رؤية الله تعالى (2)

رؤية الله تعالى (2)
29 / 10 / 1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ، الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ؛ مَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْهِدَايَةِ لِلْإِيمَانِ، وَجَزَاهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِالرِّضَا وَالْجِنَانِ، وَجَمَعَ لَهُمُ السَّعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ، وَالْفَوْزَ فِي الْحَيَاتَيْنِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ اتَّصَفَ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ وَالْكَمَالِ، وَتَنَزَّهُ عَنِ النُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشُّورَى: 11]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَكْرَمَهُ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعُرُوجِ فِي السَّمَاءِ، حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغًا لَمْ يَبْلُغْهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَمَا حَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا النُّورُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى عِيَانًا فِي الدُّنْيَا، وَلَمَّا سُئِلَ: «هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي نَجَاتِكُمْ، وَرِضَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْكُمْ؛ فَإِنَّ فِي رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ فَوْزًا كَبِيرًا، وَنَعِيمًا مُقِيمًا ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التَّوْبَةِ: 72]، ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التَّوْبَةِ: 21- 22]، ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الْإِنْسَانِ: 20].
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي الصَّيْفِ حَرٌّ شَدِيدٌ يَفِرُّ الْقَادِرُونَ مِنْهُ إِلَى الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، فَيَتَمَتَّعُونَ بِطِيبِ هَوَائِهَا، وَعُذُوبَةِ مَائِهَا، وَخُضْرَةِ أَرْضِهَا، وَنُضْجِ فَوَاكِهِهَا. وَيَتَذَكَّرُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ بِمَا يَرَوْنَ الْجَنَّةَ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. وَلَا نَعِيمَ يَعْدِلُ نَعِيمَ الْجَنَّةِ وَلَا يُدَانِيهِ مَهْمَا كَانَ، وَلَوْ مَلَكَ الْإِنْسَانُ الدُّنْيَا بِكَامِلِهَا مِنْ أَوَّلِ تَارِيخِهَا إِلَى آخِرِهِ، فَلَا تَسَاوِي سَاعَةً فِي الْجَنَّةِ. فَكَيْفَ الْحَالُ إِنْ كَانَ الْخُلْدُ فِي الْجَنَّةِ أَبَدِيًّا، فِي نَعِيمٍ لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الْأَعْلَى: 16- 17].
وَأَعْلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَأَعْظَمُهُ وَأَكْمَلُهُ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ، وَكَلَامُهُ لَهُمْ، وَرِضَاهُ عَنْهُمْ، وَأُنْسُهُمْ بِهِ. وَهِيَ رُؤْيَةٌ ادَّخَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِعَجْزِ أَبْصَارِهِمْ عَنْ تَحَمُّلِهَا فِي الدُّنْيَا؛ وَلِذَا لَمَّا سَأَلَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الدُّنْيَا أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُطِيقُهَا ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الْأَعْرَافِ: 143]. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَمْنَحُ أَهْلَ الْجَنَّةِ حَيَاةً كَامِلَةً تَلِيقُ بِهِمْ، فَيُطِيقُونَ رُؤْيَتَهُ سُبْحَانَهُ، وَيَتَلَذَّذُونَ بِهَا.
وَالنَّعِيمُ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ جَاءَ صَرِيحًا فِي الْقُرْآنِ، وَتَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [الْقِيَامَةِ: 22- 23]، ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يُونُسَ: 26]، ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35] فَالزِّيَادَةُ وَالْمَزِيدُ فِي الْآيَتَيْنِ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ، كَذَلِكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا، فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَمَعْنَى تُضَارُّونَ: أَيْ: لَا يُخَالِفُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَيُكَذِّبُهُ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ». وَالْمَعْنَى: هَلْ تَشُكُّونَ، وَالْمِرْيَةُ هِيَ: الشَّكُّ.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «... ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَنْ تَنْتَظِرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِرُ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْعَلَامَةِ، وَالْعَلَامَةُ هِيَ كَشْفُ السَّاقِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الْقَلَمِ: 42]، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَقْسُو ظَهْرُ الْكَافِرِ فَيَصِيرُ عَظْمًا وَاحِدًا».
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَمْ تَرْضَوْا مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ وَصَوَّرَكُمْ أَنْ يُوَلِّيَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِلَى مَنْ كَانَ يَتَوَلَّى فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَيُمَثَّلُ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ عُزَيْرًا شَيْطَانُ عُزَيْرٍ، حَتَّى يُمَثِّلَ لَهُمُ الشَّجَرَةَ وَالْعَوْدَ وَالْحَجَرَ، وَيَبْقَى أَهْلُ الْإِسْلَامِ جُثُومًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا لَكُمْ لَا تَنْطَلِقُونَ كَمَا يَنْطَلِقُ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّ لَنَا رَبًّا مَا رَأَيْنَاهُ بَعْدُ، قَالَ: فَيُقَالُ: فَبِمَ تَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَلَامَةٌ، إِنْ رَأَيْنَاهُ عَرَفْنَاهُ، قِيلَ: وَمَا هِيَ؟، قَالُوا: يَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ، قَالَ: فَيُكْشَفُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ سَاقٍ، قَالَ: فَيَخِرُّونَ مَنْ كَانَ لِظَهْرِهِ طَبَقًا سَاجِدًا، وَيَبْقَى قَوْمٌ ظُهُورُهُمْ كَصَيَاصِيِّ الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
 أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 45- 46].
أَيُّهَا النَّاسُ: كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ، وَأَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ يَعْتَنُونَ عِنَايَةً فَائِقَةً بِتَقْرِيرِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَيُظْهِرُونَ شَوْقَهُمْ لِذَلِكَ الْمَقَامِ الْكَرِيمِ، وَكَيْفَ لَا يَشْتَاقُونَ لِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَبُّهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ؛ «فَأَطْيَبُ مَا فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ، وَأَلَذُّ مَا فِي الْجَنَّةِ رُؤْيَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ». قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «لَوْ عَلِمَ الزَّاهِدُونَ الْعَابِدُونَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْمَعَادِ لَزَهَقَتْ أَنْفُسُهُمْ فِي الدُّنْيَا».
وَيُحَدِّثُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ فَيَقُولُ: «رَأَيْتُ أَبِيَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَحِّحُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّؤْيَةِ وَيَذْهَبُ إِلَيْهَا، وَجَمَعَهَا أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابٍ وَحَدَّثَنَا بِهَا».
وَلَمَّا جَمَعَ مَجْدُ الدِّينِ ابْنُ الْأَثِيرِ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَتَّبَهَا تَرْتِيبًا بَدِيعًا فِي كِتَابِهِ: (جَامِعُ الْأُصُولِ) عَقَدَ بَابًا خَاصًّا فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فِيهِ: «وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَاهُنَا أَحَادِيثَ انْفَرَدَتْ بِذِكْرِ الرُّؤْيَةِ، وَجَعَلْنَاهَا فِي آخِرِ (كِتَابِ الْقِيَامَةِ)؛ لِأَنَّهَا الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَالدَّرَجَةُ الْعُلْيَا مِنْ عَطَايَا اللَّهِ الْفَاخِرَةِ، بَلَّغَنَا اللَّهُ مِنْهَا مَا نَرْجُوهُ».
وَكَتَبَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ كِتَابًا عَنِ الْجَنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ، وَأَفْرَدَ بَابًا لِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ، وَافْتَتَحَهُ قَائِلًا: «هَذَا الْبَابُ أَشْرَفُ أَبْوَابِ الْكِتَابِ، وَأَجَلُّهَا قَدْرًا، وَأَعْلَاهَا خَطَرًا، وَأَقَرُّهَا عَيْنًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَشَدُّهَا عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي شَمَّرَ إِلَيْهَا الْمُشَمِّرُونَ، وَتَنَافَسَ فِيهَا الْمُتَنَافِسُونَ، وَتَسَابَقَ إِلَيْهَا الْمُتَسَابِقُونَ، وَلِمِثْلِهَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ. إِذَا نَالَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ نَسُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَحِرْمَانُهُ وَالْحِجَابُ عَنْهُ لِأَهْلِ الْجَحِيمِ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعُونَ، وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى تَتَابُعِ الْقُرُونِ، وَأَنْكَرَهَا أَهْلُ الْبِدَعِ الْمَارِقُونَ». اهـ.
وَبَعْدُ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ الْعِنَايَةُ بِهَذَا الْبَابِ الْعَظِيمِ تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا، وَتَلْقِينًا لِلْأَهْلِ وَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ، وَلِمُرَاغَمَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيفًا لِلنَّاسِ بِخَالِقِهِمْ سُبْحَانَهُ، وَتَشْوِيقًا لَهُمْ إِلَى رُؤْيَتِهِ، وَحَفْزًا لِهِمَمِهِمْ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اشْتَاقَ إِلَى شَيْءٍ اجْتَهَدَ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى أَحَبَّ اللَّهُ تَعَالَى لِقَاءَهُ.

