رمضان والطاعة

رَمَضَانُ وَالْطَّاعَةُ
3/9/1431


الحمد لله رب العالمين؛ شرع لعباده من الطاعات ما يزكي نفوسهم، ويصلح قلوبهم، ويهذب شهواتهم، ويرفع درجاتهم، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ما دعاه العباد ورجوه إلا غفر لهم على ما كان منهم من عظيم الخطايا ولا يبالي: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82].

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، "كان أَجْوَدَ الناس، وكان أَجْوَدُ ما يَكُونُ في رَمَضَانَ حين يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكان جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كل لَيْلَةٍ من رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حين يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ من الرِّيحِ المُرْسَلَةِ". صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا شهركم بأنواع الطاعات، ولن يتأتى ذلك لكم إلا بترك فضول الكلام والنظر والسماع والطعام، ومجانبة مجالس اللهو والباطل التي تصد عن ذكر الله تعالى، واعلموا أن من أعظم مقاصد الصيام حصول التقوى، ولن يحقق التقوى من يصوم عن الطعام والشراب ثم يفطر على ما حرم الله تعالى من فضول النظر والكلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].

أيها الناس: تتسم النفس البشرية بصفتين متلازمتين هما: القياد والانقياد؛ فالإنسان يقود من هو تحته، وينقاد لمن هو فوقه، وصاحب القياد يجب أن لا يتعسف في قياده وإلا كان ظالمًا، والمقود يجب أن لا ينقاد إلا في المعروف وإلا كان مهيناً ذليلاً، معدوم الشخصية، فاقد الكرامة.

والشريعة الغراء هذَّبت محبة الإنسان لقياد غيره فجعلت لها حدودًا، وهذبت كراهية الإنسان للانقياد إلى سوى نفسه فأوجبتها بالمعروف.

والانقياد التام، والطاعة المطلقة لا تكون إلا لله تعالى وللمبلغ عنه رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال:20]، (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) [آل عمران:32] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [محمد:33]؛ وسبب ذلك: أن الله تعالى أعلم من الخلق بما يصلحهم وينفعهم، وأرحم بهم من أنفسهم، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هو المبلغ رسالته للناس، ومعصوم من الخطأ في ذلك، وأما سائر الناس ففيهم الناصح والغاش، وفيهم العالم والجاهل، وفيهم المصيب والمخطئ، ولا يسلم أحد من الخطأ؛ ولذا كانت طاعة غير الله تعالى وغير رسوله -صلى الله عليه وسلم- مشروطة بعدم معارضتها لطاعة الله ورسوله.

إن البشر لا يستقيم لهم عيش، ولا تنتظم أمورهم، ولا تصلح أحوالهم إلا بأن يقودوا وينقادوا، ويطيعوا ويطاعوا، والشريعة الربانية رتبت ذلك بين البشر، فأوجبت على الولد طاعة الوالدين: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء:24]، وجاء رَجُلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْذِنُهُ في الْجِهَادِ فقال: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟!"، قال: نعم، قال: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ". رواه الشيخان. أي: جاهد في خدمتهما، والخدمة غاية الطاعة.

لكن هذه الطاعة المأمور بها مشروطة بأن لا تعارض طاعة الله تعالى ولا طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنها فوقها؛ ولأنها ما كانت إلا بها، فلا تقدم عليها: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) [العنكبوت: 8].

كما أوجب الله تعالى طاعة من ولي على الناس، سواء اتسعت ولايته كالإمام الأعظم، أم صغرت ولايته، فطاعته تجب على من هم تحت إمرته؛ عملاً بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59]، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بطاعة من ولاه الله تعالى أمرهم.

لكن هذه الطاعة كالتي قبلها مشروطة بأن لا تعارض طاعة الله تعالى وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي قصة الجيش الذي بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمَّر عليهم أميرًا فغضب منهم وأوقد نارًا وأمرهم بدخولها، مستندًا إلى أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إياهم بطاعته، فَهَمَّ قوم بدخولها طاعةً له، لكن آخرين منهم فكّروا وقالوا: إنما تَبِعْنَا النبي -صلى الله عليه وسلم- فِرَارًا من النَّارِ، أَفَنَدْخُلُهَا؟!، فلما ذُكِرَ ذلك لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو دَخَلُوهَا ما خَرَجُوا منها أَبَدًا، إنما الطَّاعَةُ في الْمَعْرُوفِ". رواه الشيخان.

