رمضان والنصرة، بين نصرة الأمس وخذلان اليوم
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1432/09/11 - 2011/08/11 00:29AM
رَمَضَانُ وَالنُّصْرَةُ
بَيْنَ نُصْرَةِ الأَمْسِ وَخِذْلاَنِ الْيَوْمِ
12/9/1432
الحَمْدُ للهِ الْقَوِيِّ العَزِيزِ؛ يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ، وَيَكْبِتُ أَعْدَاءَهُ؛ /font][/font][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ[/font][/color][font=al-quranalkareem][font=times new roman {الرُّوم:47}، نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الحَمْدِ، وَنَشْكُرُهُ فَنِعَمُهُ تَزِيدُ بِالشُّكْرِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ رَمَضَانَ شَهْرَ المُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالنَّصْرِ وَالنُّصْرَةِ، وَأَوْجَبَ عَلَى المُسْلِمِ نُصْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ جَمَعَ اللهُ تَعَالَى بِهِ القُلُوبَ بَعْدَ افْتَرَاقِهَا، وَهَدَى بِهِ مِنْ ضَلاَلِهَا؛ فَأَزَالَ شِرْكَهَا، وَرَفَعَ جَهْلَهَا، وَعَلَّمَهَا مَا يَنْفَعُهَا؛ /font][/font][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ[/font][/color][font=al-quranalkareem][font=times new roman {الجمعة:2}، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاغْتَنِمُوا الأَوْقَاتَ الفَاضِلَةَ فِيمَا يُرْضِيهِ، وَحَقِّقُوا مِنَ الصَّوْمِ مَعَانِيَهُ، فَصُونُوا أَنْفُسَكُمْ عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَتَسَابَقُوا إِلَى الطَّاعَاتِ، وَأَكْثِرُوا مِنَ القُرُبَاتِ؛ فَلَيْسَ العَمَلُ الصَّالِحُ فِي رَمَضَانَ كَمِثْلِهِ فِي غَيْرِهِ، وَجَزَاءُ العَمَلِ الصَّالِحِ خُلُودٌ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ /font][/font][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ[/font][/color][font=times new roman][font=al-quranalkareem {البقرة:82}.
أيُّهَا النَّاسُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى رَابِطَةَ الإِيمَانِ أَقْوَى رَابِطَةٍ؛ فَتُقْطَعُ كُلُّ الرَّوَابِطِ بِسَبَبِهَا، وَلاَ تُقْطَعُ هِيَ بِسَبَبِ أَيِّ رَابِطَةٍ أُخْرَى، وَبُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: /font][/font][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ[/font][/color][font=al-quranalkareem][font=times new roman {المجادلة:22}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:/font][/font][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡض[/font][/color][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]ٖ[/font][/color][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]ۚ[/font][/color][font=times new roman][font=al-quranalkareem {التوبة:71}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: /font][/font][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ[/font][/color][font=times new roman][font=al-quranalkareem {الحجرات:10}.
وَإِذَا اسْتُضِيمَ مُسْلِمٌ أَوْ أُهِينَ وَجَبَ عَلَى جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ بَذْلُ النُّصْرَةِ لَهُ بِمَا يَسْتَطِيعُونَ؛ /font][/font][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ[/font][/color][font=times new roman][font=al-quranalkareem {الأنفال:72}، وَفِي إِسْلامِ المُسْلِمِ لِعَدُوِّهِ، وَالتَّخَاذُلِ عَنْ نُصْرَتِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ»، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - َضِيَ اللهُ عَنْهُ-:«الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ».
