ذوبان الشخصية!
عبداللطيف بن عبدالله التويجري
ذوبان الشخصية!
1440/6/24هـ
الخطبة الأولى
أمَّا بعد: أيُّها الإخوةُ في الله!
روى البخاريُّ في صحيحِه: أنَّ أبا طالبٍ لما حضرتْه الوفاة، دخلَ عليه النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم، وعندَه أبو جهل، فقال: «أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّه، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّه» فقال أبو جهلٍ وابنِ أبي أمية: يَا أَبَا طَالِب، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِب؟! فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِه، حَتَّى قَال: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِب!).
ما أغنى هؤلاء القومِ عن هذا كلِّه، ولكنَّها التبعية، حينَ تكونُ بقالبِ التعظيم، ولكنها العدوى تصيبُ العقول، كما تصيبُ الأبدان!
ما تكادُ تهتدي، حتى تضل، ولا ترتفع، حتى تنحط، وما تكادُ تمضي في الصراطِ المستقيم، حتى ترتكس!
عباد الله: إنْ سألتمْ منْ هوَ الإمعة؟ فهاكُم الجوابُ منَ السادةِ العلماء: الإمَّعة: الذي يَتْبَعُ كلَّ ناعقٍ، ويقولُ لكلِّ أحدٍ: أنا معك، فهو لا رَأْيَ له يرجعُ إليه، وقال ابن مسعود في معناها: يجري مع كلِّ ريح! وما أبلغه رضي الله عنه فأهواءُ الناسِ كالريح، ومنْ يجري معهم فإنَّه لا يعرفُ للثباتِ طريقًا.
الإمعيةُ هي الذوبانُ في الآخرين، والسيرُ في سردابِ التقليدِ والمحاكاة، وإلغاءُ الذاتِ الشخصية: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾.
المبادئُ ليستْ للبيع، والقيمُ ليستْ للمساومة، والأخلاقُ ليستْ عقودَ معاوضة، فما عادَ للإمعةِ محلٌ عندَ أولي الألباب، الذينَ يعونَ هذا الأثرَ العظيم: (لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا) رواه الترمذي.
والذينَ يتدبرونَ قولَه تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾.
إنه لا أقبحَ للمرءِ منْ أنْ يكونَ ببغاءَ المتكلمين، وبوقًا للجاهلين، وما أبلغَ وصيةَ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ المشهورة عندَ أهلِ العلم: (والناسُ ثلاثة: فعالمٌ رباني، ومتعلمٌ على سبيلِ نجاة، وهمجٌ رعاع، أتباعُ كلِّ ناعق لم يستضيئوا بنورِ العلم، ولم يلجئُوا إلى ركنٍ وثيق).
سأل ابنُ وهب الإمام سفيان بن عيينة عن الإمعة فقال له: (الإمَّعةُ في الجاهليَّة: الذي يُدْعَى إلى الطَّعامِ فيذهبُ معه بغيرِه، وهو فيكم اليوم المحْقِبُ دينَه الرِّجال).
ويؤكدُ هذا المعنى صاحبُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ابنُ مسعود فيقول: (لا يكوننَّ أحدكم إمَّعة، قيل: وما الإمَّعة؟ قال: الذي يقول: أنا معَ النَّاس؛ إنَّه لا أسوةَ في الشَّر).
قالَ ابنُ القيمِ رحمه الله: (وكانُوا يسمون – أيْ: الصحابةُ والتابعون- المقلدُ الإمعةُ ومحقبُ دينِه.. وكانُوا يسمونه الأعمى الذي لا بصيرةَ له، ويسمون المقلدين، أتباعَ كلِّ ناعق، يميلونَ معَ كلِّ صائح).
وهذا الاتفاقُ منَ السلف، على التحذيرِ منْ "الإمعة"يدلُ على شدةِ فشوِّه في الناس، كمَا يدلُ على عظمِ خطرِه وجليلِ بوائقِه.
يَسِيرُ خَلْفَ مِذحَجٍ ... وَخَـــــلْفَ قومٍ صَعْصَعَة
لَوْ يُفْسِدُ الأقْوَامُ أوْ ... يَبْقُونَ وَسْطَ الصَّوْمَعَة
فَإِنَّهُ وَرَاءَهـُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ... مُهَرْوِلًا مَـــــــــــــا أَسْـــــرَعَه!
