رسالة إلى إمام يطيل في الصلاة
الشيخ السيد مراد سلامة
وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذ المذاق
وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق
، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كتب ولا في أيِّ الفريقين يساق
فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، إلهٌ عزَّ مَن اعتز به فلا يضام
وذلَّ مَن تكبر عن أمره ولقي الآثام.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، الذي جُمع فيه الأنبياء تحت لوائه.
وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
ثم أما بعد:
هناك أئمة يدخلون في الصلاة ولا يلتفتون إلى من خلفهم من المصلين فتجد الواحد منهم يطيل في صلاته ولا يبالي بمن خلفه من المرضى وذوي الحاجات مما يؤدي إلى نفور الناس من المساجد وكثرة الشكاوى منهم وكثيرا ما يشتكي إلي المصلون في مساجد كثيرة من أن البعض يدخل في الصلاة و لا يبالي بكبار السن ولا بالمرضى ولا بالضعفاء وهذا إن دل فإنما يدل على قلة الفقه و العلم بالسنة في الصلاة.
أيها الإمام الذي تصلي بالناس اسمع:
عن عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أُمَّ قَوْمَكَ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا قَالَ: «ادْنُهْ» فَجَلَّسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ. ثُمَّ قَالَ: «تَحَوَّلْ» فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «أُمَّ قَوْمَكَ. فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ، فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ»([1]).
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ؛ مِمَّا يُطِيلُ بنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فًقَالَ: "يا أيها النُّاسُ! إِنَّ مِنْكُم مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ، فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِه الكَبِيرَ، والصَّغِيرَ، وَذَا الحَاجَةِ" ([2])
أيها الأئمة يسروا ولا تعسروا، وخففوا ولا تطولوا، مع المحافظة على أركان الصلاة وسننها واستجاب الصحابة رضي الله عنهم، فكان عبد الرحمن بن عوف يقرأ بأقصر سورتين في القرآن {إنا أعطيناك الكوثر} {إذا جاء نصر الله والفتح} واقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه أَنَس بْنِ مَالِكٍ،: «مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً، وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».([3])
قال ابن دقيق العيد:" يدل على طلب أمرين في الصلاة: التخفيف في حق الإمام مع الإتمام وعدم التقصير، وذلك هو الوسط العدل والميل إلى أحد الطرفين خروج عنه، وأن التقصير عن الإتمام بخس لحق العبادة، وأنه لا يراد بالتقصير ههنا: ترك الواجبات؛ فإن ذلك مفسدة موجب للنقص الذي يرفع حقيقة الصلاة وإنما المراد التقصير عن المسنونات والتمام بفعلها. ([4])
عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِىِّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ جُهَيْنَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ في الصُّبْحِ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ) فِى الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فَلاَ أَدْرِى أَنَسِىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا.. ([5])
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ السُّوَرِ. ". ([6])
قال النووي: قال العلماء: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تختلف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل، ولا شغل هناك له ولا لهم طول، وإذا لم يكن كذلك خفف، وقد يريد الإطالة، ثم يعرض ما يقتضي التخفيف كبكاء الصبي ونحوه، وينضم إلى هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت فيخفف، وقيل: إنما طول في بعض الأوقات وهو الأقل، وخفف في معظمهما، فالإطالة لبيان جوازها، والتخفيف لأنه الأفضل، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالتخفيف، وقال: "إن منكم منفرين، فأيكم صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة".
وقيل: طول في وقت وخفف في وقت ليبين أن القراءة فيما زاد على الفاتحة لا تقدير فيها من حيث الاشتراطات، بل يجوز قليلها وكثيرها، وإنما يشترط الفاتحة، ولهذا اتفقت الروايات عليها، واختلف فيما زاد، وعلى الجملة السنة التخفيف. اهـ.([7])
عَنْ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي العِشَاءِ الآخِرَةِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ». ([8])
قال الحافظ " وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي قال له: [أنت إمام قومك، واقدر القوم بأضعفهم ] إسناده حسن, وأصله في مسلم " ([9])
قال اليعمري الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا قال وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وعلل بالمشقة وهو مع ذلك يشرع ولو لم يشق عملا بالغالب لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وهنا كذلك قوله الضعيف والكبير كذا للأكثر ووقع في رواية سفيان في العلم فإن فيهم المريض والضعيف وكأن المراد بالضعيف هنا المريض وهناك من يكون ضعيفا في خلقته كالنحيف والمسن وسيأتي في الباب الذي بعده مزيد قول فيه ([10])
قَالَ اِبْنُ عَبْدَ الْبَرِّ في التمهيد : التَّخْفِيفُ لِكُلِّ إِمَامٍ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ أَقَلُّ الْكَمَالِ ، وَأَمَّا الْحَذْفُ وَالنُّقْصَانُ فَلَا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ نَقْرِ الْغُرَابِ ، وَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ فَقَالَ لَهُ اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ، وَقَالَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ ، ثُمَّ قَالَ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اِسْتِحْبَابِ التَّخْفِيفِ لِكُلِّ مَنْ أَمَّ قَوْمًا عَلَى مَا شَرَطْنَا مِنْ الْإِتْمَامِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لَا تُبَغِّضُوا اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ ، يُطَوِّلُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى يَشُقَّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ اِنْتَهَى .
قال الشيخ النجمي : وعندما ترجع إلى الموازنة بين حال الصحابة وحال المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة تعرف أنما يسمى في عرف الصحابة تخفيفاً يسمى في عرف الناس اليوم تطويلاً .([11])
ضابط التخفيف
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "وليخفف الإمام ندباً مع فعل الأبعاض والهيئات، أي بقية السنن وجميع ما يأتي به من واجب ومندوب، بحيث لا يقتصر على الأقل، ولا يستوفي الأكمل، وإلا كره، بل يأتي بأدنى الكمال للخبر المتفق عليه: (إذا أمَّ أحدكم الناس فليُخفِّف؛ فإنَّ فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليُطلْ ما شاء) متفق عليه" انتهى
وسئل ابن باز رحمه الله:
ما الضابط في عدم التطويل فبعض الناس يشكون من التطويل؟
فأجاب:
العبرة بالأكثرية والضعفاء، فإذا كان الأكثرية يرغبون في الإطالة بعض الشيء وليس فيهم من يراعى من الضعفة والمرضى أو كبار السن فإنه لا حرج في ذلك ، وإذا كان فيهم الضعيف من المرضى أو من كبار السن فينبغي للإمام أن ينظر إلى مصلحتهم .
ولهذا جاء في حديث عثمان بن أبي العاص قال له النبي صلى الله عليه وسلم : اقتد بأضعفهم وفي الحديث الآخر : فإن وراءه الضعيف والكبير كما تقدم ، فالمقصود أنه يراعي الضعفاء من جهة تخفيف القراءة والركوع والسجود وإذا كانوا متقاربين يراعي الأكثرية .
حكم التطويل في الصلاة
اعلم بارك الله فيك أن للعلماء في حكم التطويل قولان:
القول الأول:
أن تطويل الإمام على المأمومين محرم وهو قول الحنفية، والشافعي واختاره ابن بطال، وابن عبد البر ومقتضى قول ابن حزم، والشوكاني
القول الثاني:
أن تطويل الإمام على المأمومين مكروه؛ فالمستحب له التخفيف مع الإتمام وبه قال المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الترجيح:
الراجح هو القول الأول وهو تحريم الإطالة في حق المأمومين.
قال العثيمين مرجحا هذا القول: وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام غضب في هذه الموعظة من أجل الإطالة فكيف نقتصر على السنية في التخفيف.
ولهذا؛ فإنَّ القولَ الذي تؤيُّده الأدلة: أنَّ التطويلَ الزائدَ على السنَّةِ حرامٌ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام غضب لذلك. ا.هـ.
والخلاصة أن الضابط القراءة بقصار السور وأوساطها، والاقتصار على ثلاث تسبيحات للمأمومين، والإتيان بأذكار الاعتدال من الركوع والجلوس بين السجدتين. والله أعلم
[1] - أخرجه ابن أبى شيبة (1/405 ، رقم 4659) ، ومسلم (1/341 ، رقم 468) . وأخرجه أيضًا : البيهقي (3/118 ، رقم 5061) .
[2] - رواه البخاري (90)، كتاب: العلم، باب: الغضب في الموعظة والتعليم، إذا رأى ما يكره، و (670) ومسلم (466)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، وابن ماجه (984)، كتاب: الصلاة، باب: من أمَّ قوماً فليخفف.
[3] - أخرجه البخاري في: 10 كتاب الأذان: 65 باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي
[4] - إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (ص: 158)
[5] - أبو داود في سننه ج 1/ ص 216 حديث رقم: 816 قال النووي في " المجموع " (3/384) :" إسناده صحيح ".
[6] - أخرجه ابن أبى شيبة (1/314 ، رقم 3586) .
[7] - فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 12)
[8] - الترمذي في سننه ج 2/ ص 115 حديث رقم: 309 قال الشيخ الألباني : صحيح
[9] - صححه الألباني في صحيح الجامع انظر حديث رقم : 1480
[10] - فتح الباري - ابن حجر (2/ 199)
[11] - تأسيس الأحكام ( 1 / 123 )