ربيعة بن كعب والجائزة النبوية فضل كثرة السجود
عبد الله بن علي الطريف
ربيعة بن كعب والجائزة النبوية فضل كثرة السجود 1446/8/1هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِـهَدْيهُ، إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28] ثم أَمَّا بَعْدُ: رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صحابي جليل أسلم قديمًا وهاجرَ إلى المدينة، وكان من فُقراءِ الصحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، وخادمًا لرسولِ الله ﷺ من خدمِهِ الأحرار، ومن أهل الصفة.. وأهلُ الصفةِ رجالٌ مهاجرون، هاجروا إلى المدينة، وليس لهم مأوى، فوَطَّنَهم النبيُّ ﷺ في صفةٍ في المسجد النبوي، وكانوا أحيانًا يبلغون الثمانين، وأحيانًا دون ذلك، وكان الصحابة رضي الله عنهم يأتُونَهم بالطعام واللبن وغيره، مما يتصدقون به عليهم.
وقد حَدَّثَ رَبِيعَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن نفسه فقال: "كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجِهِ نَهَارِي أَجْمَعَ، حَتَّى يُصَلِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَأَجْلِسَ بِبَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ، أَقُولُ: لَعَلَّهَا أَنْ تَحْدُثَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حَاجَةٌ فَآتِيهِ بِوَضَوئِهِ وَحَاجَتِهِ قَالَ: فَمَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ ﷺ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، حَتَّى أَمَلَّ فَأَرْجِعَ، أَوْ تَغْلِبَنِي عَيْنِي فَأَرْقُدَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا لِمَا يَرَى مِنْ خِفَّتِي لَهُ وَخِدْمَتِي إِيَّاهُ: «سَلْنِي يَا رَبِيعَةُ أُعْطِكَ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْظِرْنِي أَنْظُرُ فِي أَمْرِي ثُمَّ أُعْلِمُكَ بِذَلِكَ قَالَ: «فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ» قَالَ: فَفَكَّرْتُ فِي نَفْسِي، فَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ زَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَكْفِينِي وَيَأتِينِي، فَقُلْتُ: أَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ ﷺ لِآخِرَتِي، فَإِنَّهُ مِنْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ بِهِ، فَجِئْتُهُ، فَقَالَ: «مَا فَعَلْتَ يَا رَبِيعَةُ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟» فَقُلْتُ: هُوَ ذَاكَ فَقَالَ: «مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا يَا رَبِيعَةُ؟» فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ الَّذِي بَعَثَكِ بِالْحَقِّ مَا أَمَرَنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ لِي: «سَلْنِي أُعْطِكَ» وَكُنْتَ مِنْ اللهِ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ، نَظَرْتُ فِي أَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأتِينِي، فَقُلْتُ: أَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ ﷺ لِآخِرَتِي فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ لِي: «إِنِّي فَاعِلٌ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». هذا اللفظ ذكره في الجامع الصحيح للسنن والمسانيد» (16/204) وهو مجموع من صحيح مسلم وأبي داود ومسند أحمد وعموم الألفاظ صحيحة.
أيها الإخوة: لقد وفقَ اللهُ هذا الصاحبي الجليل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مع فقره الشديد، وحاجته الدنيوية إلى مطلبٍ عظيم، وهدفٍ سامٍ كريم، وسألَ رَسُولَ اللهِ ﷺ مسألةً جزلة وعللها فقال: "وَعَرَفْتُ أَنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَزَائِلَةٌ، وَأَنَّ لِي فِيهَا رِزْقًا سَيَأتِينِي" وذلك لعلو همتِه، ويقينِه التام بأن الدنيا حطامٌ زائل، وكلما علت الهمة سما المطلب.. وأَعْلَى الهممِ همةُ من تسمو مطالبه إلى ما يحبُه اللهُ ورسولُه.. ثم انظروا إلى إصراره على مطلبه بعد مُراجعةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ له بِقَولِهِ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟» فَقَالَ: "هُوَ ذَاكَ".. إنها أنفسٌ علت فعلت مطالبها.. يعني لا حاجة لي بحطام الدنيا؛ فقد امتلأ قلبه بمحبَّةِ الله وتعظيمِه؛ فلا يَرَى أنَّ ما في الدُّنيا يستحقُّ أن يُجعل بديلًا لنعيم الآخرة، فلم يسأل غيره؛ لعلمه أن الدنيا لا تعدل شيئًا بالنسبة للجنة، مصداقه قَول النَّبِيِّ ﷺ: «مَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا». رواه البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَولَهُ ﷺ عن الدنيا «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا» رواه ابن ماجة عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني.. والمراد بمرافقة النبي ﷺ هنا والله أعلم صحبته وقربه في الجنة، ولا يُقصد بها أن يكون معه في درجة الوسيلة الخاصة به ﷺ ولا أن يساويه في النعيم.. فقد قال ﷺ عن درجته: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ؛ فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ». رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
أيها الإخوة: أما إجابةُ الرَسُولِ ﷺ لِرَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَولِهِ: «إِنِّي فَاعِلٌ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».. فيفهم منها أن من زاد من الطاعة، زاد اللهُ في حسناتِه، ومَنْ نقصَ، نالَ من الأجر بقدر ما عمل، فمن استكثر من الطاعة أعطاه اللهُ أكثر وأكثر، فقد قال النَّبِيُّ ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو، لَيْسَ بِإِثْمٍ وَلَا بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا». فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِذًا نُكْثِرُ!" فَقَالَ ﷺ: «اللهُ أَكْثَر». رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني..
