رحلوا وبقي الأثر-12-7-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ راكان المغربي(خط كبير)

محمد محمد
1444/07/11 - 2023/02/02 21:37PM

رحلوا وبقي الأثر-12-7-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ راكان المغربي

الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:

فما أصعبَ لحظاتِ الرحيلِ، وأوقاتِ الفراقِ! حينَ يرحلُ عنك من كنتَ تلمسُ منهم السيرةَ الحسنةَ، والبذلَ الكريمَ، والعطاءَ المتدفقَ.

لا شكَ أنه خطبٌ جسيمٌ، وموقفٌ صعبٌ، ولكنْ هذا هو حالُ الدنيا!

في الأسبوعِ الماضي ودعتْ بلادُ الحرمينِ جبلًا من جبالِها، وعلمًا من أعلامِها، ممن غرسوا فيها سنابلَ الخيرِ، ونثروا فيها بذورُ الهدى.

قاموا في منابرِ الدعوةِ، ورابطوا على ثغورِ العطاءِ، فأنبتتْ دعوتُهم ثمارًا يانعةً، وقُطوفًا ناضجةً.

على أيديهم اهتدى كثيرٌ، وبجهودِ دعوتِهم أقبلَ كثيرٌ من الناسِ إلى ميادينِ الخيرِ والعلمِ والعملِ.

هذا العَلَمُ هو الشيخُ الداعيةُ عبدُ اللهِ بانعمة، الشابُ المقعدُ المشلولُ، الذي دعا إلى اللهِ وهو على كرسيهِ المتحركِ، بعدَ أنْ أُصيبَ بالشللِ الكاملِ، فلا يتحركُ منه إلا لسانُه.

عاشُ عبدُ اللهِ بانعمة قبلَ شلَلِهِ حياةَ الطيشِ والغفلةِ والبعدِ عنِ اللهِ، حتى دعا عليهِ أبوه، فأصيبَ في المسبحَ بضربةٍ في رأسهِ، أقعدتْ جسدَه، وشلتْ أعضاءَه.

أما سائرُ الناسِ فكانوا ينظرونَ إلى هذا الشابِ نظرةَ الشفقةِ عليهِ وعلى مستقبلهِ الذي انهارَ-في نظرِهم-بعدَ هذهِ الحادثةِ، وأما هو فقدْ قالَ عنْ هذهِ الحادثةِ: كنتُ مَيِّتًا فأحياني اللهُ بها.

يا ترى هلْ جُنَّ عقلُه؟ أم انقلبتْ موازينُه؟

الشابُ الذي كانَ يروحُ ويجيءُ، ويلهو ويلعبُ هو الميتُ، والشابُ المشلولُ الذي لا تتحركُ أطرافُه هو الحيُ!

فما هو الحلُ لهذهِ المشكلةِ؟!

حلُ هذه المسألةِ باختصارٍ هو بمعرفة المعنى الحقيقي للحياةِ والموتِ.

الحياةُ الحقيقيةُ هي حياةُ القلبِ، والموتُ الحقيقي هو موتُ القلبِ، هذا ما كان يقصدُه عبدُ اللهِ بانعمة-رحمه الله-.

حينَ أصيبَ بالشللِ تَفَكَّرَ في نفسِه، ورجعَ إلى ربِه، فعلمَ يقينًا أنَّ هذه المصيبةَ العظيمةَ التي أصيبَ بها إنما هي ابتلاءٌ منَ اللهِ، ليختبرَ صبرَه أو سخطَه، ليرى شُكرَه أم كُفرَه.

لقدْ نظرَ إلى البلاءِ النظرةَ الشرعيةَ الصحيحةَ، فحينَ سُئلَ-رحمه اللهُ-: "كيفُ الصبُر على البلاءِ؟ قال: "الحمدُ للهِ، آيةٌ في كتابِ اللهِ، وحديثٌ للنبيِ-صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَ-، الآيةُ: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)، والحديثُ: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له"، انتهى كلامُهُ.