وَهَذِهِ النُّصْرَةُ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ المُسْلِمِ إِذَا دَهَمَهُ عَدُوٌّ فَاسْتَبَاحَ دَمَهُ أَوْ عِرْضَهُ أَوْ مَالَهُ، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَدُوَّانِ: عَدُوٌّ ظَاهِرٌ، وَهُمُ الكُفَّارُ، وَعَدُوٌّ بَاطِنٌ وَهُمُ المُنَافِقُونَ، وَهُمُ الأَخْطَرُ وَالأَشَدُّ عَلَى الإِسْلامِ؛ لِأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ هَدْمَهُ مِنْ دَاخِلِهِ، وَيَكُونُونَ مَعَ المُؤْمِنِينَ فِي الرَّخَاءِ، وَيَنْقَلِبُونَ عَلَيْهِمْ فِي الشَّدَائِدِ؛ وَلِذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: /font][/font][color=black][font=kfgqpc uthmanic script hafs]هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ[/font][/color][font=al-quranalkareem][font=times new roman {المنافقون: 4}، وَأَشَدُّ المُنَافِقِينَ خَطَرًا عَلَى الإِسْلامِ وَالمُسْلِمِينَ: الفِرَقُ البَاطِنِيَّةُ، الَّتِي أَسَّسَهَا الْيَهُودُ وَغَذُّوهَا حَتَّى قَوِيَتْ وَتَشَّظَتْ إِلَى فِرَقٍ وَمِلَلٍ شَتَّى، يَجْمَعُهَا تَبْدِيلُ الدِّينِ، وَالْكَيْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَرَمَضَانُ الْكَرِيمُ كَانَ مَوْضِعًا لِحَادِثَةٍ عَظِيمَةٍ تَجَلَّتْ فِيهَا النُّصْرَةُ فِي أَجْمَلِ صُوَرِهَا، وَأَعْظَمِ تَضْحِيَّاتِهَا، وَذَلِكَ في أُولَيَاتِ القَرْنِ الثَّالِثِ الْهِجْرِي، حِينَ خَرَجَ الخَلِيفَةُ العَبَّاسِيُّ المُعْتَصِمُ بِنَفْسِهِ يَقُودُ جَيْشًا عَرَمْرَمًا لِنُصْرَةِ قَوْمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ اسْتُضْعِفُوا، فَأُذِلُّوا وَأُهِينُوا، حَتَّى كَتَبَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ قَصِيدَةً يَسْتَنْهَضُ بِهَا الهِمَمَ، وَيُحَرِّكُ الأَشْجَانَ، وَيَشْكُو الظُّلْمَ وَالضَّيْمَ، وَيَنْتَخِي المُسْلِمِينَ بِإِنْقَاذِ كَرَامَةٍ دُنِّسَتْ، وَأَعْرَاضٍ انْتُهِكَتْ، وَأَطْفَالٍ ذُبِحَتْ.
وَبَلَغَ تَحْرِيكُ القُلُوبِ غَايَتَهُ، وَوَصَلَتْ إِثَارَةُ الغَيْرَةِ إِلَى ذِرْوَتِهَا بِصَرِيخِ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ مُسْتَبَاحَةٍ، تَسْتَنْجِدُ بِالخَلِيفَةِ نَفْسِهِ، وَتَسْتَصْرِخُهُ عَلَى الذُّلِّ الَّذِي أَصَابَهَا، وَالعِلْجِ الَّذِي دَنَّسَهَا، فَتَحَرَّكَتِ المُرُوءَةُ، وَدَبَّتِ الغَيْرَةُ، وَاشْتَعَلَتِ الحَمِيَّةُ الدِّينِيَّةُ فِي بَيْتِ الخِلافَةِ العَبَّاسِيَّةِ، فَأَمْسَكَ الخَلِيفَةُ المُعْتَصِمُ عَنْ شُؤُونِهِ، وَصَارَ مَا بَلَغَهُ مِنْ ظُلْمِ ضَعَفَةِ المُسْلِمِينَ يُؤَرِّقُهُ، وَتَتَرَدَّدُ أَبْيَاتُ المُسْتَغِيثِينَ بِهِ فِي أُذُنِهِ، فَتَزَيدُهَا أَلَمًا وَتَحْرِيضًا صَرَخَاتُ العَفِيفَةُ وَهِيَ تَسْتَنْجِدُهُ، فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ، وَرَتَّبَ قَادَتَهُ، وَجَمَعَ جُنْدَهُ، وَوَدَّعَ أَهْلَهُ، وَيَمَّمَ شَطْرَهُ تُجَاهَ صَرَخَاتِ المُسْتَغِيثِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ يَرُومُ إِنْقَاذَهُمْ، فِي عَمُّورِيَّةَ مِنْ بِلادِ الرُّومِ، وَكَانَتْ تُسَمَّى: القُسْطَنْطِينيَّةَ الصُّغْرَى؛ مِنْ عَظَمَتِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَشِدَّةِ تَحْصِينِهَا، وَكَثْرَةِ بُنْيَانِهَا، وَهِيَ آنَذَاكَ أَعْظَمُ مِنَ القُسْطَنْطِينِيَّةِ.
وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِلَيْهَا جَمْعٌ مِنَ البَاطِنِيَّةِ قَدِ اسْتَوْلَوْا عَلَى بَعْضِ الدِّيَارِ فِي آذْرَبِيجَانَ وَمَا حَوْلَهَا، وَخَفَرُوا ذِمَّةَ الإِسْلامِ، وَأَظْهَرُوا النِّفَاقَ، وَاسْتَبَاحُوا الدِّمَاءَ وَالأَعْرَاضَ، وَمَالَؤُوا البِيزَنْطِيِّينَ النَّصَارَى عَلَى المُسْلِمِينَ.
كَانَ مِنْ أُولَئِكَ البَاطِنِيِّينَ: بَابَكُ الخُرَّمِيُّ، زَعِيمُ البَاطِنِيَّةِ المُحَمِّرَةِ الَّذِي اسْتَبَاحَ وَطَائِفَتُهُ المُسْلِمِينَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا يُقَارِبُ مِئَتَيْنِ وَسِتِّينَ أَلْفَ مُسْلِمٍ، وَأَسَرَ الأُلُوفَ مِنْهُمْ، وَاسْتَحَلَّ وَفِرْقَتُهُ الخَبِيثَةُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةِ آلاَفِ امْرَأَةٍ عَفِيفَةٍ مِنْ حَرِيمِ المُسْلِمِينَ، وَفَعَلُوا بِهِنَّ الأَفَاعِيلَ، حَتَّى إِنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- تَأَلَّمَ لِذَلِكَ، وَأَفْتَى بِقُنُوتِ النَّوَازِلِ؛ لِمَا أَصَابَ المُسْلِمِينَ مِنْهُ، وَدَعَا المُسْلِمِينَ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ.
فَبَدَأَ المُعْتَصِمُ بِبَابَكِ الخُرَّمِيِّ البَاطِنِيِّ وَأَتْبَاعِهِ؛ لِأَنَّ أَذَاهُمْ عَلَى المُسْلِمِينَ كَانَ أَشَدَّ مِنْ أَذَى النَّصَارَى؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ البَاطِنِيِّينَ كَانُوا حُلَفَاءَ النَّصَارَى البِيزَنْطِيِّينَ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ إِنْ جَاوَزَهُمْ بِجَيْشِهِ طَعَنُوهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَأَعَانُوا النَّصَارَى عَلَيْهِ؛ فَبَدَأَ بِهِمْ قَبْلَ النَّصَارَى، وَوَجَّهَ قَادَتَهُ لِقِتَالِهِمْ وَالقَضَاءِ عَلَيْهِمْ؛ نُصْرَةً لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ؛ فَفَلَّ المُسْلِمُونَ جُيُوشَهُمْ، وَفَرَّقُوا جُمُوعَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ المُبَارَكِ عَامَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِئَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ، وَلَكِنَّ كَبِيرَهُمْ بَابَكَ الخُرَّمِيَّ هَرَبَ وَاخْتَفَى، حَتَّى أَمْكَنَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ بَعْدَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ المُعْتَصِمُ، وَقَطَعَ أَطْرَافَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ، وَشَفَى صُدُورَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ مِنْهُ.
وَقَضَى أَيْضًا عَلَى حَرَكَةِ البَاطِنِيِّ بِطَبَرِسْتَانَ مَازِيَارَ، الَّذِي أَحْيَا المَجُوسِيَّةَ، وَدَعَا إِلَى شَعَائِرِهَا مِنْ خِلالِ مَذْهَبِهِ البَاطِنِيِّ، فَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ بِجَانِبِ بَابَكِ الخُرَّمِيِّ.
وَلَحِقَ مَنْ بَقِيَ مِنَ المُحَمِّرَةِ البَاطِنِيَّةِ بِجُيُوشِ النَّصَارَى، وَصَارُوا مِنْ جُنْدِهِمْ فِي قِتَالِ المُسْلِمِينَ، وَحَرَّضُوهُمْ عَلَى المَسِيرِ إِلَى عَاصِمَةِ الخِلاَفَةِ بَغْدَادَ؛ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الخَلِيفَةَ وَجُيُوشَهُ قَدْ خَرَجُوا مِنْهَا لِقِتَالِ البَاطِنِيِّينَ ثُمَّ النَّصَارَى، وَنَاوَشَ النَّصَارَى مَا حَوْلَهُمْ مِنْ بِلاَدِ المُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوا فِيهَا وَسَبَوْا بِتَحْرِيضِ البَاطِنِيِّينَ!
