رفيقُك الذي لا يفارقُك (العملُ الصالحُ) - عشرُ ذي الحِجّة

راكان المغربي
1444/11/26 - 2023/06/15 14:09PM

الخطبة الأولى

أما بعد:

تعالَوا بنا سويا نراجعُ شريطَ ذكرياتِنا، ونفتحُ بعض الصفحاتِ من أيام عمرنا.

من يوم أن وَعِينا في هذه الدنيا كنا نستأنسُ بالرفيق، ونسعدُ برؤية الصديق. كم كنّا نتلهف للقاء بمن نحبهم، حتى نقضيَ معهم أجملَ الأوقات، ونعيشَ معهم أسعدَ اللحظات.

ولكنّ سُنّةَ الفراق كانت كثيرا ما تغتالُ تلك العلاقةَ فتباعدَ بين الأحباب، وتفرقَ بين الأصحاب. فالفراقُ سنةٌ ماضيةٌ تعددت أسبابُها، وثبت تحقّقُها، وحُقَّ على بشرٍ أن يذوقَ مرارتَها.

تذكر صاحبَ الطفولة الذي فرقَ بينك وبينه السفر، وجارَك الذي فرقت بينك وبينه ظروفُ الانتقال، ورفيقَ الشباب الذي أبعدته عنك مشاغلُ الحياة. حتى أولئك الذين لا تتخيل أن تفارقَهم يوما ما ممن تجمعك بهم أوثقُ روابطِ النسبِ والصِّهرِ من أبٍ وأم، وأخٍ وأخت، وزوجٍ وولد، فإنهم سيفارقونك يوما ما وتذوقُ ألمَ فراقِهم أو يذوقوه، وذلك بالموت المحتَّم على كل بشر.

فالقاعدةُ العامة هي أن كلَّ رفيقٍ سيفارقك، وكلَّ صاحبٍ سيتخلى عنك أو تتخلى عنه يوما ما.

ولكن يا تُرى هل هناك استثناءٌ من هذه القاعدة؟ هل هناك رفيقٌ سيلزمك فلن يفارقَك ولن تفارقَه؟

الجواب: نعم.

هناك رفيقٌ يلازمُك في كل آن وكل حين، يلازمك في حال شبابك وحال هرمك، وحال صحتك وحال مرضك، وفي حياتك وبعد موتك.

ذلكم الرفيق هو العملُ الصالح.

العملُ الصالحُ هو الاستثناءُ من القاعدة، فهو الرفيقُ المخلص الذي لا يفارقك، والصاحبُ الوفيُّ الذي لم ولن يتخلى عنك يوماً ما.

العمل الصالح هو الرفيق الذي يؤنسك أعظمَ الأنسِ في هذه الدنيا، ففي ظلال صحبتِه ستعيشُ الحياةَ الطيبةَ السعيدةَ الهنيئةَ، كما وعد سبحانه فقال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

العمل الصالح هو الرفيقُ الذي يسير معك في طريقِك إلى الله، تستندُ عليه لتثبتَ على الطاعة، وتتكئُ عليه حتى تصلَ إلى الهداية، قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا).

العمل الصالح هو الرفيقُ الذي يطهّرُك من الأوساخ، فيمحو عنك الزلل، ويخففُ عنك الأعباء، لتسلمَ من شرَرِ الذنوب في الدنيا والآخرة، قال جل وعلا: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ).

العمل الصالح هو الرفيقُ الذي سيبقى معك حتى بعد موتك وبعد أن يتخلى عنك كل أحد. قال صلى الله عليه وسلم: (يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنانِ ويَبْقَى معهُ واحِدٌ: يَتْبَعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ، ويَبْقَى عَمَلُهُ).

سيبقى معك ليرافقَك في قبرك، ليوسعَ عليك بعد الضيق، ويؤنسَك بعد الوحشة، ويعوضَك عن فراقِ الأهل والأصحاب والأحباب، قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف حال المؤمن في قبره: (ويأتِيه رجلٌ حسَنُ الوجهِ طيِّبُ الرِّيحِ فيقولُ: أبشِرْ بالَّذي يسُرُّكَ، فهذا يومُكَ الَّذي كنتَ تُوعَدُ، فيقولُ له: مَن أنتَ؟ فوجهُكَ الوجهُ الَّذي يجِيءُ بالخيرِ، فيقولُ: أنا عمَلُكَ الصَّالِحُ)

العمل الصالح هو الرفيق الذي سيرافقك في ذلك اليوم، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)، الكلُّ سيفرُّ منك، أما عملُك الصالح فسيبقى معك لا يفارقُك حتى في أصعبِ اللحظات، وأجلِّ المواقف، عند الوقوفِ بين يدي الله للحساب. قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِنكُم أحَدٌ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ, ليسَ بيْنَهُ وبيْنَهُ تُرْجُمانٌ، فَيَنْظُرُ أيْمَنَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ مِن عَمَلِهِ، ويَنْظُرُ أشْأَمَ منه فلا يَرَى إلَّا ما قَدَّمَ، ويَنْظُرُ بيْنَ يَدَيْهِ فلا يَرَى إلَّا النَّارَ تِلْقاءَ وجْهِهِ", ثم يختمُ -صلى الله عليه وسلم- بوصيةٍ تحثك على الاستزادة من العمل الصالح مهما قل، فيقول: "فاتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ".

في ذلك اليوم ستأتي مفرداتٌ من العملِ الصالحِ لتشفعَ لك وتحاجَّ عنك فتكونَ أكبرَ مصدرِ دعمٍ لك في ذلك الموقفِ العصيب. سيأتي القرآنُ شفيعاً لأصحابِه الذين اختاروا رِفقتَه في الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما).

