رفقاً بالقوارير
هلال الهاجري
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لَنَا مِنْ أَنْفُسِنَا أَزْوَاجًا، وَجَعَلَ التَّرَاحُمَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَسَاسًا وَمِنْهَاجًا، بِهِ تَسْعَدُ الأُسْرَةُ وَتَزْدَادُ سُرُورًا وَابتِهَاجًا، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَأَحْسَنَ وَأَحْكَمَ، وَبِخَلْقِ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى أَشَادَ وَأَقْسَمَ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خيرَ مَنْ أدَّبَ، وأَفضلَ مَنْ هَذَّبَ، قالَ عنهُ ربُّه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الأَطْهَارِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى دَارِ القَرَارِ .. أَمَّا بَعْدُ:
أمٌّ تشتكي عُقوقَ ابنِها، وأختٌ تشتكي هجرَ أخيها، وزوجةٌ تشتكي قسوةَ زوجِها، وبنتٌ تشتكي عُنفَ أبيها، ثُمَّ نتسآلُ ما هو السببُ خلفَ المطالباتِ بنزعِ وِلايةِ الرِّجالِ؟، ولماذا المُناداةُ بإسقاطِ قِوامةِ الرِّجالِ؟، ويَحارُ العقلُ في تفسيرِ هَربِ الفتياتِ، وغضبِ الأخواتِ، ونشوزِ الزَّوجاتِ، وتَعاسةِ الأمَّهاتِ؟.
فأينَ وصيةُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لكم يا معشرَ الرِّجالِ، حينَ قالَ: (استوصُوا بالنِّساءِ خيرًا)؟، هل أدَّيتُم حقَّها؟، هل استمسكتم بها؟، فحزتُم الخيريَّةَ التي ذكرَها في الحديثِ: (خَيْرُكُمْ، خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ)، أم أنَّ المرأةَ لا تزالُ تَعيشُ في زمنِ الجاهليةِ الظَّليمِ، بعدما أنقذها اللهُ تعالى منها بالإسلامِ العظيمِ؟.
اسمعوا إلى مِثالٍ عجيبٍ في عنايةِ الإسلامِ بالمرأةِ .. قَالَ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَادٍ حَسَنُ الصَّوْتِ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ، وَكَانَ يَحْدُو بِإبِلِ النِّسَاءِ، فَاشْتَدَّ فِي السِّيَاقَةِ -أيْ: أَسْرَعَتْ الإِبِلُ-، فخافَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا أَسْرَعَتْ الإبلُ، أَنْ يَسقطَ النِّساءُ فَيُصِيبَهُنَّ الأذى، فَقَالَ لهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رُوَيْدًا يَا أَنْجَشَةُ، وَيْحَكَ ارْفُقْ، لَا تَكْسِرْ الْقَوَارِيرَ).
فسبحانَ اللهِ .. ألا تعجبونَ من هذا التَّشبيهِ الرَّائعِ البديعِ؟، ألا تعجبونَ من كَلمةٍ تتفجَّرُ منها الينابيعُ؟، ولكنْ سِرعانَ ما يزولُ عجبُكَ ويتلاشى الغَمامُ، إذا عَلِمتَ أنَّها خرجتْ ممن أوتي جوامعَ الكلامِ.
فتعالوا لنعصفَ الأذهانَ بالنَّظرِ والتَّفكيرِ، لعلَّنا نستخرجُ شيئاً في الشَّبهِ بينَ النِّساءِ والقواريرِ، واعلموا أنَّ الحديثَ عن النِّساءِ هو الحديثُ عن الأمَّهاتِ، والأخواتِ، والزَّوجاتِ، والبناتِ، فما أطيبَه من حديثٍ:
من أوجهِ التَّشابهِ بينَ النِّساءِ والقواريرِ، هو الحُسنُ والجمالُ .. فهل رأيتُم يوماً قارورةً من زُجاجٍ تَتلألأُ عندما سَقطَ عليها شُعاعُ الأنوارِ، حتى يكادَ جمالُ سَنا برقِها لَيذهبُ بالأبصارِ، فكأنَّها شَمسٌ أو قَمرٌ أو حجرٌ من كريمِ الأحجارِ؟ .. وهكذا المرأةُ .. هكذا المرأةُ .. الجمالُ لها عنوانٌ، في خَلْقِها وأخلاقِها وعفافِها وحيائها، في صمتِها وكلامِها، بل أخبروني: هل رأيتُم أجملَ أو ألطفَ أو أرقَّ أو أنعمَ من المرأةِ؟.
