رسالة لمن طال عليه الأمد .. فقسى قلبه

عبدالله اليابس
1438/07/23 - 2017/04/20 13:08PM
رسالة خاصة لمن طال عليه الأمد فقسى قلبه
الحمد لله الذي بيده الإيجاد والإنشاء, والإماتة والإحياء، والعافية والبلاء، والدَّاء والدَّواء، خلق آدم وبثَّ من نسله الرجالَ والنساء، فمنهم العالم الذَّاكر ومنهم الجاهل النسَّاء، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾.
وأصلي وأسلم على رسول الله محمد أشرفِ راكبٍ حوته البيداء، وعلى آله وأصحابه أولي العزة والإباء, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الجزاء.
أما بعد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. خطبة هذا اليوم لن تكون عامةً كما جرت بذلك عادة الخطب, بل هي رسالة خاصة!
إنها رسالة خاصة لكل من سلك يومًا سبيل الهداية, والتحق بركب الصالحين.
هي رسالة نعيد من خلالها فتح أيام كانت ترفرف بين جنباتها السعادة, و يحفها النعيم والراحة.
رسالة دفع إليها طول الأمل.. وطول الأمد.. طول الأمل في الدنيا .. وظن الإنسان أنه سيعيش أمدًا بعيدًا .. يلهث وراء الدنيا.. يجمع من زخرفها وملذاتها التي لن يدخل معه إلى قبره شيء منها .. وطول الأمد .. بعد أن مرت السنوات .. وتراكمت الذنوب والمعاصي .. فغطت ورانت على القلب حتى حجبت عنه كثيرًا من النور الذي كان يبصر به الطريق.
طول الأمد .. ذاك الذي حذر الله تعالى من خطره .. وأرشد إلى تفقد الإنسانِ قلبه قبل أن يستولي عليه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ..
نعم .. طال عليهم الأمد .. فقست قلوبهم .. قست.. فلم تعد تتأثر بالمواعظ كما كانت .. قست.. فأصبحت لا تجد للصلاة لونًا ولا طعمًا.. قست فأصبحت تعرف المعروف ولا تأتيه .. وتبصر المنكر فتقبل عليه.
أَتَذْكُرُ أيها الحبيب .. أتذكر تلك الأيام .. التي كنت تسعى فيها سعيًا لاستغلال كل ثانية من وقتك في طاعة الله.
أتذكر حرصك على الصلاة واستحضارَ قلبك فيها, أتذكر مسابقتك للمؤذن على دخول المسجد؟ هل تتذكر مكوثك في المسجد بعد الصلاة بين ذكر ودعاء وقراءة قرآن؟ أين ذهبت تلك الطاعات؟
أما زالت في ذاكرتك تلك الليالي الجميلة التي تصف فيها قدميك لله تبارك وتعالى في جوف الليل, تطيل القيام, ثم تطيل السجود, تطرح حاجاتك بين يَدَي ملك الملوك, وتنزل فيها دمعاتك على وجنتيك, في ساعة لا يعلم بها عن حالك أحد .. ولم تكن تريد بذلك إلا وجه الله تعالى.. أتذكر تلك اللحظات .. أتذكر الانشراح الذي كنت تحس به في قلبك .. والنور الذي كانوا يبصرونه في وجهك .. والتوفيق الذي كنت تراه في دربك .. أما زلت مقيمًا على ذلك؟ أم تُراه أصبح ذكريات من الماضي؟
أخبرني يا محب .. عن علاقتك بكتاب ربك .. هذا الكتاب الذي طالما أحييتَ به الليالي .. وطالما تسابقت مع أصحاب الخير على حفظه وإتقانه .. أخبرني عن حالك اليوم مع القرآن؟ متى كان آخر عهدك به؟ كيف حال ختمتك الدورية؟ هل ما زلت على العهد؟ أم أصبحت من الذين اتخذوا القرآن مهجورًا؟ كيف حالك مع الأذكار .. أذكار الصباح والمساء.. وأذكار النوم .. والأذكار بعد الصلوات؟
ما أجملها من لحظات .. تلك التي كنت تجلسُ فيها بعد الفجر إلى طلوع الشمس .. وما أجملها من أيام .. تلك التي كنت تواضب فيها على صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع .. أما زلت على العهد أم طال عليك الأمد؟
حدثني عن حالك مع العلم .. عن مكتبتك التي تعبت في جمعها ودفعت فيها آلافَ الريالات .. هل ما زلت تقضي أغلب يومك فيها كما كنت؟ أم أصبَحَت مأوىً للعناكب والغبار؟ أم أنك تخلصت منها لكي توسع لك مساحة في البيت؟
حدثني عن حالك مع الدعوة, وانتشال غرقى المعاصي إلى بر الطاعة والأمان, حدثني عن حالك معها .. أما زلتَ كما عهدتُك تسري الدعوة في شرايينك .. داعيًا إلى الله في جميع أحوالك وتصرفاتك؟ أما زلت آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر؟ تستغل كل فرصة واجتماع وموقف لتنشر فيه خيرًا أو تمنع فيه منكرًا؟ أما زلت على العهد أم طال عليك الأمد؟