كلماتٌ يسيرةٌ، لكنها منهجُ حياةٍ، يبني في النفسِ جبلًا من الصبرِ، تتحطمُ عليه كلُّ صنوفِ البلاءِ، بل إنَّ هذه الكلماتِ هي العلاجُ الوحيدُ الذي يُصَبُّ على المصائبِ والبلايا فيحولها إلى نعمٍ وعطايا.

وهذا ما حصلَ تمامًا مع عبدِ اللهِ بانعمة-رحمه الله-.

بإيمانه باللهِ حَوَّلَ ما كانَ يراهُ الناسُ شرًا وبلاءً إلى خيرٍ عميمٍ، ونعمٍ عظيمةٍ، فصارَ داعيةً إلى اللهِ، يطوفُ البلادَ ليُقَرِّبَ الناسَ إلى اللهِ ويحببَهم إليهِ.

لقد علمَّنا بانعمةُ أنَّ الإعاقةَ هي إعاقةُ القلبِ، لا إعاقةَ الجسدِ، فقدْ كانَ بقلبِه ولسانِه يفوقُ الملايينَ والملايينَ من الأصحاءِ، في الدعوةِ إلى اللهِ والبذلِ والعطاءِ.

كانَ يقولُ-رحمه اللهُ-عندما كانَ يُعَرِّفَ الناسَ بنفسِه: "أنا أخوكم في اللهِ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بانعمة، أعملُ في مستشفى المحبوبِ لعلاجِ القلوبِ، من غيرِ إبرٍ ولا حبوبٍ، في سبيلِ علَّامِ الغيوبِ، الذي بذكرِه تطمئنُ القلوبُ، شعاري في الحياةِ الدعوةُ إلى اللهِ (قلْ هذه سبيلي أدعو إلى اللهِ على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني)، وشعاري في الحياةِ نذرتُ الباقي للباقي، أي الباقي من عمري للباقي وهو اللهُ-سبحانه-".

وقد صَدَّقَ قولَه بفعلِه، فقدْ جعلَ حياتَه كلَّها دعوةً وبذلًا وعطاءً، حتى توفاهُ اللهُ الأسبوعَ الماضيَ عن عمرِ ستةٍ وأربعينَ عامًا، قضى أكثرَ من ثلاثينَ عامًا منها في الشللِ الكاملِ، فرحمه اللهُ، وغفرَ له، ورفعَ درجتَه في عليينَ، ورزقَه مرافقةَ النبيينَ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينَ.

ومما قيل في رثائه:

ثلاثونَ عامًا بالمعاناةِ تُشرِقُ

وقلبُك فيها بالمحبّة يخفقُ

تزيّنتَ بالصبرِ الجميلِ ولمْ تكنْ

يؤوسًا فبابُ اليأسِ عندك مُغلَقُ

وها أنتَ ذا تمضي وتتركُ لوحةً

من الهمّةِ الكبرى بصبرِك تَنْطِقُ

رحلتَ عن الدنيا وذكرُك بعدَما

رحلتَ جميلٌ والشّذا منه يَعْبِقُ

بارك الله لي ولكم..

أستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين...

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:

فبحسابِ الأعدادِ، قدْ يتساوونَ مع غيرِهم، عاشوا في هذه الدنيا أربعينَ خمسينَ ستينَ سبعينَ ثمانينَ سنةً..

ولكنْ بحسابِ الآثارِ، تتضاعفُ أعدادُهم، وتستمرُ أعمارُهم، وتَخْلُدُ ذكراهم.

عثمانُ بنُ عفانَ وأوقافُه، محمدٌ البخاريُ وكتابُه، زبيدةُ وعينُها الجاريُة، أمُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وابنُها أحمدُ المتربي على الخيرِ والنورِ على يديها-رحمهم اللهُ جميعًا-.

كلُّ هذه الأعمالِ وغيرُها كثيرٌ، مرَّ عليها مئاتُ السنينِ، ولكنها بقيتْ طولُ القرونِ، تمدُ أصحابَها بالحسناتِ الجاريةِ، وتمدُ الناسَ بالنفعِ والخيرِ الوفيرِ الذي لا ينقطعُ.

رحلوا وبقيتْ آثارُهم!