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: وَمِمَّا يُؤْسَفُ مَا وَقَعَ هَذَا الْأُسْبُوعَ مِنَ اعْتِدَاءٍ أَلِيمٍ عَلَى نُقْطَةٍ أَمْنِيَّةٍ فِي "الْقَصِيمِ" مِنْ قِبَلِ غُلَاةٍ سَلَّمُوا عُقُولَهُمْ لِغَيْرِهِمْ، وَاسْتَسْلَمُوا لِمَا يُقْذَفُ عَلَيْهِمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ، فَصَارُوا مَعَاوِلَ هَدْمٍ وَتَخْرِيبٍ، وَمَا عَمَلُهُمْ إِلَّا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَإِخْلَالٌ بِالْأَمْنِ، وَاسْتِرْخَاصٌ لِلْأَنْفُسِ الْمَعْصُومَةِ، وَإِذْكَاءٌ لِنَارِ الْفَتْنَةِ، وَهُوَ عَمَلٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ الْحَنِيفِ، وَتَسْتَنْكِرُهُ الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ، وَتَنْبُو عَنْهُ الْعُقُولُ الرَّشِيدَةُ؛ لِمَا يَنْتُجُ عَنْهُ مِنْ زَعْزَعَةِ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَنَشْرِ الْخَوْفِ وَالِاضْطِرَابِ، وَاللَّهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)[الْأَعْرَافِ: 56]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)[الْمَائِدَةِ: 32].

 

فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ -أَيُّهَا الشَّبَابُ- مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ وَالْأَهْوَاءِ؛ فَإِنَّهَا تُرْدِي أَصْحَابَهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُوبِقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[ص: 26]، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الْأَنْعَامِ: 153]، وَمَنْ سَعَى فِي شَقِّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَمُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِوَصِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- بِالِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ الْفُرْقَةِ، وَمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ -تَعَالَى- فَلَنْ يُفْلِحَ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آلِ عِمْرَانَ: 103]، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الْأَنْفَالِ: 46].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

المرفقات

الله-تعالى-2-4

الله-تعالى-2-4

الله-تعالى-2-مشكولة-3

الله-تعالى-2-مشكولة-3

المشاهدات 1439 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا