رد الفعل المعاكس
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أما بعد:
فَلَقد دَرسنَا في مَادةِ الفِيزياءِ قَانونَ إسحقَ نيوتن الثَّالثُ للحركةِ والذي ينُصُّ على أنَّ: (لكلِّ فِعلٍ رَدُّ فِعلٍ، مُساوٍ له في المقدارِ، ومعاكسُ له في الاتجاهِ)، فكُنَّا نقولُ: هل لمعرفةِ هذا فائدةٌ شَرعيَّةٌ؟، والجوابُ: أنَّ من كانَ له قلبٌ حيٌّ يقظانُ، فكلُ ما تراهُ العَينانِ وتسمعُه الآذانُ، فإنَّه يربطُه بحكمةِ خالقِ الأكوانِ.
تعالوا معي إلى القرآنِ الكريمِ، لمَّا جاءَ الأنبياءُ عَليهُم الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى أقوامِهم بدعوةِ الحقِّ والتَّوحيدِ، (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ)، فماذا كانَ ردُّ الفِعلِ المُعاكسُ له في الاتِّجاهِ؟، قَالَ قومُ نوحٍ عليهِ السَّلامُ: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، وقَالَ قومِ هُودٍ عليهِ السَّلامُ: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، ولما جاءَ لوطٌ عليهِ السَّلامُ إلى قومِه بدَعوةِ الطُّهرِ: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ)، ماذا كانَ ردُّ الفِعلِ المُعاكسُ في الاتِّجاهِ؟، (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
وأما في السِّيرةِ فكثيرٌ، ومنها: عِندَما صَعدَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ الصَّفا ذَاتَ يَومٍ، فَقَالَ: (يا صَبَاحَاهُ)، فاجتمعتْ إليه قريشٌ، قَالوا: مَا لَكَ؟، قَالَ: (أَرأيتُم لو أَخبرتُكم أنَّ العَدوَّ يُصبِّحُكُم أو يُمسيكُم، أمَا كُنتُم تُصدِّقونَني؟)، قَالوا: بلى، مَا جَرَّبنَا عَليكَ كَذِباً، قَالَ: (فإنِّي نَذيرٌ لَكُم بَينَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ)، فماذا كانَ ردُّ الفِعلِ المُعاكسُ لَهُ في الاتِّجاهِ؟، قَالَ أَبو لَهبٍ: تبًّا لَكَ، ألهذا جَمعتَنا؟.
وأما في التَّاريخِ المُعاصرِ، فَعِندما طَلَّتْ علينا بعضُ الفَضائياتِ الفَاسدةِ، هَبَّ العُلماءُ والمُصلحونَ في التَّحذيرِ منها، وبيانِ خَطرِها على الأفرادِ والمُجتَمعاتِ، وذكروا من الأمورِ العَظيمةِ التي قد تَحدثُ بسببِ برامجِها المُثيرةِ، ومُسَلسلاتِها وأفلامِها الحَقيرةِ، حتى قُلنا حِينَها: لعلَّ هذا من بابِ المُبالغةِ.
ولكنْ حدثَ ما لم يَكنْ في الحُسبانِ، وفُتحَ الإعلامُ على مِصراعيهِ بحُجةِ الانفتاحِ على ثقافةِ الآخرينَ، وشاهدَ الشَّبابُ والفتياتُ ما يُعرضُ على الشَّاشاتِ، دونَ ضوابطَ أو تحذيرٍ أو توجيهاتٍ، فماذا حدثَ؟.
بسببِ أفلامِ الحبِّ والمُجونِ، انتشرتْ العلاقاتُ المُحرَّمةُ المَمقوتةُ، وأُثيرتْ الشَّهواتُ المُتَهوِّرةُ المَكبوتةُ.
وبسببِ أفلامِ العُنفِ والقِتالِ، انتشرت الجريمةُ بينَ الشَّبابِ، وامتلأتْ السُّجونُ إلى البابِ.
وبسببِ برامجِ الفِكرِ والحِوارِ، انتشرتْ الأفكارُ المتطرِّفةُ، بينَ إلحادٍ خطيرٍ، وبينَ غلوٍّ وتكفيرٍ.
انتشرَ التَّدخينُ والخمرُ والمُخدراتُ في المجتمعاتِ، وظَهَرتْ أشياءُ تُخالفُ الدِّينَ والعاداتِ؟، حتى أصبحتْ بعضُ البلدانِ الإسلاميةِ العربيةِ، نِسخةً من البلادِ الكافرةِ الغَربيةِ، وأصبحنا نرى على أولادِنا قصَّاتِ شَعرٍ غريبةً، وملابسَ وقِلاداتٍ وأساورَ عجيبةً، وتَغيَّرَ حِجابُ المُسلمةِ الأسودُ السَّاترُ، واعتادتْ العَينُ أن ترى الاختلاطَ السَّافرَ، وتغيَّرتْ الأفكارُ والمفاهيمُ، بطريقةٍ يَحتارُ فيها الحَليمُ، فهل عَلمتُم ما الذي حدثَ في البلادِ، عِندما ظَهَرتْ قَنواتُ الرَّذيلةِ والفَسادِ؟.