وَهَذَا هُوَ دَأْبُ البَاطِنِيِّينَ عَلَى مَرِّ التَّارِيخِ، يُعِينُونَ الأَعْدَاءَ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَيَكُونُونَ جُنْدًا لَهُمْ، فَإِنْ ظَفِرُوا وَظَهَر أَمْرُهُمْ فَإِنَّهُمْ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً، وَلا يَفُونَ لَهُمْ بِعَهْدٍ، وَلا يَرْعُونَ لَهُمْ حُرْمَةً، وَلاَ يَرْحَمُونَ مَنِ انْتَسَبَ لِلْإِيمَانِ؛ طِفْلاً كَانَ، أَمِ امْرَأَةً، أَمْ شَيْخًا كَبِيرًا!
وَبَعْدَ أَنْ قَضَى المُعْتَصِمُ عَلَى البَاطِنِيِّينَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى حُصُونِهِمْ، وَهَرَبَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَى النَّصَارَى، تَوَجَّهَ إِلَى عَمُّورِيَّةَ إِجَابَةً لِصَرْخَةِ العَفِيفَةِ، وَتَلْبِيَةً لِنِدَائِهَا، وَتَأَثُّرًا بِقَصِيدَةِ المُضْطَهَدِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ فِيهَا، فَضَرَبَ الحِصَارَ عَلَيْهَا، وَدَكَّهَا بِالنِّيرَانِ حَتَّى هَدَمَ حِصْنَهَا، وَدَخَلَهَا المُسْلِمُونَ فِي السَّادِسِ مِنْ رَمَضَانَ عَامَ ثَلاثَةٍ وَعِشْرِينَ وَمِئَتَيْنِ؛ فَفَتَحَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَتْحًا مُبِينًا، وَكَانَ هَذَا الفَتْحُ مِنْ أَعْظَمِ فُتُوحِ المُسْلِمِينَ، فَدَخَلَهَا المُعْتَصِمُ وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكِ لَبَّيْكِ؛ إِجَابَةً لِلْمَرْأَةِ الَّتِي اسْتَنْجَدَتْ بِهِ وَاسْتَنْصَرَتْهُ، وَطَلَبَ صَاحِبَ الأَسِيرَةِ الشَّرِيفَةِ، فَضَرَبَ عُنَقَهُ، وَفَكَّ قُيُودَ المَرْأَةِ بِنَفْسِهِ!
لَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ النُّصْرَةُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ فِي عَمُّورِيَّةَ، وَإِجَابَةِ المَرْأَةِ المُسْتَصْرِخَةِ، وَنَجْدَتِهَا وَتَخْلِيصِهَا مِنَ الأَسْرِ، وَتَسْيِيرُ جَيْشٍ جَرَّارٍ يَقُودُهُ الخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ أَعْظَمَ مَنْقَبَةٍ انْفَرَدَ بِهَا المُعْتَصِمُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ خُلَفَاءِ بَنِي العَبَّاسِ، وَلاَ يَزَالُ أَهْلُ التَّارِيخِ يَذْكُرُونَهُ بِهَا، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا مُنْذُ القَرْنِ الثَّالِثِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَقَعَتْ هَذِهِ النُّصْرَةُ فِي رَمَضَانَ، وَكُسِرَ النَّصَارَى وَالبَاطِنِيُّونَ فِي رَمَضَانَ، شَهْرِ النَّصْرِ وَالنُّصْرَةِ، وَكَمْ فِي رَمَضَانَ الحَاضِرِ مِنْ مُسْلِمٍ مُسْتَصْرِخٍ وَمُسْلِمَةٍ مُسْتَصْرِخَةٍ لاَ يَجِدُونَ مَنْ يُسْعِفُهُمْ وَيُنْجِدُهُمْ، فَلِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ الغُمَّةَ، وَأَنْ يَنْصُرَ الأُمَّةَ، وَأَنْ يُعِزَّ المِلَّةَ، وَأَنْ يَرْفَعَ الذِّلَّةَ، إِنَّه سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا فِي هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ مِنَ الدُّعَاءِ لِإِخْوَانِكُمُ المُسْتَضْعَفِينَ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ لَهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ المُعْتَصِمُ إِلَى عَمُّورِيَّةَ لِفَتْحِهَا وَنَجْدَةِ المُؤْمِنِينَ فِيهَا، اجْتَهَدَ فِي القَضَاءِ عَلَى البَاطِنِيِّينَ، وَهَكَذَا فَعَلَ صَلاحُ الدِّينِ فِي فَتْحِ بَيْتِ المَقْدِسِ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الصَّلِيبِيِّينَ؛ فَإِنَّهُ قَضَى عَلَى دَوْلَةِ العُبَيْدِيِّينَ البَاطِنِيَّةِ فِي مِصْرَ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا فِي سُقُوطِ القُدْسِ فِي أَيْدِي الصَّلِيبِيِّينَ، وَمَا فَعَلَ قَادَةُ المُسْلِمِينَ ذَلِكَ إِلاَّ لِعِلْمِهِمْ بِغَدْرِ البَاطِنِيِّينَ، وَمُمَالَأَتِهِمْ لِأَعْدَاءِ المُسْلِمِينَ، وَحِينَمَا كَانَتْ جُيُوشُ العُثْمَانِيِّينَ تَدُكُّ أَسْوَارَ فِييِنَّا لِتَتَوَغَّلَ فِي قَلْبِ أُورُبَّا، طَعَنَهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ إِسْمَاعِيلُ الصَّفَوِيُّ البَاطِنِيُّ؛ فَاضْطُرُّوا لِلتَّقَهْقُرِ وَالتَّرَاجُعِ، فَأَنْقَذَ البَاطِنِيُّونَ أُورُبَّا مِنَ السُّقُوطِ فِي أَيْدِي المُسْلِمِينَ.