إن الناس تجاه الطاعة طرفان ووسط؛ فطرف أعلنوا تمردهم على الشرائع بدعاوى التحرر، ورفضوا طاعة سواهم ولو كان ربًّا خالقًا، أو نبيًّا مرسلاً، لكنهم في واقع الأمر فرُّوا من طاعة من يستحق الطاعة، فوقعوا في طاعة من لا يستحق الطاعة، وهو الهوى والشيطان.

وطرف آخر عطلوا عقولهم، وانقادوا لبشر مثلهم، وأطاعوهم طاعة عمياء، وجعلوا ما شرعوا لهم من الدين فوق شريعة الله تعالى، وتظهر هذه الطاعة جلية في أرباب الفرق الباطنية التي اتخذ أتباعها أئمة وأسيادًا وأولياء، فمنهم من جعلوا لأسيادهم وأوليائهم وأئمتهم من القدرة ما لله تعالى، فاستغنوا بطاعتهم عن طاعة الله تعالى، وبدعائهم عن دعائه سبحانه، وهذا أكبر أنواع الضلال والشرك في الطاعة.

ومنهم من جعلوا لأئمتهم وأسيادهم وأوليائهم ما للرسل -عليهم السلام- من العصمة، فأطاعوهم فيما يخالف شرع الله تعالى، بل انتهكوا أعراضهم، وانتهبوا أموالهم، وسخروهم عبيدًا لهم، بدعوى العصمة والولاية، ويربون أتباعهم على الطاعة العمياء التي لا نقاش فيها ولا جدال، ولو أخبروهم بما يخالف العقول، أو أمروهم بما يعارض الشرائع، وإنما يربونهم على ذلك لضمان سخرتهم لهم، واستغلالهم في خدمتهم.

وكثير من الممارسات الشاذة، والطقوس الغريبة التي يفعلها الأتباع إنما فعلوها طاعة لسادتهم وأئمتهم المضلين، وهذا يبين أهمية ترشيد الطاعة، وبيان ترتيب وجوبها من الأعلى -وهو الخالق سبحانه وتعالى- إلى الأدنى -وهو المخلوق-، فلا تتجاوز طاعة المخلوق طاعة الخالق، وهذا ما فعله أهل الحق والهدى؛ إذ كانوا وسطًا بين طائفة المتمردين على الشرائع الربانية، وبين الغالين في طاعة السادة والأئمة، فجعلوا الطاعة المطلقة لله تعالى ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأعطوا كل مخلوق له عليهم طاعة حقه منها بلا غلو ولا بخس، وجعلوا طاعته من طاعة الله تعالى التي أوجبها عليهم.

إن المعتنين بالتربية والسلوك يولون جانب القياد والانقياد أهمية كبرى لإحداث توازن بينهما فيمن يقصدون تربيته، فلا يطغى جانب القياد عليه فيكون عنيدًا متمردًا مستبدًا ظالمًا، ولا يجنح إلى الانقياد دومًا فيكون إمعة ذليلاً ضعيفًا، ولهم في ذلك بحوث ودراسات وتجارب؛ حتى ذكروا أن الكلاب تدرب على الطاعة بإيثاق أعناقها بالسلاسل، وشدة في إصدار الأوامر إليها، وحرمانها من بعض حقوقها، فلا تنالها إلا بالإذلال والطاعة المطلقة، وتالله إن أغلال العقول بالعقائد الفاسدة والأفكار الخاطئة أشد إيثاقًا، وأكثر إذلالاً للبشر من السلاسل في أعناق الكلاب.

وأغلب الظلم في الأرض، وأكثر الإبادات البشرية -إن لم يكن كلها- كان سببها الأعظم الطاعة العمياء من المأمور للآمر، وكثير من الانتصارات النازية التي أُفني فيها ألوف من البشر يعود سببها للقائد الألماني (روميل) الذي لقب بثعلب الصحراء، ولم يكن مؤمنًا بالأفكار النازية، لكن طاعته المطلقة لقائده (هتلر) دفعته لإفناء كثير من الناس بلا جريرة منهم، ولا قناعة منه بما كان يفعل.

وذكر أهل السير أن الوليد بن عبد الملك الأموي لما ابتنى مسجد دمشق قال لأصحابه: "أقسمتُ عليكم لَمّا أتاني كل واحد منكم بِلَبِنَةٍ، فجعل رجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟! قال: من أهل العراق. فقال: يا أهل العراق: تفرطون في كل شيء حتى في الطاعة".