بارَكَ اللهُ لي ولكم في الكتابِ والسنةِ، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ والمسلماتِ من جميع الخَطيئاتِ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي لغفورٌ رَحيمٌ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلى اللهُ وسلمَ على نبيِّنا مُحمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أَجمعينَ .. أما بعد:
فماذا كانتْ ردةُ فِعلِ الفَضائياتِ الفَاسدةِ على تَحذيرِ العُلماءِ والمُصلحينَ المُعاكسُ في الاتِّجاهِ، والجائرُ ظُلماً وكَذباً في المِقدارِ؟، لا زالتْ تَسعى سَعياً حَثيثاً في النِّيلِ من أولئكَ العُلماءِ والمُصلحينَ، فتارةً بالهَمزِ واللَّمزِ، وتارةً بالسُّخريةِ والغَمزِ، حتى جَعلوا صُورةَ المُصلحِ كأنَّه وَاقفٌ على بابِ التَّقَدُّمِ كالسَّجانِ، بالتَّشدُّدِ في الفَتوى حتى سَرَقَ الزَّمانَ، وجَعلوا من النَّاهي عن المُنكرِ والآمرِ بالمَعروفِ، كأنَّه مُتَسلِّطٌ على حُريَّةِ النَّاسِ بالظُّلمِ والخَوفِ، وجَعلوا من خُطباءِ المنابرِ الفُضلاءِ، بُوقاً لكلِّ ضَالٍ ومَشبوهٍ من الأعداءِ.
فكَذبوا واللهِ، بل هذهِ البلادُ كانتْ ولا زالتْ تحتَ قِيادةٍ سياسيةٍ رَشيدةٍ، تَنطلقُ من فَتوى عَالمٍ مؤصلَّةٍ سَديدةٍ، ولا زالَ الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُّ عن المُنكرِ على حَسبِ المُستطاعِ، ولا زالتْ منابرُ الجُمعةِ تتحطمُ عندَ عَتبَتِها كثيرٌ من المِحنِ، وتنطفئُ من خِلالِ مُكَبِراتِها كثيرٌ من الفِتنِ، وأما ما كَانَ من سَقطةٍ اجتهاديةٍ لِداعيةٍ، أو غَلطةٍ فَرديةٍ لمُحتسبٍ، أو هَفوةٍ شَخصيةٍ لخَطيبٍ، فإنَّها قَد عُولِجَتْ في حِينِها، وأَخذَ المُخطئُ جَزاءَه، وبَقيَ المُجتمعُ مُحافظاً على دينِهِ وهَويتِه، مُلتَزِماً بالولاءِ لوطنِه وقيادتِه، ولكن إلى اللهِ تعالى نشكو هذهِ الفضائياتِ وما جَنَتْ، وعداوتَها لأولياءهِ فَكَذَبَتْ وَفَجَرتْ، وعِندَ اللهِ تَجتمعُ الخُصومُ.
لمن تَشتكي يا قلبُ والجُرحُ غَائرُ *** وحَولُكَ أصنافُ الهُمومِ تُحاصرُ
إلى اللهِ يا قَلبي، فربُّك عَالمٌ *** بأسرارِ ما تَشكو، وربُّكَ قَادرُ
اللهم إنا نسألُك شُكرَ نِعمتِكَ، وحُسنَ عِبادتِك، ونعوذُ بك من زَوالِ نعمتِك، وتحوُّلِ عافيتِك، ونعوذُ بك أن نُبدِّلَ نعمتَك كُفرًا، وأن نكفُرَها بعد أن عرفناها، وأن نَنساها ولا نُثنِيَ عليك بها، اللهمَّ اجعَلنَا مِمَّن إِذَا أُعطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَذنَبَ استَغفَرَ، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم لا تُؤاخِذنا بذنُوبِنا، ولا بما فعلَ السُّفهاءُ منا، اللهم أبرِم لهذه الأمةِ أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروفِ، ويُنهَى عن المُنكرِ، اللهم وفِّق وُلاةَ أمورِ المسلمينَ لتحكيمِ شرعِك، واتباعِ سُنَّة نبيِّك محمدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين، اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادِنا وبلادِ المسلمينَ، واكفِنا شرَّ الأشرارِ، وكيدَ الفُجَّارِ، وشرَّ طوارِقِ الليلِ والنهارِ.
المرفقات
1649204495_رد الفعل المعاكس.pdf
1649204508_رد الفعل المعاكس.docx