وَتَعُودُ أَحْدَاثُ التَّارِيخِ مَرَّةً أُخْرَى، فَالطَّائِفَةُ النُّصَيْرِيَّةُ -التِي خَانَتِ المُسْلِمِينَ فَسَلَّمَتِ الجُولاَن لِليَهودِ فِي بِلادِ الشَّامِ المُبَارَكَةِ- قَدْ أَتَمَّتْ أَرْبَعَةَ عُقُودٍ وَهِيَ تُذِلُّ المُسْلِمِينَ وَتُهِينُهُمْ، وَتَسْتَبِيحُ دِمَاءَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ، وَفِي شَوَارِعِ مُدُنِ الشَّامِ وَأَزِقَّتِهَا مَنَاظِرُ مُفْجعَةٌ مِنْ تَسَاقُطِ الجُثَثِ، وَتَمْزِيقِ الأَطْفَالِ، وَهَتْكِ حُرُمَاتِ بُيُوتِ الحَرَائِرِ العَفِيفَاتِ، وَيَسْتَصْرِخْنَ وَلاَ صَرِيخَ لَهُنَّ وَلاَ مُنْقِذَ، رَغْمَ أَنَّ مِلْيَارَ مُسْلِمٍ وَزِيَادَةً يُشَاهِدُونَهُنَّ عَبْرَ الشَّاشَاتِ، وَيَسْمَعُونَ صَرِيخَهُنَّ، فَمَا أَعْظَمَ الذُّلَّ! وَمَا أَشَدَّ الهَوَانَ! وَمَا أَقَلَّ الحِيلَةَ لِأُمَّةٍ صَارَتْ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ إِلاَّ مَا رَحِمَ اللهُ تَعَالَى!
وَفِي لِيبْيَا بَلَدِ المُخْتَارِ، وَرِجَالِهِ الأَبْطَالِ الَّذِينَ مَرَّغُوا أُنُوفَ الطَّلْيَانِ فِي التُّرَابِ، جِيءَ بِطَاغُوتِهَا العُبَيْدِيِّ البَاطِنِيِّ وَهُوَ شَابٌّ صَغِيرٌ لِيَقْطِفَ ثَمَرَةَ الجِهَادِ، وَلِيَتَسَلَّطَ عَلَى الرِّقَابِ وَالأَعْرَاضِ، فَيَحْكُمَهَا بِالحَدِيدِ وَالنَّارِ أَرْبَعَةَ عُقُودٍ أَيْضًا، وَيُعْلِنَ سَعْيَهُ لِإِقَامَةِ الدَّوْلَةِ العُبَيْدِيَّةِ البَاطِنِيَّةِ الَّتِي يَنْتَمِي إِلَيْهَا، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ حُكَّامِهَا!
