رحلة إلى الدار الآخرة

أحمد علي أحمد
1434/02/13 - 2012/12/26 18:02PM
رحلة إلى الدار الآخرة


الحمدلله, جعل الحياة الدنيا داراً للابتلاء والاختبار، وجعل الآخرة دارا للجزاء والحساب, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأخيار, وسلم تسليما كثيرا . أما بعد:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ )

عباد الله: تعالوا بنا لنحلق سوية في رحلة طويلة جدا, رحلة تكون بعد موتنا, رحلة إلى الدار الآخرة, بعد أن تخرج هذه الروح من الأجساد, وتنتقل بعد ذلك إلى دار القرار, إما جنة أو نار .

الموت باب وكل الناس داخله *** ياليت شعري بعدالموت ما الدار
الدار دار نعيم إن عملت بمــــــــا*** يرضي الإله وإن خالفتفـــالنــــــــــــــــــار
هما طريقان ما للناس غيرهـــــــــــم*** فانظر لنفسك أي الدار تختـــــــــــــــــــــار

فأرعني سمعك, وأعطني بصرك، وافتح لي عقلك، تفكر وتأمل واستمع, لتلك المشاهد والأحداث, والتي سنمر بها حتما, أول تلك المنازل بعد الموت :

القبر, وهي حفرة ضيقة, لكنها إما روضة من رياض الجنة, أو حفرة من حفر النار, قال رسول الله r " إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْر، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَات، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ " تفكر في أول ليلة تبيتها في قبرك بمفردك؟ بلا أنيس أو قريب, ليلة شديدة، بكى منها العلماء والحكماء، وشمر لها الصالحون الأتقياء؟
فارقت موضع مرقدي*** يوماَ ففارقني السكون
القــــــــــــبر أول ليلـــــــــــــــــــــة *** بالله قل لي ما يكون ؟!

تسأل في قبرك عن ربك ودينك ونبيك, فأعد لذلك السؤال جوابا ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) ثم يمكث أهل القبور كذلك, حتى يأمر الله تعالى إسرافيل u, بالنفخ في الصور النفخة الأولى, وهي نفخة الصعق والموت ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) فإذا صعق من في السماوات والأرض ولم يبق إلا الله، نادى سبحانه " أين الملوك, أين الجبارون، أين المتكبرون، لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب جل وعلا نفسه بنفسه قائلاً: لله الواحد القهار " .
أتيـت القبـور فناديتهـــــــــــــــــا *** فأين المعظم والمحتقــــــــــــر
وأيـن المـذل بسلطانـــــــــــــــــه *** وأين المزكى إذا ما افتخر
تفانوا جميعا فما مخبــــــــــــر*** وماتواجميعا ومات الخبر
فيا سائل عن أناس مضوا *** أما لك فيما مضى معتبر

ثم إذا أذن الله تعالى ببعث الأجساد وإحيائها مرة أخرى بعد أن صارت ترابا، أنزل من السماء ماء تنبت منه أجساد العباد كما ينبت البقل, وذلك بعد أن ينفخ في الصور النفخة الثانية, هي نفخة البعث والنشور ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) فتبعثر القبور ويخرجون منها حفاة عراة غرلا غير مختونين, قالت عائشة t: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال " يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض " متفق عليه فيساقون إلى أرض المحشر سوقا, وهي أرض بيضاء عفراء, ليس فيها معلم لأحد .

عندها تشخص الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، وتدنو الشمس من الخلائق قدر مِيل, ويبلغ العرقُ منهم مبالغ متفاوتة بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه – أي وسطه-، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا, فيسعى الناس إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم ليفصل بينهم، فيعتذرون, فيأتون سيد الأنبياء محمدًا r فيكلمونه فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يذهب فيسجد تحت العرش فيَشْفَع لهم فيُشَفَّع, وتنزل ملائكة السماء فيحيطون بالناس، ثم يجيء الله سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته على عرشه يحمله ثمانية من الملائكة ليفصل بين العباد .

