رمضان والانتصار

إبراهيم بن صالح العجلان
1436/09/09 - 2015/06/26 00:17AM
معاشر المسلمين :
ها نحنُ نَعيشُ شَهرَنا الكريمَ بخيرِه وخَيراتِه ، ونُورِه وهِداياتِه ، تَذُوقُ فيه القلوبُ طعمَ الإيمانِ ، ولذَّةَ العبادةِ ، وحلاوةَ الطاعةِ .
إطلالةُ شهرِنا الكريمِ فرحةٌ وتَحميدٌ ، وخِتَامُه تكبيرٌ وتَمْجيدٌ ، وما بينهما نورٌ في الصدورِ ، وطُمأنينةٌ في القلوبِ .
يأتي رمضانُ فَيُثْبِتُ لنا أنَّ العبادةَ سهلةٌ ميسورةٌ ، لمن صَدَقَ وأَخَلَصَ ثم استعانَ بالله، فمساجدُنا تمتلئُ بالراكعينَ الساجدينَ، وصفوفُنا تَشهدُ بالسبَّاقينَ المنافسينَ، جِبَاهٌ وضَّاءةٌ ، تسجد لباريها، ودموع رقراقة، تَتَقَاطرُ على مَآقِيها ،ويا باغيَ الخيرِ أقبلْ ويا باغيَ الشرِّ أقصرْ .
هذه عبوديةُ رمضانَ ، وتلك أيامُه وساعاتُه ، ولئِنْ كان رمضانُ موسمَ التقوى والقرآن ، والعملِ والإحسان ، فهو أيضاً شَهرُ العزِّ والنَضْر ، والغَلَبَةِ والظَفْر .
في رمضانَ تجلَّت معانيَ النَّصرِ من جميعِ أبوابِها المعنويةِ والحسيةِ ،
ففي رمضانَ انتصرَ التوحيدُ على الشركِ ، فشَهِدَ هذا الشهرُ مبعثَ خيرِ رسولٍ وآخِرِ رسلٍ ، r.
وفي رمضانَ انتصرَ العلمُ على الجَهل ، فأولُّ آيةٍ نَزلَ بها الرُّوحُ الأمينُ على قلبِ سيدِ المرسلينَ : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )
وفي رمضانَ تَنْتَصِرُ النَّفْسُ اللوامةُ على النَّفّْسِ الأمَّارةِ، ويَنْتَصِرُ الهُدى والتُّقَى على الإعراضِ والهوى ، وفي رمضانَ ظهرَ الحقُّ وزَهَقَ الباطلٌ ، وبَدَّدَتْ أنوارُ الهدايةِ ظُلماتِ الضَّلالةِ .
وفي رمضانَ أُرْسِيَ العدلَ وتَطَاوَلَ وارتَفَعْ ، وكُسِرَ الظُّلمُ وتهاوى وخَنَعْ .
فرمضانُ يُسَطِّرُ المجدَ ، ويَصْنَعُ النَّصْرَ ، ويَرْسُمُ لوحةً خالدةً ، حُروفُها العزُّ والرفعةُ والغَلَبَةُ .
قَلِّبْ معيَ النَّظَرَ في مساربِ التاريخِ، لترى أنَّ الانتصاراتِ الحاسِمَةِ لأمةِ الإسلام ، والتي شَهِدَتْ تحولاتٍ في تاريخِها ، وفي موقفِ ومكرِ أعدئِها كانت في رمضان .
سَلُو صحائفَ الزمان، متى تنزَّلتْ ملائكةُ الرحمنِ، فصفَّتْ مع كتائبِ الإيمان، وقاتلتْ يومَ الفرقان، يومَ التقى الجمعان ، تُجِيبُكم أنَّ ذلك كان في رمضان .
هاهو رسولُ الله الهدى صلى الله عليه وسلم يخرجُ بأصحابِه في رمضانَ ،يريد عِيرَ قريش،وهم قليلون بلا عدد ولا عُدَّة : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة)
نعم انتصرَ الأذِلةُ ، لأنَّ قلوبَهم مع اللهِ معلَّقة ، فكانت معنوياتُهم بعدها عاليةً بإيمانها ، صادقةَ في طلبِ رضا اللهِ والشهادةِ ، فها هو أحدُ أبطالِ الكتيبةِ المحمديةِ من المهاجرينَ يقول : يا رسول الله امضِ لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ههنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحقِ لو سِرْتَ بنا إلى بَرْكِ الغَمَادِ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه) .
بهذه الروحِ العاليةِ ، والصدقِ مع الله ، كَسَرَتْ هذه الكتيبةُ المؤمنةُ القليلةُ رياءَ قريشٍ وبَطْرَها ، فَتَطَامَنَ كبرياؤُها ، وعادتْ حَسِيرَةً كسيرة ، مُهانةً ذليلة .
وفي عاشر رمضانَ من السنةِ الخامسةِ للهجرةِ خرجت قريشٌ بخيلها وخيلائها، وكِبْرِها وكُبَرَائِها في جيشٍ عظيمٍ قدْرُه عشرةُ الآف، لم تَشْهدُه جزيرةُ العرب ِفي تاريخها ، فكانت خطةُ المسلمين في المواجهة تكون بتحصينِ المدينةِ بحفرِ خندق يحول بينهم وبين العدو ، فعاشوا أغلبَ الشهرِ في حفر هذا الخندق ، ولاقوا في الحفر شدةً وتعباً وجوعاً، وكان لهذا الاستعدادِ والتخطيطِ أثرُه بعد الله في الانتصار ، فأرسلَ اللهُ بعد رمضان معجزةَ الرياح ( وردَّ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً ) وأَنجزَ الله وعدَه ، ونَصَرَ جندَه ، وهزَمَ الأحزابَ وحده .
وكان لهذا النصر أثرُه في تحوُّلِ القوة ، ولذا قال النبي r بعد أن ولَّت جحافلُ الشركٍ أدراجَها : ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا ،نحن نسير إليهم ) .
ولم تمض سنواتٌ ثلاث إلا ومكة َبِبَيْتِها وجبالِها وفجاجِها تحتفي في شهر رمضان بدخولِ أكرمِ البريةِ وخيرِ البشرية ، فدخلها صلى الله عليه وسلم فاتحاً مطأطأ رأسَه متواضعاً ، شاكراً حامداً ، فهُدِّمتْ الأصنام ، وتهاوت راياتُ الوثنية ، وطُهِّرتْ مكةُ من أدران الشرك والجاهلية ، وتحولت مكة بعد هذا الفتح إلى أرض إسلامية خالصة .
وفي رمضان يَجتاحُ الجيشُ المغولي التتري أرضَ الإسلام ، فيحتلُ العراقَ، ويبتلعُ بغدادَ ويحرِّقها ، ويَلتهمُ حلبَ الشامِ ويمزِّقها ، وعَظُمَ البلاءُ وزلزلة القلوب، مليونَ قتيلٍ في أرضِ العراق ، وقريباً منه في أرضِ الشام ، شلالاتٌ من الدماء ، ومناظرُ مروعةٌ في قتلِ الأطفالِ والأبرياء ، واستيئست القلوبُ ووهَنَتْ، حتى قال ابن الأثير وهو ممن عاصر تلك الأحداث : ( فمن الذي يَسْهل عليه أن يَكتبَ نعيَ الإسلام والمسلمين ، ومن الذي يَهُون عليه ذكر ذلك ، فياليت أمي لم تلدني ، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ).
ولكنَّ الله الذي اصطفى هذه الأمةِ واختارَها ، وكتب أن يُظهرَ دينَه ويبقى قد هيأَ أسبابَ النصر ، فقيَّض للأمةِ المماليك ، فكانوا أهلَ الموقف ، وأبطالَ الحَدَث ، فخرجوا من مصرَ لملاقاةِ العدوِّ التتري ، فالتقى الجمعانِ في الشام في الخامس والعشرين من رمضان، في معركة تاريخية عظيمة هي عين جالوت، فثبَّت اللهُ الأقدام، وكان شعارُ المسلمين يومئذ : (وآسلاماه )، وصَدَقوا مع الله، فنَزَلَ النصر، وحلت الهزيمة بالتتار، وفروا من الشام خائبين خاسرين ، وأحدث هذا النصر تحولاً كبيراً في نفوس المسلمين ورفع معنوياتهم، وكَسْرِ صنمِ الخوفِ الجاثمِ على صدورِهم من التتر.
وفي رمضان سنة خمسمائة وثلاث وثمانين ، كانت أمةُ الإسلام على موعدٍ مع معركةٍ حاسمةٍ لا تنسى،وفتحٍ خالدٍ لا يمحى ، بطلُ هذه المعركةِ القائدُ الأيوبيُ صلاحُ الدين الذي كَسَرَ الصليبين ،في أرض الأردن في معركة حطين .
هذه المعركة حوَّلَت ميزانَ القوةِ في أرضِ الشامِ ، المحتلة من الصليبيين ، ومهَّدت هذه المعركةُ لفتحَ القدس بعد ثلاثة أشهر ، ففتحها صلاح الدين ، بعد أن سلَّمها الرافضة العبيديين للصليبيين .
وفي أرض ِالشامٍ عادَ المغولُ فأحدثوا في الأرض الفساد ، اجتاحوا حمص ، فقتلوا رجالَها وأطفالَها ، وسرقوا أموالَها ، وهتكوا أعراضَ نسائِها ، وبلغت جرائمُهم عنانَ السماء ، وخاف الناسُ من جبروتِهم وبطشهم خوفاً عظيما ، فلم يكن أمامَ أهلِ الإسلام رغم ضعفِهم وتشتُّتِهم إلا الجهادُ والمقاومة ، فحدثت معركةُ شقحب، معركةٌ بين من يَهْتِفُ بلا إله إلا الله ، ومن يهتف بتمجيدِ ملوكهم وفراعنتهم ، وشارك في هذه المعركةِ العَلَمُ الشامي ، شيخ الإسلام ابن تيمية الحَرَّاني ، وكان له دورُ كبيرٌ في تحريض الناس ، وتثبيتهم وتعليق قلوبِهم بالله .
بدأت المعركة عصراً في الثاني من رمضان وانتهت في اليوم الثالث ظهراً، فرَّ بعدها التترُ من أرضِ الشام ، وكان يوماً مشهوداً لا ينسى .
عباد الله : وحين نَسْتَنْطِقُ صفحاتِ تاريخنا نجدُها متخمةً بمعارك اسلاميةٍ حاسمةٍ كانت في رمضان ، فمن منا لا يعرف معركةَ بلاطِ الشهداء ، أو فَتحَ عمُّورية ، أو معركةَ الزلاقة ، هذه المعارك وغيرُها كثير كانت في رمضان .
فشهرنا هذا كأنما يخاطبُنا بعزنَّا وماضينا ، وكأنما يزرعُ فينا الأمل رغم الألم ، ويحدثنا بالانتصارات ، رغم الهوان والتشاؤمات.
فحُقَّ لنا أن نفرحَ ونسعدَ برمضان ، فمن رمضان نتغير ، ونصحح في الحياة مجرانا، ومن رمضان نرفعُ جهلنا، ونقوي ضعفنا ،ونجْمعُ شملنا ،ونوحدُ صفنا.
فسَلامٌ عليك يا رمضان ، سلام عليك يا شامةَ الشهور ، سلام عليك مدد الدهور فاللهم أصلحنا في رمضان، ووفقنا في رمضان، وتسلم منا رمضان على أحسن حال .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....

