رمضان .. وحر الصيف

الحمد لله القائل في كتابه ( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) والصلاة والسلام على خير البرية جمعاء محمد بن عبد الله القائل في سنته ( اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن التقوى هي سبيل النجاة من حر الدنيا والآخرة ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ )
إخوة الإيمان والعقيدة ... إن في تقلب الفصول عبرة لأولي الألباب والأبصار، وفي تنوع الفصول حكم بليغة لا يعيها إلا ذووا القلوب الحاضرة، فهي تذكر في كل وقت بلقاء الله، ونعيم الجنة وعذاب الآخرة.
والله جل وعلا لم يخلق هذه الدنيا عبثاً ولا سدى، إنما خلقها لحكمة بالغة، خلقها لتكون دار بلاء وامتحان وممراً للآخرة ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) فمن وعى قدرها، وعلم حقارتها، وعمل لما بعدها فاز بالرضا والرضوان، والنعيم والجنان، ومجاورة الكريم المنان، ومن فرط فيها وأهمل، وسوَّف، وأضاع عمره سدى خسر السعادة والهناء ونال الهم والشقاء والخلود في دار المهانة والبقاء، دارٌ طعامها من النار، وشرابها من النار، ولباسها من النار، وفراشها من النار، وظلها من النار، فهو يتقلب في النار في كل وقت وآن.
فيا عجباً من غفلة الناس عنها ووقوعهم فيما يؤدي إليها.
عباد الله ... إننا نعيش الآن في فصل من فصول العام، معروف بقوة شمسه، وشدة حره، تقل فيه البرودة، ويكثر فيه الجفاف، ويقل فيه المطر، يهرب الناس فيه من الشمس إلى الظل، ويكثر فيه السفر إلى البلاد الباردة من أجل قضاء هذا الفصل في جو بارد، يكثر الناس فيه من استعمال المكيفات بجميع أنواعها، والمبردات وغيرها من الأسباب كل هذا من أجل الابتعاد عن هذا الحر الشديد.
هذا هو فصل الصيف الذي تجد فيه الكثير من الناس يتأففون، ويتضجرون بسبب الحرارة المفرطة من لهيب الشمس.
عباد الله: إن المؤمن يتذكر النار كلما لفحته رياح الصيف وألهبت وجهه الناعم بحرها فيقول في نفسه: إذا كان هذا من نفس جهنم فكيف بجهنم نفسها؟! نعوذ بالله تعالى منها. وإذا كنا يا عباد الله لا نحتمل نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة، فما الشأن بنار الآخرة؟!.
ولقد كان السلف الصالح يتذكرون هذه الأمور لأن قلوبهم كانت حية، فكل ما يرونه ويشاهدونه في الدنيا يذكرهم بالآخرة.
فبعضهم كان إذا شرب الماء البارد في الصيف بكى وتذكر أمنية أهل النار حينما يشتهون الماء، فيقولون لأهل الجنة ( أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ ) فيحال بينهم، ويقال لهم ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )
وكان بعضهم إذا صبّ على رأسه ماء من الحمام ووجده شديد الحر، بكى وقال: ذكرت قوله تعالى ( يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ) فلا إله إلا الله ... ما أشد تذكرهم وما أعظم اعتبارهم!! وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حرّ الظهيرة، يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار، فإن الساعة تقوم يوم الجمعة. وليس هذا فحسب! فهم رضي الله عنهم رغم انعدام وسائل التكييف والراحة التي ننعم بها في زماننا ــ ولله الحمد ــ إلا أن ذلك لم يقطعهم عن طاعة ربهم مهما كانت مشقتها على النفس.
بعضنا يعجز عن مجاهدة نفسه على القيام ببعض الطاعات، وهو منطرح على فراشه الوثير تحت المكيف، آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده من ألوان الطعام الشيء الكثير، ومع ذلك يتثاقل عن صلاة الفجر جماعةً مع المسلمين، أو يتكاسل عن القيام بحقوق الوالدين، وصلة الأرحام، أو بالإحسان إلى الآخرين وغيرها من أبواب الخير الكثيرة التي فرط فيها الكثير من المسلمين بسبب الغفلة والإعراض.
عباد الله .. أما في الآخرة فانظروا ما يحصل للناس، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم أن يخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.. ).
في هذا اليوم تدنو الشمس من الرؤوس قدر ميل، ليس معهم شيء يمنعهم من هذه الشمس الحارقة لا مظلة، ولا لباس، ولا أي شيء يقيهم حر هذا اليوم، وترى الناس في هذا الموقف يغرقون في العرق حتى يبلغ في الأرض سبعين ذراعاً، قال صلى الله عليه وسلم ( يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب في الأرض عرقهم سبعين ذراعا وإنه يلجمهم حتى يبلغ آذانهم ).
(فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه ).
فماذا أعدننا لهذا اليوم العصيب الذي لا ظل فيه إلا من أظله الله، فتخيلوا - أيها المؤمنون - هذا الموقف الرهيب ونحن حفاةً عراةً غرلاً ليس معنا شيء يسترنا، وليس معنا شيء يحمينا من حر الشمس ووهجها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يتمنى الناس فيه أن يخرجوا منه إلى أي شيء ــ عياذاً بالله من أليم عقابه ــ.
عباد الله: إن المسلم العاقل الذي يعلم حقيقة هذا الموقف حري به أن يأخذ بالأسباب التي تقيه من حر هذا اليوم وشدته، ويحرص على الأخذ بالأسباب التي تهون عليه هذا الموقف العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.




الحمد لله على فضله وإحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
معاشر المؤمنين .. اتقوا الله واعلموا أن من أسباب النجاة من حر يوم القيامة تقوى الله تعالى؛ فالتقوى من أعظم الأسباب التي تقي العبد كربات يوم القيامة ( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )
أما وإن شهر رمضان – شهر الصوم – قد اقترب .. فرض الله صيامه لتحقيق التقوى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ).
فاتقوا الله – عباد الله – وأحسنوا استقبال شهر رمضان المبارك .. فإنه قريب بأنفاسه العطرة وبثغره الباسم وبوجهه المشرق ..
اقترب رمضان بفضائله وفوائده ورحماته ونفحاته ... اقترب رمضان ليقول ( يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر ) اقترب رمضان محذرًا بأعلى صوته ( رغم أنف امرئ دخل عليه رمضان ثم انسلخ ولم يغفر له ) .. اقترب رمضان وفيه تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتسلسل فيه الشياطين. شهر اشتاقت إليهم نفوس المؤمنين .. فهم يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان.
رمضان فرصة للتغيير إلى الأحسن لمن أحسن فيه ...
أتى رمضان مزرعة العباد *** لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولاً وفعلاً *** وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها *** تأوَّه نادمًا يوم الحصاد
عباد الله ... من أراد النجاة والفوز برضا الله فليحرص على طاعة الله تعالى، وليبتعد عن معصية الله، ولينظر كل منا في حاله مع ربه إذا كان يريد النجاة من كربات وشدائد يوم القيامة، فالنجاة لن تكون للمتقاعسين، والغافلين، والمقصرين، بل النجاة تكون للسابقين، والحريصين على الأعمال الصالحة. فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربنا بظلام للعبيد. أسأل الله تعالى بمنه وكرمه وعظيم فضله أن يمن علينا بالنجاة من كربات يوم القيامة، وأن ينجينا من فزع الموقف، وأن يحشرنا في زمرة عبادة الصالحين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المشاهدات 1642 | التعليقات 0