أرِنا في أعدائِك أعداءِ الإسلامِ والمسلمينَ عجائبَ قدرتِك يا قويُ يا جبَّارُ يا عزيزُ، ربنا تقبَّلْ منَّا إنك أنتَ السميعُ العليمُ، وتُبْ علينا إنك أنتَ التَّوابُ الرَّحيمُ، واغفِر لنا إنك أنتَ الغفورُ الرَّحيمُ.

المرفقات

1712170925_رمضان ودخول الجنة.docx

1712170939_رمضان ودخول الجنة.pdf

المشاهدات 1756 | التعليقات 0