حين ترحل-يا أخي الكريمُ-ما الأثرُ الذي ستتركُه من بعدِك؟

ربما لا يكونُ لك جماهيرُ بالملايينِ ستستفيدُ من علمِك، ولا دورُ نشرٍ ستتسابقُ لطباعةِ كُتبِك، ولكنك تستطيعُ أنْ تعملَ بما دلَّك عليه النبيُ-صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسلمَّ-في حديثِهِ: "إذا ماتَ ابنُ آدمَ انقطعَ عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له".

هذه الأمورُ يقدرُ عليها عامةُ الناسِ:

صدقةٌ جاريةٌ بأنْ تُوقفَ وقفًا يُدِرُّ عليك منِ الحسناتِ ما بقيَ في هذه الدنيا.

علمٌ يُنتفعُ به كأنْ تَكْفَلَ داعيةً، أو تطبعَ كُتبا، أو تُنْشِئ حسابًا أو قناةً تجمعُ فيها من كلامِ العلماءِ الذين يُعَلِّمُونَ الناسَ علمَ القرآنِ والسنةِ.

ولدٌ صالحٌ تربيه على كتابِ اللهِ وسنة رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسلمَ-، تُعَلِّمُه القرآنَ، لا لتتفاخرَ به في مجالسِ الدنيا، بل ليصلحَه القرآنُ ويهديَه، ثم يُلْبِسَك تاجَ الوقارِ، ليكونَ رفعةً لك في الآخرةِ، ومددًا للحسناتِ في الدنيا.

هذه آثارٌ تستطيعُ أن تتركَها في دنياك، مثالًا لا حصرًا.

وكُن في الطريقِ عفيفَ الخُطى

شريفَ السماعِ كريمَ النظرْ

وكنْ رجلًا إنْ أتوا بعدَهُ

يقولون: مَرَّ وهذا الأثرْ

يا حيُّ يا قيومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، نسألكَ بأسمائِك الحُسْنَى، وصفاتِك العُلَى، يا ولي الإسلامِ وأهلِه ثبتْنا والمسلمينَ به حتى نلقاكَ.

اللهم أصلحْ لنا ديننَا ودنيانا وآخرتَنا، واجعلِ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً لنا منْ كلِّ شرٍ.

اللهم اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا وعنهم سيِئها، اللهم اغفرْ لوالدينا وارحمْهم واجعلْهم في الفردوسِ الأعلى من الجنةِ وإيانا والمسلمينَ، اللهم إنَّا نسألك لنا وللمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ في كلِّ شيءٍ، اللهم يا شافي اشفنا واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ والـمسالـمينَ، اللَّهُمَّ اِكْفِنَا والمسلمينَ بحلالِكَ عن حرامِكَ، وأَغْنِنـَا بفضلِكَ عَمَّنْ سِواكَ، اللَّهُمَّ إنَّا نسألُكَ مِنْ فَضْلِكَ ورَحْـمَتِكَ فإنَّهُ لا يـَمْلِكُها إلا أنتَ، اللهم اجعلنا والمسلمينَ ممن نصرَك فنصرْته، وحفظَك فحفظتْه، اللهُمَّ عليك بأعداءِ الإسلامِ والمسلمينَ وعليكَ بالظالمينَ فإنهم لا يعجزونَك، اكفنا واكفِ المسلمين شرَّهم بما شئتَ، حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، لا إلهَ إلَّا هوَ عليهِ توكلنا وهو ربُّ العرشِ العظيمِ، اللهُمَّ إنَّا نجعلُكَ في نـُحورِهم، ونعوذُ بكَ مِنْ شرورِهم، اللهم إنَّا والمسلمينَ مستضعفونَ فانتصرْ لنا يا قويُ يا عزيزُ.

اللهم أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، واجعلْ أَمرَهم لِنَصرِ دِينِكَ، ولإعلاءِ كَلمتِكَ، ووفقهمْ لما تحبُ وترضى، وانصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.

اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمين.

المرفقات

1675363024_رحلوا وبقي الأثر-12-7-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ راكان المغربي.docx

1675363028_رحلوا وبقي الأثر-12-7-1444هـ-مستفادة من خطبة الشيخ راكان المغربي.pdf

المشاهدات 817 | التعليقات 0