الخطبة الثانية
أما بعد فيا إخوة الإيمان : هذا الارتباطُ بين شهرِ الصوم وبين النصر ليس ارتباط مصادفة ، بل هو ارتباطٌ يدعوا إلى التفكرِ والاعتبار ، فكل ُّمؤهلاتِ وأسبابِ النصرِ تكونُ وتجتمعُ في رمضان.
فأولُّ خطواتِ النصر: تعلق القلوب بالله جل حلاله وتقدست أسماؤه ، فالنصر لا يُستجلب من قوة أرضية ، وإن كان الله سبحانه قد يسخرها ، ويجعلها سبباً ، وإنما النصر يُستمطرُ من السماء ، (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) .
وفي رمضان تتعلق القلوبُ بباريها وتُخْلِصُ له ، فالصومُ عبادةٌ خفية بين العبد وربه ، فيظهر الصدقُ مع الله ، فالصائم أمين على نفسه .
وفي رمضان تتربى الأمةُ على الصبر، والصبر مرتبط بالنصر، وفي الحديث : (واعلم أنَّ النصر مع الصبر).
وفي رمضان تنتصرُ النفس على نَزغاتها وشهواتها ، وفيه أيضاً يستشعر الصائمون بحاجةِ المساكين ، وخماصةِ المحتاجين ، فيحصل الإحسان والمواساة ، وفي الحديث : ( إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم )
هذا النصر من عند الله مرهون ومعلق بنصرتنا لدينه ، وغيرتنا عليه، واستجابتنا لتعاليمه ، ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )
فأبشروا يا أهل الإيمان فشهر رمضان شهر ننتصر فيه ...
فكن يا أخا الإسلام من أهل النصر ، وسجل اسمك في قائمة أهل النصر .
سجل ذلك ، بتضرعك ودعائك ، ولسانك ومالك ، وبقلمك وجاهك ، كن مع أهل النصر بما تستطيعه من نَصْر ، وابشر واستبشر بنصر الله القادم ، فالأمل بالله وحده كبير ، ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء)
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ....


المرفقات

رمضان والانتصار.docx

رمضان والانتصار.docx

المشاهدات 1954 | التعليقات 0