الخطبة الثانية
أمَّا بعد: عباد الله!
إن الأكثريةَ ليستْ معيارًا للحق، ولا أمارةً للنجاة، يقولُ الفضيلُ بن عياضٍ رحمَه الله: (اتَّبعْ طريقَ الهدى، ولا يضرُّك قلَّةُ السَّالكين، وإيَّاكَ وطرقَ الضَّلالة، ولا تغتـرَّ بكثرةِ الهالكين). ولكنه مكيدةُ الشيطان التي ابتكرَها لهذه الأمةِ فخلطَ عليهمُ الأمور: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾.
ولهذا كان العلمُ أهمُّ ما يحصنُ المرءَ عن هذا الداء، كمَا نقرأُ في وصايا السلفِ رحمَهم اللهُ تعالى فعنْ ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه قال: (اغْدُ عالمًا، أو متعلِّمًا، ولا تَغْدُ إمَّعةً فيمَا بينَ ذلك).
ولقد كان رسولُ العالمين، سيدًا في ثباتِه، أمامَ ترهيبِ المشركين، وترغيبِهم بمقولتِه التي خلدَها التاريخ: (يا عم، واللهِ لوْ وضعُوا الشمسَ في يمينِي، والقمرَ في يسارِي علَى أنْ أتركَ هذا الأمرَ حتى يظهرَه الله، أو أهلكَ فيه، ما تركتُه!).
إنه الثباتُ لا الاهتزاز، والرسوخُ لا التذبذب، وهو طوقُ النجاةِ في طوفانِ التبعية، التي بُلِيَتْ بها الأمةُ في أزمانِنا.
ومنْ طوقِ النجاة من هذه الفتنةِ أيضًا، التعلقُ بالله، حتى يكونَ رضا اللهِ هوَ المقدم، فيلتمسُ المرءُ رضا الله على سخطِ الناس، كما فعلَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، فإنَّه صدعَ بكلمتِه القويةِ عندمَا رأى منْ عمِّه خنوعًا واستسلامًا، مقتفيًا خطى أخيه الكليم، موسى عليه السلام حينَ صدعَ في قومه: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)﴾.
وإنَّ ممَّا ينجي المرءَ من هذا الطوفان، تصحيحُ المفاهيم، لاسيَّما مفهومُ الجماعة، فلقدْ غشيَه عندَ كثيرٍ من الناسِ حُجُبٌ، فكانَ تنقيحُه لزامًا، وللهِ درُّ ابنِ مسعودٍ حينَ قالَ هذه القولةَ الخالدة: (الجماعةُ ما وافقَ الحق؛ ولوْ كنتَ وحدَك).
قالَ ابنُ القيمِ رحمَه الله: (اعلمْ أنَّ الإجماع، والحجة، والسوادَ الأعظم، هوَ العالمُ صاحبُ الحق، وإنْ كانَ وحدَه، وإنْ خالفَه أهلُ الأرض)، وقال نُعيمُ بنُ حماد: (إذا فسدتِ الجماعة، فعليكَ بمَا كانتْ عليه الجماعة، قبلَ أنْ تفسد، وإنْ كنتَ وحدَك، فإنكَ أنتَ الجماعة) ذكرَها البيهقيُّ وغيره.
وقد شذَّ الناسُ كلُّهم في زمنِ الإمامِ أحمدَ بن حنبل إلا نفرًا يسيرًا؛ فكانُوا همُ الجماعة.
وبعدُ عبادَ الله، فإنَّ من سبلِ النجاةِ منْ هذا الداء: هوَ النظرُ في تراجمِ الأعلامِ الأثبات، وتأملُ أحوالِهِم، وكيفَ كانتِ العاقبةُ لهم، فإنَّ هذا واقٍ بإذنِ اللهِ للعبدِ من الغرقِ في طوفانِ الإمعة، ولا أجلَّ وأعظمَ من سيرِ الأنبياءِ والمصلحين، ولا أعظمَ منْ سيرةِ سيدِهم نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، الذي ارتضاه اللهُ تباركَ وتعالى لنا قدوةً حسنة، فقالَ في محكمِ تنزيلِه: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾.
اللهم جنِّبنَا الفتنَ مَا ظهرَ منهَا ومَا بطَن.. واعصمنَا منَ الشرور..
المرفقات
الشخصية
الشخصية
الشخصية-2
الشخصية-2