رؤية الله
إبراهيم بن حمد العقيل
1440/07/15 - 2019/03/22 00:54AM
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا, وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ، أَمَّا بَعْدُ:
معاشِرَ المؤمنينَ: في ليلةٍ مقمرةٍ والصحابةُ -كعادتِهِمْ- جلوسٌ عندَ النبيِّ إذْ رَفَعُوا رؤوسَهُمْ ينظرونَ إلى القمرْ, فقالَ لهُمْ : "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا. ثُمَّ قَرَأَ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)". (]البخاري-مسلم[) هَذا الحديثُ -عبادَ اللهِ- نصٌّ قاطعٌ في رؤيةِ المؤمنينَ ربَّهُمْ في الآخرةِ، كما هوَ معتقدُ السلفِ الصالحِ -أهلِ السنَّةِ والجماعةِ- أنَّ المؤمنينَ يرونَ ربَّهُمْ يومَ القيامةِ بأبصارِهِمْ عيانًا مِنْ فوقِهِمْ مِنْ غيرِ إحاطةٍ، كما دلَّ على ذلِكَ الكتابُ والسنةُ الصحيحةُ.
ومَعْنَى قولِهِ : "كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ"، تشبيهٌ للرؤيةِ بالرؤيةِ، لا المرئِيُّ بالمرئيِّ؛ وإنَّما شبَّهَ الرؤيةَ برؤيةِ البدرِ؛ لأنَّ رؤيةَ القمرِ ليلةَ البدرِ لا يُشَكُّ فيها ولا يُمْتَرى, ولأنَّها يَستوي فيها جميعُ الناسِ مِنْ غيرِ مشقَّةٍ.
وقولُهُ : "فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا". هذا أمرٌ بالمحافظةِ على هاتينِ الصَّلاتينِ -وهُما صلاةُ الفجرِ وصلاةُ العصرِ- وعلى شُهودِهِما في الجماعةِ, لِعِظَمِ قدرِ هاتينِ الصلاتينِ، ولأنَّهُما أشرفُ الصَّلواتِ الخَمْسِ.
وقدْ قيلَ في مناسبةِ الأمرِ بالمحافظةِ على هاتينِ الصَّلاتينِ عقيبَ ذِكْرِ الرؤيةِ: أنَّ أَعْلَى ما في الجنَّةِ رؤيةُ اللهِ ، وأشرفَ ما في الدُّنْيا مِنَ الأعمالِ هاتانِ الصلاتانِ، فالمحافظةُ عليهِمَا يُرْجى بها دخولُ الجنَّةِ ورؤيةُ اللهِ فيها.
وخَصَّ هذينِ الوقتينِ لاجتماعِ الملائكةِ فيهما, كما في قولِهِ تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) قَالَ : "تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ"(]البخاري-مسلم[), ولأنَّ الملائكةَ ترفَعُ الأعمالَ فيهما, قَالَ : "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَيَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ-: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ"(]البخاري-مسلم[). فاجْتِماعُهُمْ في هاتينِ الصلاتينِ لطفٌ مِنَ اللهِ تَعالى بعبادِهِ المؤمنينَ، إذْ جعَلَ اجتماعَهُمْ عندَهُمْ ومفارقتَهُمْ لهُمْ في أوقاتِ عبادَتِهِمْ، واجتماعِهِمْ على طاعَةِ ربِّهِمْ، فتَكُونُ شهادَتُهُمْ لهُمْ بما شاهدُوهُ مِنَ الخَيْرِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَجْتَمِعُ الْحَرَسَانِ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ، فيصعدُ هؤلاءِ ويُقِيمُ هؤلاءِ.
وقالَ المهلبُ : فيه أنَّ أهمَّ ما يُسألُ عنهُ العبدُ عندَ ملاقاةِ ربِّهِ: الصَّلاةُ، وإنَّ أهمَّ الصلواتِ صلاةُ الصبحِ وصلاةُ العصرِ.
عبادَ اللهِ: ورؤية الله في الجنة لأهل الإيمان دل عليها أيضاً قوله تعالى في سُورَةِ القِيامةِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ), (نَاضِرَةٌ) مِنَ النَّضَارَةِ، أَيْ حَسَنَةٌ بَهِيَّة مُشْرِقَةٌ مَسْرُورَةٌ، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) أَيْ: تَرَاهُ عَيَانًا، كَمَا فِي الحديثِ عنهُ : "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا".(]البخاري ([
فالمؤمنونَ ينظرونَ إلى ربِّهِمْ فيتمتعونَ بالنظرِ إلى وجهِهِ الكريمِ، وجمالِهِ الباهِرِ، الذي ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، فإِذَا رأَوْهُ نَسُوا ما هُمْ فيهِ مِنَ النَّعيمِ وحصَلَ لهُمْ مِنَ اللَّذَةِ والسُّرورِ ما لا يُمكِنُ التعبيرُ عنهُ، ونَضِرَتْ وجوهُهُمْ فازدادوا جمالًا إلى جمالِهِمْ، فنَسْألُ اللهَ الكريمَ أنْ يجعلَنَا معَهُمْ. (السعديُّ)
في الصحيحينِ أنَّ ناسًا قالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ : «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ». (]البخاري-مسلم[).