وَقَدْ صَدَقَ الفَقِيهُ المُحَدِّثُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ النَّابُلْسِيُّ حِينَ أَوْقَفَهُ المُعِزُّ العُبَيْدِيُّ البَاطِنِيُّ فَقَالَ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: لَوْ أَنَّ مَعِي عَشَرَةَ أَسْهُمٍ لَرَمَيْتُ الرُّومَ بِسَهْمٍ، وَرَمَيْتُ الْمُعِزِّيِّينَ بِتِسْعَةٍ، فَقَالَ: مَا قُلْتُ هَذَا، فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ، قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَكُمْ بِتِسْعَةٍ، ثُمَّ يَرْمِيَكُمْ بِالْعَاشِرِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّكُمْ غَيَّرْتُمْ دِينَ الْأُمَّةِ، وَقَتَلْتُمُ الصَّالِحِينَ، وَادَّعَيْتُمْ نُورَ الْإِلَهِيَّةِ، فَأَمَرَ المُعِزُّ يَهُودِيًّا بِسَلْخِهِ، فَسَلَخَهُ وَهُوَ حَيٌّ، وَكَانَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا إِلَى أَنْ لَقِيَ اللهَ سُبْحَانَهُ، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً.
وَمَنْ رَأَى أَفْعَالَ البَاطِنِيِّينَ بِالمُسْلِمِينَ فِي سُورْيَا، وَلِيبْيَا، وَالعِرَاقِ، وَإِيرَانَ، وَلُبْنَانَ عَلِمَ مَا تُكِنُّهُ قُلُوبُهُمْ مِنَ الضَّغِينَةِ وَالحِقْدِ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ لاَ يَتَوَرَّعُونَ عَنْ قَتْلِ أَطْفَالِ المُسْلِمِينَ، وَتَمْزِيقِ أَشْلائِهِمْ، وَالتَّلَذُّذِ بِعَذَابِهِمْ، وَاسْتِبَاحَةِ أَعْرَاضِهِمْ، كَفَى اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ، وَكَسَرَ شَوْكَتَهُمْ، وَأَذْهَبَ رِيحَهُمْ، وَخَلَّصَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنْ بَرَاثِنِهِمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المشاهدات 3749 | التعليقات 5
لا فض فوك أبا محمد و بارك الله في علمك فقد هيجت النفوس وأثرت كوامنها فالله أسال النصر والعزة للإسلام والمسلمين
جزاكم الله خيراً ونفع الله بكم ..
لا فض فوك ـ شيخ إبراهيم ـ ،،،
أبكيت العيون ، وأدميت القلوب ، وهيجت كوامن النفوس ، وحركت لواعج الصدور بما ذكرت ،،، فأسأل الله العلي القدير في هذا الشهر المبارك أن يعيد للأمة معتصمًا يفعل ما فعل معتصمها الأول ـ عليه رحمة الله ـ ، إن ربي على كل شيء قدير ، ورحم الله أبا تمام حين قال :
أبكيت العيون ، وأدميت القلوب ، وهيجت كوامن النفوس ، وحركت لواعج الصدور بما ذكرت ،،، فأسأل الله العلي القدير في هذا الشهر المبارك أن يعيد للأمة معتصمًا يفعل ما فعل معتصمها الأول ـ عليه رحمة الله ـ ، إن ربي على كل شيء قدير ، ورحم الله أبا تمام حين قال :
السَّيْفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ ... في حدِّهِ الحدُّ بينَ الجِدِّ واللَّعبِ
بيضُ الصَّفائحِ لا سودُ الصَّحائفِ في ... متونِهِنَّ جلاءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ
والعِلمُ في شُهُبِ الأرماحِ لامعةً ... بينَ الخَمِيسَينِ لا في السَّبعةِ الشُّهبِ
فَتحُ الفتوحِ تَعالى أن يُحيطَ بهِ ... نَظمٌ مِنَ الشِّعرِ أو نثرٌ من الخُطَبِ
تدبيرُ مُعتصمٍ باللهِ مُنتقمٍ ... للهِ مُرتقبٍ في اللهِ مُرتغِبِ
ومُطعَمِ النَّصرِ لم تَكْهَمْ أَسِنَّتُهُ ... يَومًا ولا حُجِبتْ عن رُوحِ مُحتَجِبِ
لمْ يرمِ قومًا ولم يَنهَدْ إلى بَلَدٍ ... إلاَّ تَقَدَّمهُ جيشٌ من الرُّعُبِ
لو لمْ يقُدْ جَحفلاً يَومَ الوَغَى لَغَدَا ... مِن نَفسِهِ وَحدَهَا في جَحفلٍ لَجِبِ
رَمى بِكَ اللهُ بُرجَيْها فَهَدَّمَهَا ... ولو رَمَى بِكَ غيرُ اللهِ لم يُصِبِ
مِن بَعدِ مَا أشَّبُوها وَاثِقِينَ بها ... واللهُ مِفتَاحُ بَابِ المَعقِلِ الأَشِبِ
عَدَاكَ حَرُّ الثُّغُورِ المُستَضَامَةِ عنْ ... بَردِ الثُّغُورِ وَعَن سَلسَالِها الحَصِبِ
أجبتَهُ مُعلمًا بِالسَّيْفِ مُنصلِتًا ... وَلَو دُعيتَ بِغَيرِ السَّيْفِ لم تُجِبِ
حتَّى تركتَ عَمُودَ الشِّركِ مُنعفِرًا ... ولم تُعرِّجْ على الأَوتادِ وَالطُّنُبِ
لمَّا رَأَى الحربَ رأيَ العَينِ تُوفَلِس ... والحربُ مُشتَقَّةُ المَعنَى مِنَ الحَرَبِ
غَدَا يُصَرِّفُ بِالأَموالِ جِريَتَهَا ... فَعَزَّهُ البَحرُ ذُو التَّيَّارِ وَالحَدَبِ
هَيهَاتَ زُعزِعَتِ الأَرضُ الوَقورُ بهِ ... عَن غَزوِ مُحتسِبٍ لا غَزوِ مُكتَسِبِ
لم يُنفِقِ الذَّهَبَ المُرْبي بِكَثرَتِهِ ... عَلَى الحَصَى وَبِهِ فَقرٌ إِلى الذَّهَبِ
إِنَّ الأُسودَ أُسُودَ الغَابِ هِمَّتُهَا ... يَومَ الكَرِيهَةِ في المَسلُوبِ لا السَّلَبِ
بيضُ الصَّفائحِ لا سودُ الصَّحائفِ في ... متونِهِنَّ جلاءُ الشَّكِّ والرِّيَبِ
والعِلمُ في شُهُبِ الأرماحِ لامعةً ... بينَ الخَمِيسَينِ لا في السَّبعةِ الشُّهبِ
فَتحُ الفتوحِ تَعالى أن يُحيطَ بهِ ... نَظمٌ مِنَ الشِّعرِ أو نثرٌ من الخُطَبِ
تدبيرُ مُعتصمٍ باللهِ مُنتقمٍ ... للهِ مُرتقبٍ في اللهِ مُرتغِبِ
ومُطعَمِ النَّصرِ لم تَكْهَمْ أَسِنَّتُهُ ... يَومًا ولا حُجِبتْ عن رُوحِ مُحتَجِبِ
لمْ يرمِ قومًا ولم يَنهَدْ إلى بَلَدٍ ... إلاَّ تَقَدَّمهُ جيشٌ من الرُّعُبِ
لو لمْ يقُدْ جَحفلاً يَومَ الوَغَى لَغَدَا ... مِن نَفسِهِ وَحدَهَا في جَحفلٍ لَجِبِ
رَمى بِكَ اللهُ بُرجَيْها فَهَدَّمَهَا ... ولو رَمَى بِكَ غيرُ اللهِ لم يُصِبِ
مِن بَعدِ مَا أشَّبُوها وَاثِقِينَ بها ... واللهُ مِفتَاحُ بَابِ المَعقِلِ الأَشِبِ
عَدَاكَ حَرُّ الثُّغُورِ المُستَضَامَةِ عنْ ... بَردِ الثُّغُورِ وَعَن سَلسَالِها الحَصِبِ
أجبتَهُ مُعلمًا بِالسَّيْفِ مُنصلِتًا ... وَلَو دُعيتَ بِغَيرِ السَّيْفِ لم تُجِبِ
حتَّى تركتَ عَمُودَ الشِّركِ مُنعفِرًا ... ولم تُعرِّجْ على الأَوتادِ وَالطُّنُبِ
لمَّا رَأَى الحربَ رأيَ العَينِ تُوفَلِس ... والحربُ مُشتَقَّةُ المَعنَى مِنَ الحَرَبِ
غَدَا يُصَرِّفُ بِالأَموالِ جِريَتَهَا ... فَعَزَّهُ البَحرُ ذُو التَّيَّارِ وَالحَدَبِ
هَيهَاتَ زُعزِعَتِ الأَرضُ الوَقورُ بهِ ... عَن غَزوِ مُحتسِبٍ لا غَزوِ مُكتَسِبِ
لم يُنفِقِ الذَّهَبَ المُرْبي بِكَثرَتِهِ ... عَلَى الحَصَى وَبِهِ فَقرٌ إِلى الذَّهَبِ
إِنَّ الأُسودَ أُسُودَ الغَابِ هِمَّتُهَا ... يَومَ الكَرِيهَةِ في المَسلُوبِ لا السَّلَبِ
ورحم الله الشاعر السوري عمر أبو ريشة حيث قال :
أُمَّتي هَل لَكِ بَينَ الأُمَمِ ... مِنبرٌ لِلسَّيفِ أَو لِلقَلَمِ
أَتَلَقَّاكِ وَطَرفي مُطرِقٌ ... خَجِلاً مِن أَمسِكِ المُنصَرِمِ
وَيَكَادُ الدَّمعُ يَهمِي عَابِثًا ... بِبَقَايَا كِبرِيَاءِ الأَلمِ
أَينَ دُنيَاكِ الَّتي أَوحَت إِلى ... وَتَرِي كُلَّ يَتِيمِ النَّغَمِ
كَم تَخَطَّيتُ عَلَى أَصدَائِهِ ... مَلعَبَ العِزِّ وَمَغنى الشَّمَمِ
وَتَهَادَيتُ كَأَني سَاحِبٌ ... مِئزَرِي فَوقَ جِبَاهِ الأَنجُمِ
أُمَّتي كَم غُصَّةٍ دَامِيَةٍ ... خَنَقَت نَجوَى عُلاكِ في فَمِي
أَيُّ جُرحٍ في إِبَائِي رَاعِفٌ ... فَاتَهُ الآسِي فَلَم يَلتَئِمِ
أَلاسرَائِيلَ تَعلُو رَايَةٌ ... في حِمَى المَهدِ وَظِلِّ الحَرَمِ ؟!
كَيفَ أَغضَيتِ عَلَى الذُّلِّ وَلم ... تَنفُضِي عَنكِ غُبَارَ التُّهَمِ ؟
أَوَمَا كُنتِ إِذَا البَغيُ اعتَدَى ... مَوجَةً مِن لَهَبٍ أَو مِن دَمِ ؟!
كَيفَ أَقدَمتِ وَأَحجَمتِ وَلم ... يَشتَفِ الثَّأرُ وَلم تَنتَقِمِي ؟
اِسمَعِي نَوحَ الحَزَانى وَاطرَبي ... وَانظُرِي دَمعَ اليَتَامَى وَابسِمِي
وَدَعِي القَادَةَ في أَهوَائِهَا ... تَتَفَانى في خَسِيسِ المَغنَمِ
رُبَّ وَامُعتَصِمَاهُ انطَلَقَت ... مِلءَ أَفوَاهِ البَنَاتِ اليُتَّمِ
لامَسَت أَسمَاعَهُم لَكِنَّهَا ... لم تُلامِسْ نَخوَةَ المُعتَصِمِ
أُمَّتي كَم صَنِمٍ مَجَّدتِهِ ... لم يَكُنْ يَحمِلُ طُهرَ الصَّنَمِ
لا يُلامُ الذِّئبُ في عُدوَانِهِ ... إِنْ يَكُ الرَّاعِي عَدُوَّ الغَنَمِ
فَاحبِسِي الشَّكوَى فَلَولاكِ لَمَا ... كَانَ في الحُكمِ عَبِيدُ الدِّرهَمِ
أَيُّهَا الجُندِيُّ يَا كَبشَ الفَدَا ... يَا شُعَاعَ الأَمَلِ المُبتَسِمِ
مَا عَرَفتَ البُخلَ بِالرُّوحِ إِذَا ... طَلَبَتهَا غُصَصُ المَجدِ الظَّمِي
بُورِكَ الجُرحُ الَّذِي تَحمِلُهُ ... شَرَفًا تَحتَ ظِلالِ العَلَمِ
جزاكم الله تعالى خيرا إخواني الكرام، وشكر لكم على مشاعركم الفياضة وتألمكم لمصاب المسلمين، وأسأله تعالى أن يستجيب دعواتكم، وأن يرفع الذل والهوان عن الأمة إنه سميع قريب مجيب..
وقد ازدانت الخطبة بتعليقاتكم النيرة وفقكم الله تعالى لكل خير، وتقبل مني ومنكم..آمين.
شبيب القحطاني
عضو نشطبارك الله فيك خطبة عصماء نسأل الله القدير أن يهيئ للأمة من يقوم بحقها وينصر ضعيفها ويرد كرامتها وعزها والعز كل العز في التمسك بالتوحيد والسنة واتباع السلف الصالح
تعديل التعليق