لم يكنْ يوماً جمالُ المرأةِ الحقيقيُّ هو جمالُ الوجهِ والجَسدِ، بل هو جمالُ الدِّينِ والأخلاقِ، فهل لاحظتَ أمَّكَ وهي تزدادُ جمالاً مع انحناءِ ظَهرِها؟، وهل رأيتَ أُختكَ تزدادُ جمالاً مع علوِ قَدْرِها؟، وهل أحسستَ بزوجتِكَ تزدادُ جمالاً مع بياضِ شعرِها؟، وهل راقبتَ جمالَ ابنتِكَ في مهدِها وشبابِها ويومَ عُرسِها؟.
من أوجِه التَّشابهِ بينَ القواريرِ والمرأةِ، هو الصَّفاءُ والشَّفافيةُ .. فلا يُرى فيها إلا ما مُلئتْ بِه، فها هي القارورةُ تملأُها ماءً رَقراقاً، فتراهُ صافياً زُلالاً برَّاقاً .. وهكذا المرأةُ صافيةُ المشاعرِ، شَفَّافةُ الأحاسيسِ، فإن كانتْ أمَّاً وملأتَها بِرَّاً، رأيتَ فيها الرَّحمةَ والحنانَ، وإن كانتْ أُختاً وملأتَها تقديراً، رأيتَ فيها الشَّفقةَ والإحسانَ، وإن كانتْ زوجةً وملأتَها حُبَّاً، رأيتَ فيها الطُّمأنينةَ والأمانَ، وإن كانتْ ابنتاً وملأتَها عَطفاً، رأيتَ فيها قُرَّةَ الأعيانِ .. وأنتَ ماذا عسى أن تملأَ المرأةَ أيُّها الرَّجلُ؟.
واعلموا أنَّ الشَّرعَ والتَّاريخَ والواقعَ يشهدونَ بأنَّه لا يُكرمُ المرأةَ إلا رجلٌ كريمٌ مُكتملُ الرُّجولةِ، عزيزُ النَّفسِ، ولا يُهينُها إلا لئيمٌ ناقصُ الرُّجولةِ، ذليلُ النَّفسِ، يُعوِّضُ نقصَ رجولتِه بالإساءةِ إلى النِّساءِ قولاً وفِعلاً.
ومن أوجهِ التَّشابهِ بينَ المرأةِ والقواريرِ، هو النُّعومةُ والرِّقةُ والضَّعفُ .. فالقارورةُ ناعمةٌ ملساءُ رقيقةٌ ضَعيفةٌ، تحتاجٌ إلى حذرٍ شديدٍ في حَملِها واستخدامِها .. وهكذا المرأةُ ضَعيفةُ المشاعرِ والجسدِ، فلا تتحمَّلُ العُنفَ والقسوةَ، بل يجبُ أن تُعاملَ بما يُناسبُ ضَعفَ طبيعتِها وفِطرتِها، كما قَالَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (اللَّهُمَّ إِنِّى أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعيفينِ، الْيَتِيمِ والمرْأَةِ)، أي يَلحقُ الإثمُ والحَرجُ من اعتدى على المرأةِ الضَّعيفةِ.
فما أجملَ أن يُستغَلَّ هذا الضَّعفَ في كسبِ وُدِّ المرأةِ، فالكلمةُ الجميلةُ للأمِّ تجعلُها من ابنِها مبرورةً، والفُعلُ الحسنُ للأختِ يَجعلُها بأخيها فخورةً، والحبُّ للزوجةٍ يجعلُها بزوجِها مسرورةً، والحنانُ للبنتِ يَجعلُها بأبيها مغرورةً، فها هو رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ يستأذنُ في زيارةِ قبرِ أمِّه ليستغفرَ لها، وها هو يبسطُ رداءَه لأختِه الشَّيماء احتراماً لها، وها هو يُعلنُ أمامَ الملأِ عن عائشةَ حبَّه لها، وها هو يقومُ لاستقبالِ ابنتِه فاطمةَ تقديراً لها، فأينَ نحنُ من سُنَّةِ المصطفى، وخيرِ الورى صلى اللهُ عليه وسلمَ.