وقالَ : "جَنَّتان مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّة آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى اللَّهِ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ"(]البخاري-مسلم[). وعنهُ أنَّهُ قالَ: "إذا دَخَلَ أهلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ, يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟"، قَالَ: "فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ". ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ). (]مسلم[).
قالَ : "إِنَّ اللَّهَ يَتَجلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ يَضْحَكُ"، -يَعْنِي فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ- فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي الْعَرَصَاتِ، وَفِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ.
عبادَ اللهِ: رُؤيةُ اللهِ في الدُّنْيا مُمْتَنِعَةٌ على جميعِ الخَلْقِ، قالَ سبحانَهُ: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي)، أيْ: لنْ تقدِرَ الآنَ على رُؤيَتِي؛ لأنَّ اللّهَ أنشأَ الخلقَ في هذِهِ الدارِ على نَشْأةٍ لا يقدِرونَ بِها، ولا يَثْبَتُونَ لرؤيةِ اللّهِ. وأمَّا فِي الآخرةِ فإنَّهُ سبحانَهُ يُنْشِئُهُمْ نشأةً كاملةً، يَقدِرونَ مَعَها على رؤيةِ اللّهِ تعالى، ويتمتعونَ بالنظرِ إلى وجهِهِ الكريمِ. قالَ : "حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ".(]مسلم[). فلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ رُؤْيَتِهِ لِقُوَّةِ النُّورِ الَّذِي هُوَ حِجَابُهُ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : "نُورٌ، أَنَّى أَرَاهُ "؟ . أَيْ كَيْفَ أَرَاهُ وَحِجَابُهُ نُورٌ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرَهُ مِنْ خَلْقِهِ. وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ في امتناع رؤية الله في الدنيا قوله : "إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا".(]مسلم[) فاللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فبنوره أضاءت السموات وَالْأَرْضُ (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ
أمَّا بعدُ معاشِرَ المؤمنينَ: فقدْ كَانَ مِنْ دعاءِ النبيِّ في صلاتِهِ مِنَ اللَّيْلِ، أنَّهُ يقولُ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ, أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقُّ...", فَيَا أيُّها المُحِبُّ لربِّهِ، المشتاقُ لقُرْبِهِ ولقائِهِ، المُسارِعُ في مرضاتِهِ، أبشِرْ بقُرْبِ لقاءِ الحبيبِ، فإنَّهُ آتٍ، وكلَّ آتٍ إِنَّما هوَ قريبٌ. (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
قَالَ : "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، وَلا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ".
