رقة القلب
أ.د عبدالله الطيار
الحمدُ للهِ العزيزِ الرَّحِيمِ {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}السجدة: [7-9] أحمدُهُ سبحانهُ هو المُطَّلِعُ على قلوبِ التَّائبينَ، يُحْيي الأرضَ بالغيثِ بعد موتِهَا ويُرَقِّقُ القلوبَ بالذكرِ بعد جفائِهَا.
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلمُوا أنَّ تقواهُ خير زادٍ ليومِ لقائِهِ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
أيُّهَا المؤمنونَ: إنّ أعضلَ داءٍ يُصابُ به المرءُ، أنْ يُبتلى بقسوةِ القلبِ، وانحرافِهِ، وأنْ يَحُولَ اللهُ عزَّ وجلَّ بينَهُ وبينَ قلبِهِ بذنبٍ اقترفَهُ، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، قال تعالى:{ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم}التوبة:[127] وقال سبحانه:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}الصف: [5]، فمتى ما قسَى القلبُ، وانصرفَ عن اللهِ، صَرَفَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ عن عبادتِهِ، فلا يُوَفَّقُ لطاعةٍ، ولا يَخْشَعُ لآيةٍ، ولا يَنْتَفِعُ بموعِظَةٍ، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج: [46].
عِبَادَ اللهِ: وَإِذَا رُمْتَ معْرفةَ مكانةِ القلبِ وأثرِه فارمِ ببصرِكَ أهلَ الإيمانِ وما يَجِدُونَهُ من اللَّذَّةِ في عبادةِ اللهِ والأُنسِ في مناجاتِهِ والسكينةِ عند تلاوةِ كتابِه والشَّوْقِ للقائِهِ فنُكتَتْ فِي قلوبِهِمْ نُكْتَةٌ بيضاءُ، فَأَضْحَتْ قُلُوبُهُم صافيةً نقيَّةً راضيةً مرضيَّة.
وانظُرْ لأَهْلِ المعاصي في عُكُوفِهِمْ على ذُنُوبِهِمْ، وما تَجْلِبُهُ لهُمْ هذهِ الذُّنُوبُ مِنْ الشقاءِ في الدُّنيا والآخرةِ، ومع ذلكَ لا يَنْتَهُون، وإذا ذكّرُوا لا يَذْكُرُون، فَطَبَعَ اللهُ على قلوبِهِمْ بكُلِّ ذنبٍ نُكْتَةً سَوْدَاءَ، فأَضْحَتْ قلوبُهُم سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً كالكوزِ مُجَخِّيةً وصارَ الْقَلْبُ كالمنخل، أو كالغربال، لا يَعِي خيرًا، ولا يثبتُ فيه صلاحٌ.
عِبَادَ اللهِ: ولقدْ كانَ السَّلفُ الصَّالِحُ يتعاهدونَ قلوبَهُم، فيُزِيلُونَ مَا عَلَقَ بِهَا من آثَارِ الذُّنُوبِ، وما رانَ عليها من أمراضِ الغفلةِ، وأسبابِ القسوةِ، ويُعَمِّرُونهَا بالقرآنِ وذِكْر الله، حتى تلينَ، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}الزمر: [23].
وَاعلمُوا عبادَ اللهِ أنّ ِالقلبَ إذا رَقّ، ذَاقَ حلاوةَ الطَّاعَةِ، ولذَّةَ المناجاةِ، وانتفعَ بالقرآنِ، ومِنْ أَهَمِّ مَا يُرَقِّقُ القلوبَ مَا يَلِي:
أولًا: الحفاظُ على الفرائِضِ، والمبادرةُ بالطَّاعَاتِ، قال تعالى: {.. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} النور: [37].
ثانيًا: الإقبالُ على القرآنِ الكريمِ تلاوةً وحفظًا، وتدَبُّرًا وفَهْمًا، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} محمد:[24] وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الشورى: [52] وقد سَمّى اللهُ القرآنَ روحًا؛ لأنّ الرُّوح يحيا به الجسدُ، والقرآنُ تحيا به القلوبُ والأرواحُ، فمتى خلا القلبُ من القرآنِ فهو كالميِّتِ وإن كان يَنْبُضُ.
ثالثًا: ذِكْرُ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وقال سبحانه: {وَبَشِّرِ المخبتين الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الحج: [34-35]، وفي الحديث: {لاَ تُكْثِرُوا الْكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلاَمِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي} أخرجه الترمذي (٢٤١١) وقال المنذري في الترغيب (٤/٢٨): إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما.
رابعًا: الدُّعاءُ، فقد كان من دعاءِ النبيِّ ﷺ: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنا على طاعَتِكَ) أخرجه مسلم (2654).
أعوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الحديد:16].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشُّكرُ له على توفيقهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنِهِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا وبــــــعــــــــــدُ:
عباد الله: قالَ اللهُ تعالى مُمْتَنًّا على أهلِ هذهِ البلادِ، ومَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ دونَ سواهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}العنكبوت: [67] وقالَ سبحانَه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} قريش: [3-4].
أيُّهَا المؤمنونَ: أنَّ مِنْ واجِبِنَا تجاهَ هذِهِ النِّعَم، أنْ نَشْكُرَ اللهَ عزَّ وجلَّ عليهَا باستشعارِها، وأداءِ حقِّهَا، ولزومِ طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وامتثالِ أمرِهِ، ولزومِ طاعةِ ولاةِ الأمرِ، والدعاء لهم، والحذرِ من أولئك الذينَ ذهبتْ عقولُهُم، وانسلختْ أحلامُهُم، حيث آثَرُوا الضَّلالَ على الهُدَى، والباطِلَ على الحقِّ، والشقاءَ على السعادةِ، فكانوا أَظْلَمَ الخلق؛ لأنهم{بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} وَصَدَقَ فيهم قولُ اللهِ: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} العنكبوت: [67].
أيُّهَا المؤمنون: الزموا طريقَ العلماءِ الرَّبَّانيين، والدُّعاةِ المخلصينَ، واحذَرُوا مِنْ الحزبيّاتِ المقيتةِ، والولاءاتِ السَّاقِطَةِ، وأَدْعِيَاءِ العِلْم، والمنتسبينَ إليهِ كذبًا وزورًا، قال ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنهُ: (لَا يَزَالُ النَّاسُ صَالِحِينَ مُتَمَاسِكِينَ مَا أَتَاهُم الْعِلْمُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمدٍ ومن أكابِرِهِمْ، فإذا أتاهُم من أصاغرِهِمْ هَلَكُوا) أخرجه ابن عبد المبارك في الزهد (ج1/ص281) والطبراني في المعجم الكبير (ج9/ص114).
أسألُ اللهَ عزّ وجلّ أَنْ يُصلحَ فسادَ قلوبِنَا، ويحفظَ بلادَنا مِنْ كيدِ الكائدينَ، ومكرِ الماكِرِينَ، وأن يُسَدِّدَ ويُوَفِّقَ خادم الحرمين الشريفين، وسمو عهده لما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين، وأن يَجْزِيَهُمْ خيرَ الجزاءِ، ويَرْزُقَهُم البطانةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ التي تَدُلُّهُم على الخيرِ، وتُعِينُهُمْ عليْهِ.
اللهم اربط على قلوب رجال الأمن، الذين يدافعون عن الدين والمقدسات والأعراض والأموال، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].
الجمعة: 17-4-1444هـ