ومما ورد في فضل السجود والإكثار منه، ما رواه ثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ ورَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عن عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلهِ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً». رواه مسلم. وحديث ربيعة وحديث ثوبان دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من السجود، وكثرة السجود تستلزم كثرةَ الركوع، وكثرةَ القيام والقعود؛ فكل ركعة فيها سجودان، وركوع واحد، ولا يمكن أن تسجد في الركعة الواحدة ثلاث سجدات أو أربعًا، إذًا كثرة السجود تستلزم كثرةَ الركوع والقيام والقعود.. فإذا وفق المسلم لذلك حصل له فائدتان عظيمتان، الأولى: أن اللهَ يرفعُه بها درجة يعني منزلة عنده، وفي قلوب الناس، وكذلك في عمله الصالح.. الثانية: يحطُ عنه بها خطيئة.. والإنسانُ يحصلُ له الكمالُ بزوال ما يكره، وحصول ما يحب، فرفع الدرجات مما يحبه الإنسان، والخطايا مما يكره الإنسان، فإذا رفع له بكل سجدة درجة وحط عنه بها خطيئة؛ فقد حصل على مطلوبه، ونجا من مرهوبه.. وفقنا الله لكل خير وصلى الله وسلم على نبينا محمد..
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على نعمائِه.. والشكرُ له على توفيقِه وعطائِه.. وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له المتفردُ بكبريائِه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.. أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واعلموا أنَّ ْالنبيَّ ﷺ خص الإكثار من السجود دون غيره بالإكثار منه؛ لمزيته قَالَ ﷺ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ.» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلِأَنَّهُ مَقَامُ ذُلٍّ وَانْكِسَارٍ بَيْنَ يَدَيْ الرَبِّ جل وعلا.. فالمصلى يكون قريبٌ من الله تعالى قائمًا كان، أو راكعًا، أو ساجدًا، أو قاعدًا.. لكن أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.. قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: "والحكمة في أنه أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد: لأنه لما تواضع لله فأنزل أشرف ما فيه من الأعضاء وأعلى ما فيه من الأعضاء على الأرض التي هي موطئ الأقدام حتى ساوت جبهته قدمه كان في ذلك قريبًا من الله عز وجل.." أهـ وهذا دليل على فضل السجود..
كذلك دل هذا الحديث على مشروعية الإكثار من صلاة النوافل، وقد شرع الله تعالى لنا في اليوم والليلة صلوات كثيرة، وصلاة النفل مشروعةٌ في كل وقت، إلا أوقات النهي عن الصلاة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» رواه ابن ماجة وأحمد عَنْ ثَوْبَانَ وصححه الألباني. ، وأفضلها صلاة الليل، فينبغي للمسلم ألا يغفل عن نوافل اليوم والليلة؛ كالسنن الرواتب، وصلاة الضحى، وقيام الليل، وصلاة الوتر، فهي مما يقربه من الله تعالى، ويدنيه من رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الجنة التي لأجلها شمر الصالحون، واجتهد المجتهدون.. أسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل الصالح الذي ننال به مرفقة رَسُولِ اللَّهِ ﷺ..