أيها الأخ الحبيب .. أتذكر أيامًا خلت .. تلك الأيام التي كنت تتورع فيها عن كثير من المباحات خشية الوقوع في المحرمات .. وأمام عينيك قولَ المصطفى صلى الله عليه وسلم (دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك).. تلك الأيام التي كنت تحرص فيها أن لا تجلس في مجلس إلا وتذكر الله فيه .. تلك الأيام التي كنت حريصًا فيها على نقاء مجلسك من الغيبة والكذب وفحش القول .. تلك الأيام التي كنت فيها متورعًا عن أن يمس المقص لحيتك .. أو يقارب الثوب كعبك .. تلك الأيام التي كنت تغض بصرك عن المرأة إذا مرت أمامك ولو كانت متلفعة بعباءتها.. أما زلت على العهد أم طال عليك الأمد؟
هل طال عليك الأمد فأصبحت تتساهل بسماع الموسيقى بحجة أنها خلفية لمقطع أو مصاحبة لأخبار أو أنها شيلة شعبية؟ هل طال الأمد فعبث المقص باللحية ونزل الثوب عن الكعب وعُمِرَتِ المجالس باللغو والتوافه .. وتنقلت العينين في وجوه النساء وأجسادهن ..
أما زلت على العهد أم طال عليك الأمد ؟
يا سليل المجد ماذا غيرك *** أنت للمجدِ وهذا المجدُ لك
كيف تغفو يا فتى التوحيد هل *** هيأ الأعداء في الدرب الشَرَك
أيــهـــا الســـادر فــي لـــذاتـــه *** هل ترى عيش المعـاصي أعجبك
أُمتــي قــد علـقـت فيـك المُنـى ***فاستفق وانهض وغادر مضجعك
عُد إلى الرحمن في طهرٌ تجـد *** مركب النصـر إلى العليـاء معـاك
وترى الأبطـال آســادَ الشــرى *** تشتـهــي يـــوم الـفـــداء أن تـتـبـعـك
أيها المحب .. إن كنت على العهد فبارك الله فيك .. وثبتك على الحق إلى يوم تلقاه .. فاثبت فإن الطريق شاق وطويل .. لكن نهايته {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.
أما إن كنت ممن طال عليهم الأمد .. فأخاطبك بنداء الله لك: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} .. أما آن .. أما آن .. ولا يَسرِيَنَّ إلى قلبك اليأس .. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله تعالى لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على النبي الأمين, أما بعد:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. إن أمتكم تتعرض لهجمة شرسة على جميع الأصعدة .. هجمةٍ عسكريةٍ اقتصاديةٍ فكريةٍ أخلاقيةٍ دينية .. وإن حماة هذه الأمة, ودرعها الحصين بعد الله هم المخلصون من أبنائها.. وإن من أول ما ينبغي على كل فرد من أبناء هذه الأمة أن يعود إلى دين الله تعالى .. يعود إليه بصدق .. لنحاسب أنفسنا .. ولنتعاهدها بالمحاسبة والمتابعة والتدقيق .. لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا ..
لا تُنصر هذه الأمة إلا بنصرتها لله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .. نصر من الله وتثبيت .. وأنعم به من نصر ..
وَعْدٌ من الله تعالى {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (كنتُ أسقي أبا طلحَةَ، وسُهَيْلَ بنَ بيضاءَ، وأبا عُبَيْدةَ بنَ الجرَّاحِ، وأبا دُجانَةَ, (يعني الخمر) فمر رجل فَنادى: ألا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمَت ألا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمَت, قال: فواللَّهِ ما انتَظروا حتَّى يعلَموا أحقًّا ما قالَ أم باطلًا, فقالَ: أَكْفئ إناءَكَ يا أنَسُ، فَكَفأتُها، فلم ترجِعْ إلى رءوسِهِم حتَّى لَقوا اللَّهَ عزَّ وجلَّ).
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.
سينصر الله تعالى عباده .. إن عاجلاً أو آجلاً.. ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملاً .. {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
والسؤال الذي يطرح نفسه على كل منَّا: هل أنا ممن يساهم في تعجيل النصر أم في تأخيره.
اللهم اجعلنا ممن ينصر دينك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم, اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك, اللهم دلنا على الحق وثبتنا عليه حتى نلقاك يا أرحم الراحمين.
اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات

رسالة خاصة لمن طال عليه الأمد 17-7-1438هـ.docx

رسالة خاصة لمن طال عليه الأمد 17-7-1438هـ.docx

المشاهدات 2042 | التعليقات 0