ربنا آتنا في الدنيا حسنة
الشيخ نواف بن معيض الحارثي
الْـخُطْبَةُ الْأُولَى رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
الْـحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، جَعَلَ الدُّنْيَا دَارًا لِلْعَامِلِينَ، وَالْـجَنَّةَ جَزَاءً لِلْمُحْسِنِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّـهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّـهِ تَعَالَى (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْـمُتَّقِينَ).
عن أنسٍ t قال: كانَ أكْثَرُ دُعَاءِ النبيِّ r: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وقِنَا عَذَابَ النَّارِ).خ.م.
عباد اللـهِ: دعاءٌ قرآنيٌ عظيمٌ، جامعٌ كاملٌ، بكلماتٍ معدودةٍ، ومعانٍ شاملةٍ، جمعَ كلَّ خيرٍ في الدنيا، وأبلغَ مطلوبٍ في الآخرةِ، وصَرَفَ كلَّ شرٍّ، وردَ في كتابِ اللـهِ (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ).
بِمِثْلِ هَذَا الدُّعَاءِ دَعَا سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ).
وأكرم اللـهُ به خليلَه إبراهيمَ عليه السلام، فقال (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).
وَبِهِ دَعَا الْـمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ فَقَالُوا (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
إنَّها دعوةٌ فيها من الخيرِ ما لا تستوعبُه الألفاظُ، وأغنَتْ عن كثيرِ مقالٍ؛ فكنوزُ الفضائلِ في معانيِها، ومنتهى الأمانيِّ في مراميِها.
جاءَ أهلُ البصرةِ إلى أنسٍ t فقالوا له: إنَّ إخوانكَ أتوكَ من البصرةِ؛ لتدعو اللـهَ لهم، قال: "اللهم اغفرْ لنا وارحمنا، وآتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذابَ النار"، فاستزادُوه فقالَ مثلَها، فقال:"إن أوتيتُم هذا فقد أوتيتُم خيرَي الدُّنيا والآخرةِ".
وقال عطاءٌ: "طافَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ t فاتَّبَعَه رجلٌ ليسمعَ ما يقولُ، فإنَّما يقولُ: ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، فقال له الرجلُ: تَبِعتُكَ فلم أسمعْكَ تزيدُ على هذه الآيةِ؟ قال: أوليس ذلكَ كلُّه الخيرُ؟!
وهَذَا الدُّعَاءُ الْعَظِيمُ-عبادَ الله- جَامِعٌ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فيُعَلِّمُنَا بِهِ دِينُنَا الْـحَنِيفُ؛ التَّوَازُنَ بَيْنَ السَّعْيِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا تَلَازُمًا وَتَكَامُلًا، فَعَلَى الْـمُسْلِمِ أَنْ يَغْتَنِمَ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا طَرِيقُ الْـجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ لَا يَغْفُلَ عَنِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونَ من الخاسرينَ ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْـجَمْعِ بَيْنَ عَمَلِ الدُّنْيَا وَسَعْيِ الْآخِرَةِ؛ لِيَنَالَ خَيْرَهُمَا، وَيَفُوزَ بِحَسَنَاتِهِمَا.
فالدنيا طريقٌ، والآخرةُ الغايةُ، الدنيا غرسٌ وبناءٌ وتنميةٌ، والآخرةُ حصادٌ وجنيٌ للثمارِ اليانعةِ، الدنيا محطةُ الاستزادةِ وبذلِ الإحسانِ، والآخرةُ الجزاءُ ونَيْلُ الإحسانِ، الدنيا دارُ ممرٍ وعُبورٍ، والآخرةُ سرورٌ وحبورٌ، والتوازنُ بينَهما منهجُ العقلاءِ وطوقُ النجاةِ ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا )
عِبَادَ اللَّـهِ: إِنَّ حَسَنَةَ الدُّنْيَا تَشْمَلُ كُلَّ مَطْلُوبٍ دُنْيَوِيٍّ، مِنْ صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ، وَدَارٍ رَحْبَةٍ، وَرِزْقٍ وَاسِعٍ، وَعِلْمٍ نَافِعٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَمَرْكَبٍ هَنِيءٍ، وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ، وَكُلِّ مَا يَرْغَبُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ طَيِّبَاتِ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا، (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّـهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
قال العارفونَ:"حسنةُ الدنيا هي حياةُ القلبِ ونعيمُه وبهجتُه وسرورُه بالإيمانِ، ومعرفةُ اللـهِ ومحبتُه والإنابةُ إليه، والتوكلُ عليه؛ فإنه لا حياةَ أطيبَ من حياةِ صاحبِها، ولا نعيمَ فوقَ نعيمِه إلا نعيمُ الجنة".
ومن حسناتِ الدنيا: إبصارُكَ لنِعمِ اللـهِ وفضلِه عليكَ، وإقرارُكَ بها والشكرُ لمسديِها، ومن أُعطِيَ قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وجسدًا صابرًا، وقنِعَ ورضيَ بما قدره اللـهُ فقد أُوتِيَ في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً، ووقيَ عذابَ النارِ .
أيها المؤمنون: يَعرِفُ حسناتِ الدُّنيا ويُقَدِّرُها قدرَها ويتذوقُ أثرَها مَنْ نظَر إلى ما فضَّلَه اللـهُ به مِنْ نِعَمٍ وعطايا (انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عليكم ) م .
ومن حسناتِ الدُّنيا التي هي من أسمى المقاصدِ: حلولُ البركةِ في الذريةِ وهدايتُهم وصلاحُهم ( ربِّ اجعلْني مُقيمَ الصلاةِ ومن ذُريَّتي ربَّنا وتقبَّلْ دعاءِ ) .
ومن حسناتِ الدنيا التي لا يكادُ يغفلُ عنها كلُّ مُبصِرٍ، ويراها كلُّ ذي عينٍ: نعمةُ الأمنِ والعافيةِ وقوتِ اليومِ، والأخلاقُ الحسنةِ زينةُ حسناتِ الدنيا، ومن أَجلِّ مراتبِ الارتقاءِ في الجنة.
وَمِنْ حَسَنَةِ الدُّنْيَا: أَنْ يَعِيشَ الْإِنْسَانُ فِيهَا عِيشَةً كَرِيمَةً، وَحَيَاةً طَيِّبَةً سَعِيدَةً (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وَيَنَالُ الْـمَرْءُ حَسَنَةَ الدُّنْيَا؛ بِالْعَمَلِ الْـحَسَنِ فِيهَا (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ). فَالدُّنْيَا تَطِيبُ بِطَاعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى فِيهَا وطاعةِ رسولِه عليه السلام .
أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ: إِنَّ حَسَنَةَ الْآخِرَةِ شمَّر لها المشمِّرونَ ، وتنافَسَ فيها المتنافسونَ، وبذلوا في سبيلِها الـمُهجَ والأموالَ والأوقاتَ : إنَّها الْـجَنَّةُ، فَمَنْ دَخَلَهَا فَقَدْ نَالَ جَمِيعَ الْـحَسَنَاتِ (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْـجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) .
والمسلمُ العاقلُ يؤمِّنُ رحلتَه من الدُّنيا إلى الآخرةِ بالجمعِ بين الرجاءِ والخوفِ (كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْـخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) .
اللَّهُمَّ آتِنَا حَسَنَةَ الدُّنْيَا، وَحَسَنَةَ الْآخِرَةِ ، وقنا عذابَ النارِ ، وَوَفِّقْنَا جَمِيعًا لِطَاعَتِكَ، وَطَاعَةِ رَسُولِكَ ياذا الجلالِ والإكرامِ . بارك الله ...
الْـخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْـحَمْدُ لِلَّـهِ ... أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
عباد الله: مِمَّا يَنَالُهُ الْـمُؤْمِنُ فِي الْـجَنَّةِ؛ أَنَّ اللَّـهَ تَعَالَى يَجْمَعُ شَمْلَهُ بِالْـمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِهِ وَذُرِّيَّـتِهِ، وَتَدْخُلُ الْـمَلَائِكَةُ تُهَنِّـئُهُ بِرِضْوَانِ اللَّـهِ عَلَيْهِ، فَيَغْمُرُهُ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).
وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ أَنْ يُجَالِسَ الْـمُؤْمِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّـهِ r وَيَلْتَقِيَ بِالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا).
وَكُلُّ تِلْكَ الْـحَسَنَاتِ الَّتِي يَجِدُهَا الْـمُؤْمِنُ فِي الْـجَنَّةِ؛ تُضْفِي عَلَى وَجْهِهِ ضِيَاءً وَنُورًا (تعرفُ في وجوههم نضرةَ النعيمِ )
عباد الله: إِنَّ أَعْظَمَ حَسَنَاتِ الْـجَنَّةِ؛ أَنْ يَحُوزَ الْـمُؤْمِنُ رِضَا رَبِّهِ الْعَظِيمِ، وَيَسْعَدَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، فَأَهْلُ الْـجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا؛ سَمِعُوا صَوْتًا مَهِيبًا جَلِيلًا يُنَادِي، فَيَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ، فَيُخَاطِبُهُمْ ربُّهُمْ جَلَّ جَلَالُهُ؛ وَيَقُولُ لَهُمْ: «تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْـجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ». ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّـهِ r (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْـحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) م.
تِلْكَ الْـجَنَّةُ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّـهُ تَعَالَى لِمَنْ آمَنَ بِهَا، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا).
وَمَنَازِلُ النَّاسِ فِي الْآخِرَةِ؛ تَكُونُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ قَالَ r: «أَهْلُ الْـمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا؛ هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ» البخاري في أدبه ، فَلْيَجْتَهِدِ الْإِنْسَانُ لِلْفَوْزِ بِحَسَنَةِ الدُّنْيَا وَحَسَنَةِ الْآخِرَةِ.
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا ...
المرفقات
1668080955_ربنا آتنا في الدنيا حسنة.docx
1668080955_ربنا آتنا في الدنيا حسنة.pdf