رحمة العالمين
هلال الهاجري
إنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بلله مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَاأَيُّهاَ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُ وَضُوءَهُ وَيُنَاوِلُهُ نَعْلَيْهِ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ)، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ)، ما معنى هذه الزِّيارةِ من الإمامِ الأعظمِ؟، وما معنى هذا الفرحِ بغلامٍ يهوديٍّ أسلمَ؟، أليسَ ترجمةً فعليَّةً لقولِه تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
لقد عاشَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في مكةَ ثلاثَ عشرةَ سنةً بينَ المُشركينَ، وعاشَ في المدينةِ عشرَ سنينَ معَ اليهودِ والمشركينَ والمنافقينَ، وبينَهم كانَ يمشي عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومعهم كانَ يتعاملُ، ومن تأملَ مُجتمعَ المدينةِ النَّبويَّةِ، عَلِمَ أعظمَ وأعدلَ مُجتمعٍ حوى مُعايشةً بينَ المسلمينَ وبينَ غيرِهم على مرِّ العُصورِ، واختلافِ الدُّهورِ، فحُقَّ على كلِّ مسلمٍ أن يتعلمَ من قُدوتِه وإمامِه التَّعاملَ مع غير المسلمينَ، حتى لا نقعَ في الأخطاءِ القادحةِ، والآثامِ الفادحةِ، وحتى لا يخلطَ الإنسانُ بينَ عقيدةِ الولاءِ والبراء، وبينَ الاعتداء على الأبرياءِ.
يا أهلَ الإيمانِ .. كانتْ الآياتُ تنزلُ على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ فيتلُوها على المؤمنينَ، ففي أهلِ الكِتابِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وفي المُشركينَ: (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)، وفي الكُّفارِ والمُنافقينَ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).
ويأتي السُّؤالُ: كيفَ ترجمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هذه الآياتِ في تعاملِه مع أصنافِ المُخالفينَ؟، كيفَ نجمعُ بينَ هذه الآياتِ وبينَ سيرتِه المُباركةِ؟، فهو لم يقتلْ بيديه الشَّريفةِ إلا واحداً وهو أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وفي ساحةِ الجِهادِ يومَ أحدٍ، وفدى أَسرى المشركينَ ومنهم اُسارى بدرٍ، وربطَ ثُمامةَ بنَ أُثالٍ وهو مُشركٌ في المسجدِ ثلاثةَ أيامٍ ثم أطلقَه، واستقبلَ اليهودَ والنَّصارى في مسجدِه، ودعا للمشركينَ (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَائْتِ بِهِمْ)، وأجابَ دعوةَ اليهودِ، وقبلَ هديةَ الكُفَّارِ، وأهدى إليهم، وتصدَّقَ عليهم، وماتَ ودرعُه مرهونةٌ عندَ يهوديٍ.
أتعلمونَ لماذا؟، لأنَّ الغايةَ العُظمى، والهمَّ الأسمى الذي كانَ يحملُه قلبُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ هو هدايةُ النَّاسِ إلى الحقِّ، ولِذلكَ لمَّا قَالَ لَهُ مَلَكُ الجِبالِ: (إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ - وَهُمَا جَبَلَانِ عَظِيمَانِ بِمَكَّةَ -، فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بهِ شَيْئًا)، سبحانَ اللهِ، فرصةً قد لا تتكرَّرُ، في الخلاصِ من أئمَّةِ الكُفرِ والضَّلالِ، بضربةٍ واحدةٍ من مَلَكِ الجِبالِ، ولكن لم يُوافقْ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ على هذا العرضِ، لأنَّ اللهَ سبحانَه وصفَه بقولِه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فَمَقصدُه هِدايةُ الكُّفَّارِ، ولَيسَ التَّعجيلُ بِهم إلى النَّارِ.
أَقُولُ قَولِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِكَافَةِ المُسْلَمَين مَن كُلِ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي أعزَّنا بالإسلامِ، وأكرمَنا بالإيمانِ، ورحمَنا بنبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهدى به من الضَّلالةِ، وجمعَ به من الشَّتاتِ، وألَّفَ به من الفُرقةِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، صدقَ أولياءَه الوعدَ بالنَّصرِ على أعدائِه، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، خاتمَ رسلِه وأنبيائِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسليماً كثيراً .. أما بعد:
جَاءَ في الحديثِ: (إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ)، وهَذهِ عَقيدةُ الولاءِ والبراءِ، التي يَنبغي أن تَكونَ في قَلوبِ الأتقياءِ، يقولُ الشَّيخُ عبدُ العزيزِ بنُ بازٍ رحمَه اللهُ: (الوَلاءُ والبَراءُ معناهُ محبَةُ المؤمنينَ وموالاتُهم، وبغضُ الكافرينَ ومعاداتُهم، والبَراءةُ منهم ومن دينِهم، هذا هو الولاءُ والبراءُ ... وليسَ معنى بغضِهم وعداوتِهم أن تظلمَهم أو تتعدَّى عليهم إذا لم يكونوا محاربينَ، وإنما معناهُ أن تبغضَهم في قلبِكَ وتعاديهم بقلبِكَ، ولا يكونوا أصحاباً لك، لكن لا تؤذيهم ولا تضرُّهم ولا تظلمُهم، فإذا سلمَّوا تردَّ عليهم السَّلامَ وتنصحُهم وتوجهُهم إلى الخيرِ)، ففقرقٌ بينَ عقيدةِ البَراءِ وبين المعاملةِ الحسنةِ لغرضِ الدَّعوةِ إلى اللهِ.
واليومَ وقد جاءَكم السِّيَّاحُ مِن كُلِّ مَكانٍ، فأروهم حُسنَ أَخلاقِ أهلِ الإيمانِ، فَكَم مِن مُعاملةٍ حَسنةٍ قَد أَدخَلَتْ في دِينِ اللهِ أفواجاً، وهَا هو رَسولُ الرَّحمةِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمَ يَبعثَ عَليَّاً رَضيَ اللهُ عَنهُ إلى سَاحاتِ القِتالِ، ولَكنْ يَقولُ لَهُ: (انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبرْهُمْ بمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ).
اللهمَّ إنَّا نعوذُ بك من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهم أصلحْ ذاتَ بيننا وألِّفْ بين قلوبِنا وأهدِنا سُبلَ السَّلامِ وأخرجْنا من الظُّلماتِ إلى النَّورِ، اللهم آمنَّا في الأوطانِ والدُّورِ، واصرف عنَّا الفِتنَ والشُّرورَ، اللهمَّ آتِ نفوسَنا تقواها زكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها أنت وليُّها ومولاها، اللهم إنا نسألُك الهُدى والسَّدادَ، اللهم إنَّا نسألُك الهُدى والتُّقى والعِفَّةَ والغِنى، اللهمَّ وفِّقْ وليَ أمرِنا لما تحبُ وترضَى وأعنْه على البِرِّ والتَّقوى وسدِّده في أقوالِه وأعمالِه، وألبسْه ثُوبَ الصِّحةِ والعافيةِ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، وارزقْه البِطانةَ النَّاصحةَ الصَّالحةَ يا حيُّ يا قَيومُ، اللهمَّ وَفِّقْ جميعَ وِلاةِ أُمورِ المُسلمينَ للعملِ بكتابِك واتِّباعِ سُنَّةِ نبيِّك محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ، واجعلهم رحمةً ورأفةً على عبادِك المؤمنينَ.
المرفقات
1660795124_رحمة العالمين.docx
1660795133_رحمة العالمين.pdf