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يجنبنا ما يسخطه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا هذا الشهر الكريم بما يكون سببًا في رضوان الله تعالى عليكم، فما هي إلا أيام معدودات وينقضي، فيربح فيه من ربح، ويخسر فيه من خسر، وإنما الربح اكتساب الحسنات، وإنما الخسارة جمع السيئات: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية:21].

أيها المسلمون: من تأمل فريضة الصيام وما يحتفُّ بها من أحكام، علم أن من أعظم مقاصد هذه الفريضة العظيمة تربية الصائم على الطاعة المشروعة التي لا تتجاوز حدها فتنقلب إلى غلو وتنطع، ولا تقصر عنه فتؤدي إلى الرفض والتمرد؛ فالإمساك عن الطعام والشراب والنكاح في وقت معين من أعظم ما يربي على الطاعة والانقياد؛ ولذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ من أَجْلِي". رواه الشيخان.

ولا أدل على ذلك من انقياد العرب للصيام مع أنهم لم يألفوه، بل كانت الشرائع تنزل عليهم وفيها من التكليف والتشديد ما لم يعتادوا، لكنهم بطاعتهم وامتثالهم اعتادوه، فخفف الله تعالى عنهم لما رأى استجابتهم وسمع قولهم: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ) [البقرة:285].

ومن مظاهر التربية على الطاعة بالصيام أن الله تعالى جعله فريضة في زمن مخصوص، فاليوم الذي قبله يحرم صومه للاحتياط، واليوم الذي بعده يجب الفطر فيه، والشهر الذي بين اليومين المحرمين يجب صومه، والتزامُ المسلمين بذلك من أعظم ما يربي فيهم الانقياد والطاعة والإذعان للشرائع.

ومظاهر التربية على الطاعة في أحكام الصيام وتفصيلاته كثيرة، منها ما تظهر حكمته ومنها ما تخفى على الناس، ومن تلكم الأحكام التي تكرس الطاعة والإذعان في نفس الصائم: تعليق الصيام بالرؤية ونفي الحساب، وإيجاب الفطر على الحائض والقضاء، والنهي عن الوصال في الصوم، واستحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور، مع أن الفارق أحيانًا دقائق معدودة لا تؤثر فيمن صام ساعات طوالاً، لكن فيه تربية على مزيد من الطاعة والامتثال؛ لموافقة السنة، ومخالفة أهل البدعة الذين يؤخرون الفطور.

ومن أعظم مظاهر التربية بالصيام على الطاعة: الأمر بحبس اللسان، وما أعسر حبسه على الإنسان!! ليتربى الصائم على الطاعة والامتثال حتى فيما ينطق به لسانه، وتتوارد النصوص النبوية مؤكدة هذا الأمر العظيم للصائم؛ ففي حديث أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله –صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيسَ لله حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ". رواه البخاري.

فأي تربية على الطاعة أعظم من حبس اللسان عما لا ينفع من الكلام؛ لئلا يذهب أجر الصيام؟! بل تتعدى التربية على الطاعة والانقياد ذلك إلى أمر الصائم بمقابلة من جهل عليه بالحلم، ورد إساءته بالإحسان، وعدم مجاراته في سفهه؛ وذلك بجعل الصيام درعًا واقيًا عن الإساءة التي تكون سببًا في استجلاب العذاب لصاحبها، ويظهر ذلك في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "الصِّيامُ جُنَّةٌ، فإذا كَانَ أَحَدُكُم صَائِمًا فلا يَرْفُثْ ولا يَجهَلْ، فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَه فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ، إني صَائِم". رواه الشيخان.

قارنوا ذلك بإخبار العربي في جاهليته أن من جهل عليه فسوف يرد ذلك بجهل فوق جهل الجاهلين.

ولما رباه الإسلام على الطاعة صار يرد الجهل بالحلم، والإساءة بالإحسان، ويسعى في حبس اللسان حال الصيام بأي طريق كان كما كان أَبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- وأَصْحَابُهُ إِذَا صَامُوا قَعَدُوا في المَسْجِدِ، وقَالَوا: "نُطَهِّرُ صِيَامَنَا".

اللهم صل على محمد وآل محمد...
المشاهدات 2285 | التعليقات 0