ثم ينصب الميزان وهو ميزان حقيقي له كفتان, كفة للحسنات وكفة للسيئات, توزن فيها أعمال العباد ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) والعمل الصالح يثقل الميزان " كَـلِمَتَانِ حَبِيـبَتَانِ إِلَى الرَّحْـمَنِ، خَـفِيفَتَانِ عَلَى اللِّـسَانِ، ثَقِيـلَتَانِ فِي الْمِـيزَانِ، سُـبْحَانَ اللهِ وَبِحَـمْدِهِ, سُـبْحَانَ اللهِ الْعَظِـيمِ "و" الطهور شـطر الإيمان, والحـمدلله تملأ المـيزان " وابن مسعود t كان يجتني سواكا من الأراك لرسول الله r, فأظهرت الريح ساقاه, فجعل القوم يضحكون من دقتها ونحافتها فقال r " والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد " وأما من ضيع وفرط, فلا يزن شيئا " إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُـلُ الْعَظِـيمُ السَّـمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَـنَاحَ بَعُـوضَةٍ " ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) .

ثم تُنشر دواوين الخلق وهي صحائف الأعمال التي كتبها الملائكة الحافظون، فيُعطَى كل إنسان كتابه مفتوحًا ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا - اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) فأما المؤمن فيأخذ كتابه بيمينه ويقول ( هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ - إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ) أي تيقنت الحساب وعملت له, وأما الكافر فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره إذلالاً وتقريعًا ويقول ( يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ - يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ - مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) .

ثم يحاسب الله الخلائق من الإنس والجن و" يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه -أي ستره- فيقرره بذنوبه: فيقول: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا؟ فيقول: أعرف، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكافر والمنافق فينادي عليهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " ثم تشهد عليهم جلودهم بما عملوا ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

ثم ينصب الصراط على مَتْن جهنم، وهو جسر لا تثبت عليه الأقدام، أدق من الشعر وأحدّ من السيف، على جنباته كَلالِيب تخطف الناس، يمر الناس على الصراط على قدر أعمالهم ومسارعتهم إلى طاعة الله في الدنيا، فمنهم من يمر كلَمْح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ثم كالريح، ثم كالفرس الجواد، ثم كركاب الإبل، ومنهم من يعدو، ثم من يمشي، ثم من يزحف، ومنهم من تخطفه الكَلالِيب فتلقيه في النار ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) .

أبت نفسى تتوب فما احتيالي *** إذا برز العباد لذى الجــــــــــــــــلال
وقاموا من قبورهم سكــــــــــــــــــارى *** وقد برزوا كأمثال الجبــــــــــــــــــــــال
وقد نصب الصراط كي يجـــــوز *** فمنهم من يكب على الشمال
ومنهم من يسير لدار عـــــــــــــــــدن *** تلقاه العرائس بالغوانــــــــــــــــــــــــــــــــي
يقول له الـمهيمــــن يا ولــــــــــــــــــــــي*** غفرت لك الذنوب فلا تبـالــــي

اللهم خفف عنا أهوال ذلك اليوم، واجعلنا فيه من السعداء الآمنين، وألحقنا فيه بالصالحين


أقول ما تسمعون .....

الحمد لله ... أما بعد:

عباد الله: تذكروا تلك المشاهد والأحداث, يومُ القيامة يومٌ عظيمٌ وهوله شديدٌ، لا يلاقي العباد مثله، فيه تزلزل الأرض، وتسيّر الجبال، وتفجّر البحار، وتتشقق السماء، وتكوّر الشمس، ويُخسف القمر، وتنكدر النجوم، ويذهب ضوؤها، وتذهل المرضع عن وليدها، وتُسقط الحامل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد, في ذلك اليوم ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيه - وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ - وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ - وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ) .

أيها المسلم: ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون, فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل, كل باك سيبكى كل ناع سينعى كل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى, قال رجل يا رسول الله متى الساعة؟ قال له " ماذا أعددت لها " فاستعدوا للقاء الله, واستعدوا لذلك اليوم, واستعدوا لتلك الأحداث, واستعدوا لتلك الأهوال, بالعمل الصالح .
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ الْتَقَى *** وَلاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَلا تَكُونَ كَمِثْلِــــــــــــــــــــــــــهِ*** وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ بِمَا كَانَ أَرْصَـــــــــــدَا

اللهم احسن ختامنا, اللهم احسن ختامنا, اللهم احسن ختامنا, اللهم توفنا وانت راض عنا, اللهم توفنا وانت راض عنا, اللهم اقبض أرواحنا ونحن على عمل صالح تحبه وترضاه .

ثم صلوا ...
المشاهدات 10516 | التعليقات 1

جزاك الله خير الجزاء