رقة وبكاء أبي بكر رضي الله عنه ( وورد + نصية + بي دي إف )

راشد بن عبد الرحمن البداح
1439/05/15 - 2018/02/01 21:32PM

 16 جمادى الأولى 1439هـ. إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.

فسيكون الحديث عن الأواب التواب، عن التقي بل الأتقى كما سماه ربه الأعلى، {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى}إنه أفضل رجل في هذه الأمة، بل في الدنيا بعد الأنبياء، إنه أبو بكر الصِّدِّيقُ t.

قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ السَّلَفُ يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ حُبَّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا يُعَلِّمُونَ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ([1]).

لكنَّ سيرة هذا الرجل العظيم سيرة حافلة طويلة، فماذا نأخذ وماذا نذر؟!

ولكن لنتناول جانبًا واحدًا عجيبًا من سيرة الصِّدِّيقt، إنه جانب بكائه ورقة قلبه، وحبه العميق للنبي e وإليكم ثمانَ مواقفَ رقيقةً باكية لهذا الصِّديق الأكبر t:

  • في صحيح البخاري: لَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ أراد أَبُو بَكْرٍ أن يخَرُجَ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فأجاره رجل وجيه اسمه ابْنُ الدَّغِنَةِ. فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ([2]).
  • بَيْنَا النَّبِيُّ e يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ e ([3]) ويَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ} ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ([4]).
  • ومن رقة أبي بكر وفطنته العجيبة أن النَّبِيَّ e خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ t، قال أبو سعيد: فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟! إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ e هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا.

فقَالَ e:يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ([5]). ومَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!([6])

  • صلَّى e بالناس المغرب وهو عاصب رأسه، يغالب صداع الرأس وحرارة الحمى، فلما صلَّى غُشي عليه، وأُذِّن للعشاء، وعلم أنه لن يستطيع الخروج إليهم فقال: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ؛ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، أَسِيفٌ إِنْ يَقُمْ مَقَامَكَ يَبْكِي، فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى القِرَاءَةِ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ([7]). فصلَّى بهم أبو بكر حتى لحق e بالرفيق الأعلى.
  • مات رسول الله e فجاء أَبَو بَكْرٍ بعد مضي سنة؛ ليحدِّث الناس عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ e فقال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ e يَقُولُ. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ e، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ eيَقُولُ فِي هَذَا الْقَيْظِ عَامَ الْأَوَّلِ: سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، وَالْيَقِينَ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى([8]).
  • زار أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ { أُمَّ أَيْمَنَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ e. فَلَمَّا انْتَهَيْا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالاَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ. فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا([9]).
  • جرح الصحابي الأمير الكبير سعد بن معاذ t جرحًا غائرًا في الخندق، فرفع سعد يديه إلى الواحد الأحد، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ، فَأَبْقِنِي أُجَاهِدْهُمْ فِيكَ، اللهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَافْجُرْهَا، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِيهَا»، فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ، فَمَاتَ مِنْهَا([10]).

حضر e الدقائقَ الأخيرةَ من حياة هذا البطل الشهيد المجاهد، فحضر ومعه الوزيران الصحابيان الكبيران أبو بكر وعمر.

قَالَتْ عائشة: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ بُكَاءَ عُمَرَ مِنْ بُكَاءِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}([11]).

______2______فهذه النفس الرقيقة اللينة والروح الطاهرة النقية لأبي بكر t تفسر لنا كثيراً من مواقفه العجيبة. ولكنَّ أعجبَها الموقف الثامن التالي:

  • أخرج أحمد رحمه الله بسند حسن عَنْ رَبِيعَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ e، فَأَعْطَانِي أَرْضًا، وَأَعْطَى أَبَا بَكْرٍ أَرْضًا، وَجَاءَتِ الدُّنْيَا، فَاخْتَلَفْنَا فِي عِذْقٍ نَخْلَةٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هِي فِي حَدِّ أَرْضِي، وَقُلْتُ أَنَا: هِي فِي حَدِّي، فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ كَلِمَةً كَرِهْتُهَا، وَنَدِمَ، فَقَالَ لِي: يَا رَبِيعَةُ رُدَّ عَلَيَّ مِثْلَهَا حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا، قُلْتُ: لا أَفْعَلُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَتَقُولَنَّ أَوْ لأَسْتَعْدِيَنَّ عَلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ e، قُلْتُ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ..فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ e، فَانْطَلَقْتُ أَتْلُوَهُ، فَجَاءَ أُنَاسٌ مِنْ أَسْلَمَ، فَقَالُوا: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَعْدِي عَلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَكَ مَا قَالَ؟ فَقُلْتُ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَهُوَ ثَانِي اثْنَيْنِ، هُوَ ذُو شَيْبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَإِيَّاكُمْ، يَلْتَفِتُ فَيَرَاكُمٍ تَنْصُرُونِي عَلَيْهِ، فَيَغْضَبُ فَيَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ e، فَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ، فَيَغْضَبُ اللَّهُ لِغَضَبِهِمَا، فَيَهْلِكُ رَبِيعَةُ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: ارْجِعُوا، فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e، وَتَبِعْتُهُ وَحْدِي، حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ e، فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ كَمَا كَانَ، فَرَفَعَ إِلَيَّ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ، مَا لَكَ وَلِلصِّدِّيقِ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِي كَلِمَةً كَرِهْتُهَا، فَقَالَ لِي: قُلْ كَمَا قُلْتُ لَكَ حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا، فَقَالَ e: أَجَلْ فَلا تُرَدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قُلْ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: فَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ يَبْكِي.

اللهم لك الحمد كما أنت أهله، لك الحمد بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، لك الحمد على صبرك علينا، وعلى سترك لنا، وعلى برّك بنا، وما وهبتنا من الصحة والمال والأهل والإيمان (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).

اللهم إنا عاجزون عن شكرك، فنحيل إلى علمك وفضلك، فلك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث.

اللهم كف بأس الأشرار وأوهن كيدهم يا حي يا قيوم. اللهم إنا نسألك وصلاح العمل وسلامة الطوية، اللهم حببنا إلى صالح خلقك، وحبب إلينا صالح خلقك.

اللهم أصلح أحوال هذه الأمة، واجعل في قلوب رجالها ونسائها الهمة والصبر والاجتهاد، وخذ بنواصيهم إلى ما تحب وترضى.

اللهم نسألك لولي أمرنا وولي عهده وأمرائه ووزرائه ما فيه خيرهم وخير شعوبهم في معاشهم ومعادهم.

([1])شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2325)

([2])صحيح البخاري (3905)

([3])صحيح البخاري (3678)

([4])مسند أحمد ط الرسالة (7036)

([5])صحيح البخاري (466) (3654)

([6])مسند أحمد ط الرسالة (7446)

([7]) صحيح البخاري ( 664 و 678 و679 و 682 و 712 و 713 )

([8])مسند أحمد ط الرسالة برقم (6) قال المحققون: إسناده حسن. واختاره الضياء في المختارة(27)

([9])صحيح مسلم (6472)

([10])صحيح مسلم (1769)

([11])مسند أحمد ط الرسالة (25097)

المرفقات

أبي-بكر-وبكائه

أبي-بكر-وبكائه

أبي-بكر-وبكائه-2

أبي-بكر-وبكائه-2

المشاهدات 949 | التعليقات 0