رضا الخالق سبحانه ورضا المخلوق

رضا الخالق سبحانه ورضا المخلوق
7/3/1437
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْكَرِيمِ الْجَوَادِ، الْكَبِيرِ المُتَعَالِ ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1] نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ لَا دِينَ حَقٌّ إِلَّا دِينُهُ، وَلَا طَاعَةَ لِلَّـهِ تَعَالَى إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلَا طَرِيقَ يُوصِلُ إِلَى الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا طَرِيقُهُ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا بِدِينِهِ كُلِّهِ، وَاسْتَسْلِمُوا بِكُلِّ شَرِيعَتِهِ؛ فَإِنَّ الِانْتِقَاءَ مِنْ شَرِيعَتِهِ لَيْسَ اسْتِسْلَامًا، وَإِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ بَعْضِ دِينِهِ كَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدِّينِ كُلِّهِ، وَالشَّيْطَانُ يَكْفِيهِ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَرْفُضَ لِلَّـهِ تَعَالَى حُكْمًا وَاحِدًا، أَوْ يَرُدَّ لَهُ فَرِيضَةً وَاحِدَةً، أَوْ يُحَلِّلَ مُحَرَّمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُثْبِتٌ لِتَمَرُّدِهِ وَعَدَمِ انْقِيَادِهِ، وَكَافٍ فِي إِيبَاقِهِ وَإِهْلَاكِهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 208].
ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَعْضِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَأَرَادُوا أَنْ يُبْقُوا شَيْئًا مِنْ يَهُودِيَّتِهِمْ وَيَجْمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ كُلِّهِ، وَلَا يَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ يُرِيدُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْهُ.
أَيُّهَا النَّاسُ: أَعْظَمُ نِعْمَةٍ يُهْدَى إِلَيْهَا الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا: أَنْ يَرْضَى بِاللَّـهِ تَعَالَى رَبًّا؛ فَإِنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِاللَّـهِ تَعَالَى رَبًّا اجْتَمَعَ قَلْبُهُ، وَأَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَعَلِمَ دِينَهُ، وَعَرَفَ بِدَايَتَهُ وَنِهَايَتَهُ، وَسَعِدَ بِهَذَا الرِّضَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ: فَأَمَّا سَعَادَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَمِصْدَاقُهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّـهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَا طَعْمَ فِي الدُّنْيَا أَلَذُّ مِنْ طَعْمِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَفِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: رَضِيتُ بِاللَّـهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّـهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
إِنَّهَا مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ يَرْضَى بِهِ رَبًّا، وَيُعْلِنُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتِ ادِّعَاءً بِلَا إِثْبَاتٍ، وَلَا أَقْوَالًا بِلَا فِعَالٍ؛ وَلِذَا كَانَ عَسِيرًا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ أَنْ يَبْلُغَهَا؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَهَا يَعْنِي اسْتِسْلَامًا كَامِلًا لِأَمْرِ اللَّـهِ تَعَالَى وَنَهْيِهِ، وَإِذْعَانًا لِشَرْعِهِ، وَطَاعَةً لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَحِينَ يُعْلِنُ الْعَبْدُ أَنَّهُ رَضِيَ بِاللَّـهِ تَعَالَى رَبًّا فَإِنَّهُ يُعْلِنُ أَنَّهُ رَضِيَ بِكُلِّ مَا يُرْضِيهِ، وَجَانَبَ كُلَّ مَا يُسْخِطُهُ.
وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ، وَيُدْرِكُونَ أَنَّ غَضَبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يُغْضِبُ اللهَ تَعَالَى، وَأَنَّ رَدَّ حُكْمٍ وَاحِدٍ لَهُ أَوِ التَّوَقُّفَ فِيهِ هُوَ رَدٌّ لِحُكْمِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَذَاتَ مَرَّةٍ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْأَلَةٍ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ فَمَاذَا كَانَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لمَّا غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ غَضَبَهُ، قَالَ: رَضِينَا بِاللَّـهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ غَضَبِ اللَّـهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ. فَجَعَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَذَاتَ مَرَّةٍ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ بَلَغَهُ، فَقَامَ فِي أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- خَطِيبًا فَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهُ، فَوَاللَّـهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا»، قَالَ أَنَسٌ: فَأَكْثَرَ النَّاسُ البُكَاءَ، وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: «سَلُونِي...»، ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: «سَلُونِي سَلُونِي»، فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّـهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لاَفٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: «فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ، قَالَ: غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ».
لِمَاذَا خَافَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كُلَّ هَذَا الْخَوْفِ مِنْ غَضَبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ وَلِمَاذَا اجْتَهَدَ عُمَرُ فِي اسْتِرْضَائِهِ؟ وَكَانَ اسْتِرْضَاؤُهُ بِإِعْلَانِ الرِّضَا بِاللَّـهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا.
إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُحَقِّقُوا الرِّضَا بِاللَّـهِ تَعَالَى رَبًّا، وَلِذَا تَعَوَّذَ عُمَرُ مِنْ غَضَبِ اللَّـهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ.
وَفِي مَرَّاتٍ عِدَّةٍ يَرُدُّ أَحَدُ المُنَافِقِينَ حُكْمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَفْعَلُ فِعْلًا مُخَالِفًا لِمَا أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ يَقُولُ قَوْلًا يُفْهَمُ مِنْهُ انْتِقَاصُهُ، أَوْ يَقِفُ مَوْقِفًا يَظْهَرُ فِيهِ أَنَّهُ يُنَافِحُ عَنْ أَعْدَائِهِ، فَلَا يَتَوَرَّعُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَنْ وَصْفِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ، وَكَمْ مَرَّةٍ قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ»! وَذَلِكَ لِمَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِسْلَامِ الْكَامِلِ لِأَوَامِرِ اللَّـهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخُضُوعِ التَّامِّ لِشَرِيعَتِهِ، وَقَبُولِ أَحْكَامِهِ كُلِّهَا؛ فَالْخُرُوجُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا خُرُوجٌ عَنْ جَمِيعِهَا.
إِنَّ مَنْ رَضِيَ بِاللَّـهِ تَعَالَى رَبًّا أَحَبَّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الطَّاعَاتِ فَأَحَّبَ كُلَّ فَرِيضَةٍ، وَأَحَبَّ كُلَّ سُنَّةٍ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهَا، وَأَحَبَّ أَمَاكِنَ الطَّاعَاتِ كَالمَسَاجِدِ وَحِلَقِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ، وَأَحَبَّ مَنْ يَحْضُرُهَا، وَمَنْ يَلْتَزِمُ بِالْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، وَيَكُونُ حُبُّهُ لِلنَّاسِ بِقَدْرِ مَا فِيهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ، فَيُحِبُّ أَهْلَ الطَّاعَةِ لِعِلْمِهِ بِرِضَا اللَّـهِ تَعَالَى عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُرْضِيهِ، وَهُوَ قَدْ رَضِيَ بِاللَّـهِ تَعَالَى رَبًّا.
وَمَنْ رَضِيَ بِاللَّـهِ تَعَالَى رَبًّا أَبْغَضَ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ، وَأَبْغَضَ الْأَشْخَاصَ الَّذِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَيْهَا، وَأَبْغَضَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي تَنْتَشِرُ فِيهَا؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُبْغِضُهَا وَيَكْرَهُهَا وَلَا يُحِبُّهَا، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالْإِخْبَارِ عَنْ بُغْضِ اللَّـهِ تَعَالَى لِمَا يُخَالِفُ شَرْعَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَلِمَنْ يُخَالِفُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ مِنَ الْأَشْخَاصِ، وَهَاكُمْ بَعْضَ الْآيَاتِ: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ﴾ [الزُّمر: 7]، ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ [البقرة: 205] ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 57]، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: 107]، ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31] ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ﴾ [النحل: 23]، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58] ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: 38]، ﴿فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 96]، وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يُعَارِضُونَ شَرِيعَتَهُ، وَيَرُدُّونَ أَحْكَامَهُ، وَيُرِيدُونَ إِشَاعَةَ مَا نَهَى عَنْهُ مِنَ المُنْكَرَاتِ فَكَيْفَ يَرْضَى عَنْهُمْ مَنْ رَضِيَ بِاللَّـهِ تَعَالَى رَبًّا؟ وَكَيْفَ يَرْضَى بِأَقْوَالِهمُ المُحَادَّةِ لِشَرِيعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى؟ وَكَيْفَ يَرْضَى بِأَفْعَالِهمُ الَّتِي فِيهَا مَا يُغْضِبُهُ سُبْحَانَهُ؟! وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ يَقَعُونَ فِي ذَلِكَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ يُسْخِطُونَ اللهَ تَعَالَى؛ إِمَّا لِجَهْلِهِمْ بِفَظَاعَةِ فِعْلِهِمْ، أَوْ لِهَوًى فِي نُفُوسِهِمْ، أَوْ حَمِيَّةً لِأَقْوَامٍ يُحِبُّونَهُمْ، أَوِ اتِّبَاعًا لِغَيْرِهِمْ، لِسَانُ حَالِ أَحَدِهِمْ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. وَلَنْ يَحْمِلَ النَّاسُ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَلَنْ يَسْلَمَ هُوَ مِنْ مَغَبَّةِ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، وَقَدْ يَدْخُلُ المُصَلِّي النَّارَ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا، أَوْ فِعْلَةٍ فَعَلَهَا، أَوْ تَغْرِيدَةٍ غَرَّدَ بِهَا، أَوْ بِمَوْقِفٍ اتَّخَذَهُ نَصَرَ فِيهِ بَاطِلًا أَوْ أَخْفَى حَقًّا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ». وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُحْبَطُ عَمَلُ الْعَبْدِ بِسَبَبِ كَرَاهِيَتِهِ لِطَاعَةٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، كَمَنْ يَكْرَهُ شَعِيرَةَ الْحِسْبَةِ أَوْ حِجَابَ المَرْأَةِ، وَوَدَّ لَوْ أَلْغَى شَيْئًا مِنْ شَرِيعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 9].
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلْيَتَبَصَّرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا فِي طَرِيقِهِ، وَلْيُحَاسِبْ نَفْسَهُ عَلَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَوَاقِفِهِ، وَلَا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّـهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 116].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ فَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَنَسْتَغْفِرُهُ لِذُنُوبِنَا فَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّـهِ تَعَالَى رَبًّا فَهُوَ يُرْضِي مَلِكًا خَالِقًا مُدَبِّرًا أَحَدًا صَمَدًا بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يُقْضَى شَأْنٌ إِلَّا بِأَمْرِهِ، سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَأَمَّا مَنْ يُرْضِي الْبَشَرَ مِنْ دُونِ اللَّـهِ تَعَالَى فَهُوَ يُرْضِي عَبِيدًا مَخْلُوقِينَ مِثْلَهُ، فَلَا يَجْتَمِعُ قَلْبُهُ؛ لِأَنَّ رَغَبَاتِ الْبَشَرِ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَرِضَا بَعْضِهِمْ يُسْخِطُ آخَرِينَ مِنْهُمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الحَمْدُ لِلَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزُّمر: 29].
ثُمَّ إِنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْبَشَرِ مُتَقَلِّبُ المِزَاجِ، مُتَعَدِّدُ المَصَالِحِ، فَإِرْضَاؤُهُ يُوقِعُ مَنْ يُرْضِيهِ فِي التَّنَاقُضَاتِ. وَقَدْ رَأَيْنَا مَنْ يَسْعَوْنُ جُهْدَهُمْ فِي إِرْضَاءِ الْبَشَرِ مِنْ دُونِ اللَّـهِ تَعَالَى يَقُولُونُ الْقَوْلَ ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ يَنْقُضُونَهُ، وَيَمْدَحُون الْيَوْمَ مَنْ يَذُمُّونَ بِالْأَمْسِ، بِحَسَبِ رَغْبَةِ مَنْ يُرْضُونَ، حَتَّى صَارُوا شَمَاتَةً لِلْمُتَصَيِّدِينَ وَالسَّاخِرِينَ بِسُرْعَةِ تَنَاقُضِهِمْ.
وَأَمَّا مَنْ يُرْضِي اللهَ تَعَالَى فَهُوَ ثَابِتٌ فِي مَوَاقِفِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ شَرِيعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى. وَشَرِيعَتُهُ سُبْحَانَهُ ثَابِتَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَلَا بِتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ وَالدُّوَلِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنِ التَمَسَ رِضَاءَ اللَّـهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّـهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

915.doc

رضا الخالق سبحانه ورضا المخلوق.doc

رضا الخالق سبحانه ورضا المخلوق.doc

رضا الخالق سبحانه ورضا المخلوق-مشكولة.doc

رضا الخالق سبحانه ورضا المخلوق-مشكولة.doc

المشاهدات 2790 | التعليقات 3

نفع الله بك يا شيخنا وبارك في علمك وقولك وعملك

طرح دقيق وتناول متقن لقضية حساسة

ومناسبة لما يجري الآن

جزاك الله خير الجزاء وجعلها في ميزان حسناتك


جزاك الله خيرا


شكر الله تعالى لكما ونفع بكما