رَمَضَانُ اقْتَرَبَ إِهْلَالُهُ وَقَلْبُ كُلِ مُؤمِنٍ وَآلِه. 1443/8/29هـ
عبد الله بن علي الطريف
رَمَضَانُ اقْتَرَبَ إِهْلَالُهُ وَقَلْبُ كُلِ مُؤمِنٍ وَآلِه. 1443/8/29هـ
أيها الإخوة: غداً أو بعد غدٍ إن شاء اللهُ سيهل علينا هِلالٌ طالما انتظرناه، وسنستقبلُ بهذا الإهلال شهراً عظيماً، وضيفاً كريماً، ضيفٌ تزدان به الدنيا وتشرقُ أنوارها، وتحل به البركات وتتضاعف الحسنات... وتهبُ فيه رياحُ الإيمانِ وتنسابُ بين أرجائِها... شهرٌ جاء بعد طول غياب ووله من الأحباب فصار حلوله مستطاب..
شهرٌ كان يبشرُ بمقدمِه رَسُولُ الله ﷺ فيقولُ لِحُضُورِهِ: «قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ». رواه أحمد والنسائي بسند صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هكذا كان يبشر رَسُولُ الله ﷺ بالضيف الكريم.. فمرحبًا بك يا رمضان.. حبيبًا جئت على ولَهٍ منا وطولِ انتظار.. جئت بعد غياب عامٍ مات فيه أقوامٌ ووُلِدَ آخرون.. واغتنى قومٌ وافتقر آخرون.. وسَعِدَ قومٌ وشقي آخرون.. واهتدى قومٌ وضلَّ آخرون.
أحبتي: الحياةُ فُرصٌ والمواسمُ أغلَاها؛ فبادرُوها قبل فَوَاتها وذهابِ الأعمار.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ» رواه الطبراني في الكبير عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وحسنه الألباني.
ها هي رياحُ الإيمانِ قد هبَّت، ومواسمُ الخيرِ قد أقبلت فالسعيدُ من اغتنمَها، والشقيُ من فاتته.. فرمضانُ صيامٌ وصلوات.. جهادٌ ودعوات.. ذكرٌ وصدقات.. إذاً رمضانُ فرصٌ وأوقاتٌ لا تهدر.. وحظوات لا تعوض.. فهل نتذكر.؟!
نعم رمضان فرصةٌ: للتوبة، وليتها تكون قبله.. لِمَ لا نجددها الأن.؟ ونعزمُ ونحن في هذا المكان والساعة المباركة أن نتوب.. فالتوبة أحبتي إرادة تنعقد في القلب يتلوها العمل والمجاهدة هيا لنبدأ بخطوتها الأولى ولنقل بصدق: تبنا إليك ربنا فاقبلنا..
أقول ذلك: لأن الله تعالى قد فتحَ أبوابَ التوبة في كل لحظة من أيام الدنيا: فقَد قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». رواه مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
مَنْ لم يتبْ ويرقَّ قلبُه في رمضانَ متى يتوب.؟! مَرَدَةُ الشياطين قد صُفِّدت، والشرُ قد اجتمع على نفسِه فهو لا يطيقُ انتشارًا، وسحائبُ الإيمانِ أطلت وأظلت، وبيوتُ المسلمين قد لهجت بالدعاءِ وصلَّت.
رمضان فرصَةٌ: سانحةٌ للدعاء فهو شهر الدعاء فقد ذكر الله في معرض ذكره للصيام هذه الآيةَ العظيمة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]
أيها الأحبة: فأي إيناس للصائمين في مشقةِ صومِهم في ظلِ هذا الود والقرب والاستجابة أعظمُ من هذا الأنس.؟! وأي قرب أجل وأعظم من قرب السميع العليم.. كيف وقد جعلَ رسولُ الله ﷺ الدعاء أكرم شيء على الله فقال: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ». رواه الترمذي وحسنه الألباني. بل جعل ترك الدعاء سبباً لغضبه سبحانه فقال ﷺ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» رواه أحمد والترمذي. وحسنه الألباني.
فما ألذَّ تضرعَ التائبين، وما أنفعَ بكاءَ المحزونين، وما أعذبَ مناجاةَ القائمين، وما أمرَّ عيشَ المحجوبين، وأعظمَ حسرةَ الغافلين، وما أشنعَ عيشَ المطرودين.
رمضانُ فرصةٌ: لتربيةِ صفةِ الرحمةِ في النفوسِ، فَمِنْ سُنن الحياة أن الرحمةَ تظهرُ عند الإحساسِ بالألمِ، وأنَّ الطغيانَ ينشأُ عند الغفلةِ مع الأمنِ والغنى، قالَ اللهُ تعالى:(كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّءاهُ ٱسْتَغْنَىٰ) [العلق:6، 7]
والصومُ حرمانٌ مشروع... وتأديبٌ بالجوعِ... وخشوعٌ للهِ وخضوع.. فلكلِ فريضةٍ حكمة، وبعضُ هذه الحكمُ ظاهرُها العذاب وباطنُها الرحمة، لأنها تَستثيرُ الشفقةَ، وتحضُ على الصدقةِ، حتى إذا جاعَ من أَلفَ الشبع، وعرفَ المترفُ أسبابَ الْمُتعِ، وعَلِمَ الحرمانَ كيف يقع، وألمَ الجوعِ إذا لذع.! تصدقَ وبذل وأعطى بلا ترددٍ وكلل.. والصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس؛ يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح بالمساواة، سواء منهم من يملك الملايين من الريالات، ومن يملك القليل، ومن لا يملك شيئًا..
رمضانُ فرصةٌ: لتربيةِ النفوسِ، وتقويةِ الإرادةِ فيها والارتفاعِ بها إلى سماءِ المجد ودرجات العز، إن رؤيةَ هلالِ الصيامِ في السماءِ هو إشارةٌ بالغةٌ لبدءِ معركةِ الإرادةِ وقوةِ العزيمة، فالصومُ يدربُ المسلمَ على أن يمتنعَ باختيارِه عن شهواتِهِ وملذاتِهِ، في إرادةٍ قويةٍ ثابتةٍ، لا يَضِيرُها كيدُ الشيطانِ، ولا تعدو عليها عوادي الشهوة.. فأيُ قانونٍ من قوانينِ البشرِ يحققُ ذلك؟! وأيُ أمةٍ من الأممِ تجدُ فرصةً تستطيعُ من خلالِها فرضَ نمطٍ من أنماطِ تربية شعبِها بمزاولة فكرةٍ نفسيةٍ واحدةٍ كلَ سنة وخلالَ ثلاثين يوما؟! ألا ما أعظم الإسلام، وما أروع الصيام... وبارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183] أجل لعلكم تتقون، فالغايةُ الكبرى من الصومِ التقوى.. التقوى التي تستيقظُ في القلوبِ وهي تُؤدي هذه الفريضةَ طاعةً للهِ.. وإيثاراً لرضاه.. التقوى التي تحرسُ هذه القلوبَ من إفسادِ الصوم بالمعصية، ولو كانت هاجساً في البال.. التقوى التي تستيقظ في نفوس الصائمين فلا يمتنعون عما حرم الله فقط، بل تعلو نفوسهم فيمتنعون عما أحل من طعام وشراب ونكاح.. والصوم أداةٌ من أدوات التقوى، وطريقٌ موصلٌ إليها؛ لذلك كله جعلها الباري هدفاً ساطعاً يتجهون إليه عن طريق الصيام.. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
أيها الإخوة: ومما يجب على الصائمِ التفطن له الحذر من حبائل التسويف، وبئس مطية الرجل سوف.. وهكذا تتصرمُ الليالي والأيامُ العظيمةُ على بعض الناس وهو بين السينِ وسوف.. ولم يدركوا من هذا الموسم العظيم إلا أجر النية، والتحسر على فوات الأوقات.
ها هي أيام الخير قد أقبلت، ومواسم البذل قد أطلت، أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ.؟ أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ...؟ لِنَقُلْ جَمِيعاً: نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.. ويبدأُ التشميرُ بالعزم الأكيد على استثمار أوقات هذا الشهر الجليل ووضع خطة تكون... أولاً بتركِ ما نهى الله عنه ومجاهدةَ النفسِ على ذلك، ثم بالتزودِ مما شرع من العبادات.
أيها الأحبة: أوصيكم ونفسي بـــــــــــــــ: أداءِ الصلاة المفروضة في وقتها جماعة.
والحرصِ على صلاةِ التراويح كاملة مع الوتر مع الإمام، قال رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». رواه البخاري..
ولا تغفلوا في هذا الشهر من صلاة في بيوتكم وخلواتكم، قال أحد الواعظين ما مجمله: "الخلوات هي باب الفتوحات الإلاهية والرحمات الصمدانية، وتأتي العطاءات الإلاهية عندما يخلوا المؤمن برب الأرض والسموات، قال الله تعالى عن مريم: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ). [آل عمران:37 38، 39] نعم لقد حصل له ما يريد لما خلى بربه، والهبات في محاريب الخلوات، وما أجمل أن يرى العبد نفسه أن الناس إذا خلوا انتهكوا محارم الله، أما هو إذا خلى بربه أسرع إلى الله.. وأعظم الخلوات في السحر عندما ينزل الرب سبحانه وتعالى، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأكثر الناس حظاً في تحقيق أحلامهم الذين يسهرون على تحقيقها في آخر الليل في خلواتهم، يأتي أحدهم فيمرغ أنفه بين يدي الله منطرحاً متضرعاً يسأله؛ فيفيض عليه الباري من عطاياه..
ومنْ فَضائِلِ الأعمالِ تفطير الصائمين سواء من الأهل والأقارب وعموم المسلمين لما فيه من الأجر العظيم، وهو من إطعام الطعامِ. وقد حث عليه رسول الله ﷺ بقوله: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا». رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة، وعند النسائي في الكبرى وابن خزيمة عن عن زيد بن خالد الجهني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني
ورمضان: شهر القرآن ففيه أنزل ولذلك كانت القراءة فيه لها مزية على غيرها، وكان النبي ﷺ يتدارس القرآن مع جبريل كل ليلة في رمضان، وحث على القراءة عموماً فقال رسول الله ﷺ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ».. رواه الترمذي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو صححه الألباني. اللهم بلغنا رمضان...