ومن أوجهِ التَّشابهِ بينَ المرأةِ والقواريرِ، هو سِرعةُ الكَسرِ .. فالقارورةُ لو سقطتْ على الأرضِ لتكسَّرتْ، وتناثرَتْ قِطعُ الزُّجاجِ في كلِّ مكانٍ، وهكذا هو قلبُ المرأةِ عندما ينكسرُ لأيِّ سببٍ من الأسبابِ، تتناثرُ المشاعرُ ويتعلثمُ اللِّسانُ فلا تملكُ التَّعبيرَ إلا بدمعِ الأهدابِ، فاحذرْ من كلمةٍ ينكسرُ بها قلبُها، ومن فعلٍ تنخدشُ منه مشاعرُها، وحبيبُكَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يقولُ: (حُبّبَ إِلَيَّ مِنْ دنياكُمُ النِّساءُ والطيبُ)، فكيفَ هو تعاملُ الحبيبِ مع الحبيبِ؟، إذاً، فلا تستحقُّ المرأةَ منكَ إلا الرَّحمةَ والإحسانَ، والحبَّ والحنانَ.
وأما الغربُ الكافرُ فلا يزالونَ يتقاذفونَها ويتلاقفونَها ما دامَ أنَّها في شبابِها وجمالِها، فإذا ذهبَ الشَّبابُ والجمالُ تركوها تَسقطُ سُقوطاً لا قيامَ بعدَه، وتنكسرُ كَسراً لا جبرَ بعدَه، ثُمَّ يقولونَ: (حقوقَ المرأةِ).
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، وسلمَ تسليماً كثيرًا، أما بعدُ:
فيا أيُّها الأحبَّةُ ..
رِفقاً بالقواريرِ .. ها هو رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ يوصيكَ بالرِّفقِ مع النِّساءِ، ويُخبرُ أنَّكَ مسئولٌ عنهنَّ: (أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ)، فإياكَ أن تكونَ فظَّاً غليظاً عنيفاً، بل كُن سَهلاً رفيقاً لطيفاً، فانتَ لمن حولكَ من النِّساءِ مصدرُ الحمايةِ والأمانِ، فاحذر أن تكونَ مصدرَ الخوفِ والأحزانِ .. بل يجبُ الحفاظُ عليهنَّ من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، فالمرأةُ دونَ رجلٍ كجوهرةٍ في العَراءِ دونَ حَرسٍ، أو كغزالةٍ بينَ الأُسودِ تكادُ تُفترسُ، فهي قد خُلقتْ من الرَّجلِ فآوتْ إليه، وسكنتْ إليه، فلا غِنى لها عن أبٍّ رحيمٍ، أو أخٍّ حليمٍ، أو زوجٍ كريمٍ، أو ابنٍ عظيمٍ، يحميها ويصونُها ويحفظها، فلا تنظرُ إليها عينٌ مجرمةٌ، ولا تمتدُّ إليها أيدٌ آثمةٌ.
إِنْ لَمْ تَصُنْ تِلْكَ اللُّحُومَ أُسُودُهَا * * * أُكِلَتْ بِلاَ عِوَضٍ وَلاَ أَثْمَانِ
مسكينةٌ تلكَ التي تطالبُ برفعِ ولايةِ الرَّجلِ عنها، لأنَّ لها أبٌّ ظلومٌ، أو أخٌ غشومٌ، ومخدوعةٌ تلكَ التي تُنادي بإسقاطِ القِوامةِ عنها، لأنَّ لها زوجٌ فاسدٌ، أو ابنٌ جاحدٌ، وسعيدةٌ محظوظةٌ من أحاطَ بها رِجالٌ عُظماءُ، أوفياءُ كُرماءُ، فتجدُها تردِّدُ دائماً إغاظةً للأعداءِ: (وليُ أَمري .. أَدرى بأَمري).
اللهمَّ أصلحْ رجالَنا ونساءَنا، اللهم أصلحْ أحوالَنا وأحوالَ المسلمينَ، اللهم أصلحْ قلوبَنا بالقرآنِ، اللهم اجعل التَّقوى شعارَنا، اللهم ومُنَّ علينا بالرَّخاءِ والسَّخاءِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهم مَنْ أرادَ إفسادَ مجتمعاتِ المسلمينَ فعليكَ به، اللهم لا تجعلْ له رايةً، واجعله للعالمينَ عبرةً وآيةً، اللهم أصلحْ أحوالَنا وأحوالَ المسلمينَ، اللهم فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمينَ، اللهم نَفِّس كُرباتِهم، اللهم اشفِ مَرضاهم، اللهم أغنِ فقراءَهم، اللهم اهدِ ضالَهم ياذا الجلالِ والإكرامِ، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم، اللهم لا تجعلْ لفاجرٍ عليهم يَدا يا ربَّ العالمينَ، اللهم اغفر للمؤمنينَ والمؤمناتِ والمسلمينَ والمسلماتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهمَّ آتنا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
المرفقات
بالقوارير-2
بالقوارير-2
بالقوارير-3
بالقوارير-3