قالَ ابنُ القيِّمِ : (وإنْ سألْتَ عنْ يومِ المزيدِ, وزيارَةِ العزيزِ الحميدِ, ورُؤيةِ وجهِهِ المنزَّهِ عَنِ التمثيلِ والتشبيهِ, كمَا تُرَى الشمسُ في الظهيرةِ والقمرُ ليلةَ البدرِ, كما تواتَرَ عنِ الصادقِ المصدوقِ النقلُ فيهِ, فاستَمِعْ يومَ يُنادِي المنادِي: يا أهْلَ الجنَّةِ! إنَّ ربَّكُمْ تبارَكَ وتعالى يستزيرُكُمْ فحيَّ على زيارَتِهِ, فيقُولُونَ: سمْعًا وطاعةً, ويَنْهَضُونَ إلى الزيارَةِ مبادِرينَ, فإِذَا بالنَّجائِبِ قَدْ أُعِدَّتْ لهُمْ, فيستَوُونَ على ظهورِهَا مُسرِعينَ, حتَّى إِذَا انْتَهَوْا إلى الوادِي الأَفْيَحِ الذي جُعِلَ لهُمْ مَوْعِدًا, وجُمِعُوا هُناكَ, فلَمْ يُغادِرِ الدَّاعِي مِنْهُمْ أحَدًا, أَمَرَ تبارَكَ وتَعالى بكُرْسِيِّهِ فنُصِبَ هُناكَ, ثُمَّ نُصِبَتْ لهُمْ منابِرُ مِنْ نورٍ, ومَنابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ, ومَنابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ, ومَنابِرُ مِنْ ذهبٍ, ومنابِرُ منْ فضَّةٍ, وجلَسَ أَدْناهُمْ -وحاشاهُمْ أنْ يكونَ فيهِمْ دَنِيءٌ- على كُثبانِ المِسْكِ, حتَّى إِذا استقرَّتْ بهِمْ مجالِسُهُمْ, واطمأَنَّتْ بهِمْ أماكِنُهُمْ، نَادَى المُنادِي: يَا أهلَ الجنَّةِ، إنَّ لكُمْ عندَ اللهِ موعدًا يريدُ أنْ ينجزَكُمُوهُ, فيقُولونَ: ما هُوَ؟ ألَمْ يُبيِّضْ وجوهَنَا ويثقِّلْ موازِينَنَا, ويُدخِلْنَا الجنَّةَ, ويُزحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ, فبَيْنَا هُمْ كذلِكَ، إذْ سطَعُ لهُمْ نُورٌ أشرَقَتْ لهُ الجنَّةُ, فرَفَعُوا رؤُوسَهُمْ, فإِذَا الجبَّارُ جلَّ جلالُهُ, وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ, قدْ أشرَفَ عليهِمْ مِنْ فوقِهِمْ وقالَ: يا أهلَ الجنَّةِ: سلامٌ عليْكُمْ, فَلا تُرَدُّ هذهِ التحيَّةُ بأَحْسِنَ مِنْ قولِهِمْ: اللَّهُمَّ أنْتَ السَّلامُ, ومِنْكَ السَّلامُ, تبارَكْتَ يا ذَا الجلالِ والإكرامِ, فيتجلَّى لهُمْ الرَّبُّ تبارَكَ وتعالَى يضحَكُ إِلَيْهِمْ ويقولُ: يَا أهلَ الجنَّةِ، فيكونُ أوَّلَ مَا يَسْمَعونَ مِنْهُ تَعالى: أيْنَ عِبادِي الذينَ أطاعُونِي بالغَيْبِ ولمْ يَرَوْنِي, فهَذَا يومُ المزيدِ, فيجتَمِعُونَ على كلمةٍ واحدةٍ أنْ قدْ رَضِيْنَا فارْضَ عنَّا, فيَقُولُ: يا أهلَ الجنَّةِ, إِنِّي لوْ لمْ أرْضَ عنْكُمْ لمْ أُسْكِنْكُمْ جنَّتِي, هَذا يومُ المزيدِ فسَلُونِي. فيَجْتَمِعونَ على كلمةٍ واحدةٍ: أَرِنَا وَجْهَكَ نَنْظُرْ إليهِ, فيَكْشِفُ الرَّبُ الحُجُبَ, ويتجلَّى لهُمْ, فيَغْشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ ما لَوْلَا أنَّ اللهَ سبحانَهُ قضَى أنْ لَا يحترِقُوا لَاحْتَرقُوا, ولا يَبْقَى في ذلِكَ المجلسِ أحدٌ إلا حاضَرَهُ الرَّبُّ تَعالَى محاضَرَةً, حتَّى إِنَّهُ ليقولُ: يَا فلانٌ، أَتَذْكُرُ يومَ فَعَلْتَ كَذَا وكَذَا, يُذَكِّرُهُ ببعضِ غَدراتِهِ في الدُّنْيا, فيقولُ: يا ربِّ ألمْ تغْفِرْ لي؟ فيقُولُ: بَلَى، بِمَغْفِرَتِي بَلَغْتَ منزِلَتَكَ هذِهِ.
فيَا لذَّةَ الأسماعِ بتلكَ المحاضَرَةِ, ويا قُرَّةَ عيونِ الأبرارِ بالنَّظرِ إلى وجهِهِ الكريمِ في الدَّارِ الآخِرَةِ, ويا ذِلَّةَ الرَّاجعينَ بالصَّفْقَةِ الخاسِرَةِ.
واللهُ ما في هِذِهِ الدُّنيا ألذُّ *** مِنْ اشتياقِ العَبْدِ للرحمنِ
وكَذاكَ رؤيةُ وجهِهِ سبحانَهُ *** هِيَ أكمَلُ اللَّذاتِ للإنسانِ
اللَّهُمَّ إنا نسألُك لذَّةَ النَّظرِ إلى وجهِك، والشَّوقَ إلى لقائِكَ في غيرِ ضرَّاءَ مُضرَّةٍ ولا فتنةٍ مُضلَّةٍ، اللَّهمَّ زيِّنّا بزينةِ الإيمانِ واجعَلْنا هُداةً مهتدينَ.