حتى بعدَ الحساب وبعد استلامَ الكتب لن تنحل رابطةُ تلك الصحبةِ الوثيقةِ بينك وبين العمل الصالح، ففي موقف الصراط يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وتُرسَلُ الأمانةُ والرَّحِمُ، فتَقومانِ جَنَبَتَيِ الصِّراطِ، يَمينًا وشِمالًا)، تقف الأمانةُ والرحمُ على الصراطِ لتحاجّان عن المحقِّ الذي أدى حقَّ الله فيهما، وتقربَ إلى الله بهما، وهما كذلك يطلبان حقهَما ممن فرّط فيهما.

وهكذا لن يتركَكَ رفيقُ العملِ الصالحِ حتى يدخلَك الجنة، وحتى تسمعَ ذلك النداء (وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

العمل الصالح هو أعظمُ رفيق، وأحسنُ صحبة، وأوثقُ علاقة يمكن أن توصلَك إلى سعادةِ الدنيا ونعيمِ الآخرة.

عباد الله

إن من النّاس من هو مخذول محروم، يستبدل رِفقةَ العمل الصالح برِفقةِ العمل السيء، فيستكثرُ من الآثام، ويتلطخُ بالخطايا، فتكونُ تلك الرفقةُ السيئةُ سبباً في تعاسةِ الدنيا وشقاءِ الآخرة.

العملُ الخبيثُ صاحبُ سوءٍ لن يجلبَ لك إلا كدرَ الحياة، وضنكَ المعيشة، وتضاعفَ الآلام، ويعرضك لسوء العاقبة في الآخرة.

فتخففوا يا عباد الله من الذنوب والآثام، وفُكُّوا ما بينكم وبينها من الوثاق، فوالله إنها صحبةُ خيبة، ورِفقةُ حسرةٍ وندامة. طلقوا العملَ السيءَ بصدقِ التوبةِ والأوبة، وحلوا أربطتَه بكثرةِ الاستغفار والإنابة، واستعينوا بالله على ذلك، والله قدير والله غفور رحيم.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات

اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقرب إلى حبك.

بارك الله لي ولكم

 

الخطبة الثانية

أما بعد:

أخي المسلم

إذا تحفزت نفسُك لتوثيقِ العلاقة، وتمتِين حبالِ الوصلِ بينك وبين العمل الصالح، فاعلم أن أعظمَ فرصةٍ لذلك هو ما أنت مُقدمٌ عليه من الموسمِ العظيم، والأيامِ الفاضلة، أيامِ عشر ذي الحجة، التي هي أحبُّ الأيام إلى الله.

ستُقبلُ عليكَ أيامٌ قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها، أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّام"؛ يعني أيَّامَ العشر-، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ! ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؟, قالَ: "ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؛ إلَّا رَجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ، فلم يرجِعْ من ذلِكَ بشيءٍ".

وهي (أفضلُ أيامِ الدنيا)؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر. إنها أيامٌ أقسمَ اللهُ بها في كتابِه، والله عظيمٌ ولا يقسم إلا بعظيم؛ (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ).

فيا أخي المسلم: إنما هي عشرةُ أيام، قليلةُ العدد، كثيرةُ البركة، لا مثيلَ لها في العام، هو أعظمُ موسمٍ تستزيدُ فيه من العملِ الصالحِ، وتوثق العلاقة بينك وبينه.

ولتكونَ من الفائزينَ في هذا الموسم، فأنتَ محتاجٌ إلى توفيقِ من اللهِ تستجلبُه بالانطراحِ بين يديه، وسؤالِ العونِ والمددِ من لدنْه، والتبرؤِ من الحولِ والقوةِ إلا به.

وتحتاجُ أن تجلسَ جلسةً معَ نفسِك تفكرُ فيها: ما هي الأعمالُ الصالحةُ التي أريدُ أن أثقِّلَ بها ميزاني في هذه الأيام؟؛ من تكبيرٍ وتهليلٍ وصلاةٍ، وصيامٍ وصدقةٍ وقراءةِ قرآنٍ، ومكثٍ في المسجد، وحجٍّ وأضحيةٍ وهديٍ، وبرٍ وصلةٍ وحسنِ خلقٍ، وزيارةِ مريضٍ واتباعِ جنازةٍ، وغيرِ ذلك من أبوابِ العملِ الصالحِ التي لا حصرَ لها، فاجلسْ وخططْ لأرباحِك ومكتسباتِك الأخروية؛ كما تخططُ لأرباحِك ومكتسباتُك الدنيوية.

أخي: اطرحِ الكسلَ، واحملْ نفسَك على الجدِّ والاجتهادِ، والصبرِ والمصابرةِ على الطاعة، وحينها أبشر بالخير العظيم والكرم من الكريم.

ونذكركم يا عباد الله بأنه يسن التكبير المطلق من أول ليالي عشر ذي الحجة فقد كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما "يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما". فأحيوا سنة التكبير، واجهروا به إعلاء لذكر الله، ورفعا لشعائر دينه العظيم.

اللهم وفقنا لما تحبُّ وترضى، وخذ بناصيتِنا للبرِّ والتقوى، اللهم وفقنا لطاعتِك وجنبنا معصيتَك، اللهم أعنا على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتك، اللهم إنا نسألك الغنيمةَ من كلِّ برٍّ، والسلامةَ من كل إثمٍ، والفوزَ بالجنة، والنجاةَ من النار.

المرفقات

1686827052_رفيقك الذي لا يفارقك (العمل الصالح).docx

1686827059_رفيقك الذي لا يفارقك (العمل الصالح).pdf

المشاهدات 1085 | التعليقات 0